المقالات

اللغة لسان العالم:بحث في العلاقات البشرية(عبد العزيز بومسهولي)_2_

إذن، إذا كانت اللغة عينها، ليست منبنية إلا كعلاقة، فإن ماهيتها ليست شيئا آخر سوى العلاقة. ومن ثمة فهي لا ترعى الوجود بما هو وجود فقط، أي بما هو تجريد أقصى لكينونة الوجود، بل ترعاه بما هو وجود في علاقة بالكينونة في العالم من خلال النداء. وهكذا فإن اللغة هي التي تعبر، من خلالنا، عن الوجود الجوهر، ليس بما هو جوهر يؤسس وجوده ماهيته، أي بما هو علة ذاته، بل لانكشافه في صلب علاقته بالموجودات بغير ذواتها، أي الموجودات التي يتعلق وجودها بالوجود عينه،وبموجودات أخرى باعتبارها هي أيضا جواهر فردية بلغة أرسطو وديكارت و لايبنتز. إن عملية تحديد ماهية اللغة وجوهرها – كما يرى هيدغر- هو ” أمر محكوم دائما بسلطة الفكرة السائدة والمبلورة مسبقا حول ماهية “الوجود” وجوهره، وعن مفهوم الماهية بذاتها. ولكن “الماهية” و”الوجود” كلاهما يتم التعبير عنهما من خلال وسط اللغة وفضائها. هنا لا بد أن نتحدث عن هذه العلاقة، لأننا نبحث عن حقيقة كلمة “الوجود”.وقبل ذلك فإن اللغة عينها، “يمكن اعتبارها كموجود، كما هو شأن أي موجود آخر يمكن الوصول إليه ويحدد من خلال طريق واضح لا لبس فيه…وهذا يعتمد على نوعية النظرة الأساسية للوجود التي تقود خطواتنا في هذا العالم”. ولهذا يكمن هدف هذا المسعى في ” توضيح وتسليط الضوء على ماهية “الوجود” وجوهره في العلاقة مع التفاصيل المعقدة مع ماهية اللغة وجوهرها”. وفق هذا المنظور تكون اللغة مسكنا للوجود، لأنها هي التي تمسك بالعلاقات بين الموجود والموجود من جهة، وبين الموجود وآخره، وبين كل ذلك وبين حكاية الوجود، فلا شيء يحدث إلا باللغة، ولا لغة تحكي حدثا إلا في وبالعلاقة. وهذا معناه “أن اللغة هي التي تحكي وليس الإنسان، إذ الإنسان لا يحكي إلا بقدر ما يستجيب للغة على قاعدة ما يظهر. والواقع أن هذه الاستجابة هي الطريق المخصوصة التي بها يتخذ الإنسان موقعه في إشراقة الوجود”.

إذن ليست اللغة إلا الانكشاف الأنطولوجي للعلاقة، السابق على كل علاقة  أونطيقيةontique تنتسب لموضوعات العالم. بعبارة أدق من غير علاقة ليس ثمة بنية تنتظم داخلها الأشياء باعتبارها دالات أو دوال، ومن غير دوال ليس ثمة دلالات ولا معاني، إذ المعاني لا توجد في الطريق كما يزعم الجاحظ، وإنما هناك طريق ترشد للمعاني، حيث ينشأ الفهم وتنكشف التأويلات. وأخيرا، من غير بنية علائقية، ليس ثمة لغة ما عدا السديم. وفي السديم تنعدم العلاقة مطلقا، وبالتالي تغدو اللغة غير ممكنة إطلاقا، ويستحيل التوجه نحو الكلام ليس باعتباره انكشافا للعلاقة كأساس، بل باعتبارهناشئا بدوره عن علاقة أنطولوجية في اللغة عينها، باعتبارها “مسكن الكينونة” بالمفهوم الهيدغري، أي أن الكلام ليس مجرد مفهوم أداتي يحيل إلى التواصل بين أطراف تتبادل الكلام وحسب، وإنما هو كذلك مؤسس ومرشد لكل علاقة تنتج في مسكن الكينونة. وليس الكلام، كما يقول هيدغر، شيئا ما- في بنية اللغة أو العلاقة- بوصفه مقولا لإطار العالم فقط، والذي تنعقد فيه علاقاتنا بصفتنا متكلمين ببعضنا الآخر، بالمعنى القائم ما بين الكائن الإنساني والكلام، بل إن ” الكلام بوصفه مقولا ينتهج الطريق نحو العالم، هو رابطة كل الروابط. إنه ينقل، يجمع معا، يقيم العلاقات، يسعى إلى إثراء أوجه اللقاء بين البشر في ربوع العالم، إنه يصونهم ويرعاهم رغم أنه هو عينه يحتفظ بذاته”.أي أن الكلام وهو يسن الطريق نحو إطار العالم، ويؤلف بين الجميع عبر المواجهة بين البعض والبعض الآخر، فإنما يحقق القرابة la proximité باعتبارها مقاربةapproche، لأنها تقرب “البعض لأجل الآخرين، كمتقابلين،  في الجهات الأربع للعالم: الأرض والسماء، الإله والبشر”. ومعناه أن منبع اللغة عينها، إنما يقوم في هذا التقابل حيث تتفاعل جهات العالم من خلال الكلام. إذ أن اللغة كما يقول “هيدغر” تبقى مرتبطة بالتكلم البشري ارتباطا لا ريب فيه، لكن ما هو نوع هذا الرباط؟ من أين وكيف يسود ما يقوم فيه بالربط؟ تحتاج اللغة إلى التكلم البشري، ومع ذلك فهي ليست صنيعة لمجرد فاعلية تكلمنا، أين يقوم، أي أين يتأسس حدوث اللغة؟”إنه  يتأسس في اللغة عينها، بما هي القولة حيث يحدث شيء من قبيل الطريق الذي يوصل، والقولة هي ما يوصلنا، إذا ما أنصتنا إليها، إلى تكلم اللغة. أي أن الطريق إلى التكلم  يحدث في اللغة ذاتها من حيث هي القولة باعتبارها إبانة تقوم في الخصوصية باعتبارها هي ” القانون من حيث إنها تجمع في خصوصها الفانين في ماهيتهم وتحافظ عليهم فيها”. إن اللغة باعتبارها راعي الحضور، هي بيت الكون لأنها من حيث هي القولة لحن الخصوصية. يتعلق الأمر في الخصوصية،”بتغير يمس علاقاتنا باللغة، وهذه العلاقة تتحدد تبعا للقدر الذي بمقتضاه يتحدد هل وكيف يتم الاحتفاظ بنا من قبل حدوث اللغة كخبر أصلي عن الخصوصية في هذه الأخيرة، وذلك أن الخصوصية في خصها وحفظها وتحفظها هي علاقة كل العلاقات”.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق