المقالات

علم الدّلالة الجيوسياسيّ(دراسة حيويّة في العوامل المؤثّرة في توجيه الشّعوب وقيادتها(مهنّا بلال الرّشيد)_2_

  • الجغرافية السّياسيّة Political geography:

كذلك رفدت الجغرافية السّياسيّة علمَ الدّلالة الجيوسياسيّ بقواعد منهجيّة ونظريّات دلاليّة توازي معلومات فقه اللّغة المقارن في أهمّيّتها؛ لذلك صار علم الدّلالة العامّ علمًا شموليًّا؛ وغدا التّخصّص فيه أو في أحد فروعه_كعلم الدّلالة الجيوسياسّي_هدفًا لدى كثير من طلّاب الدّراسات العليا والمختصّين في الدّلاليّات والسّيميائيّات واللّسانيّات، ناهيك عن رجال السّياسة والقانون والقضاة والقادة العسكريّين؛ نظرًا  لشموليّة هذا العلم ودقّة منهجيّته وتعدّد نظريّاته الدّلاليّة، الّتي تُسهّل لهم أعمالهم، وتساعدهم في مهامهم، ويجب ألّا نغفل أنّ الجغرافية السّياسيّة بوصفها مصدرًا من مصادر علم الدّلالة الجيوسياسيّ تقدّم معلومات مهمّة للغاية، ترتبط بالزّمان والمكان ومصادر الطّاقة في بيئة ما، فقد عُرِّفت الجغرافية السّياسيّةPolitical geography بأنّها: “العلم الّذي يختصّ بدراسة الأقاليم والوحدات السّياسيّة. ويركّز في هذه الدّراسة على مقدار ما تسهم به العوامل الجغرافيّة ومعطياتها الطّبيعيّة والبشريّة في قيمة الدّولة وفي اتّجاهات السّلوك السّياسيّ وأسلوبه؛ حيث تبيّن أنّ عوامل الجغرافية تلعب دورًا لا يمكن تجاهله في تشكيل الكيان السّياسيّ للدّول”[1].

يُعرَّف علم السّياسةPolitical Science أو فنّ السّياسة بأنّه “علم بأصول يُعرف بها أنواع الرّياسات والسّيادات المدنيّة وأحوالها. وفائدته: معرفة السّياسات المدنيّة الفاصلة بين الخصوم والإنصاف بينهم”[2]، ويوضّح هذا التّعريف شموليّة علم الدّلالة الجيوسياسيّ وحيويّته النّاتجة عن تعدّد أصوله ومصادره، الّتي تمكّنه من تفسير أيّ نصّ من نصوص اللّغة أو التّاريخ أو الجغرافية السّياسيّة Political geography نظرًا لارتباط دلالات تلك النّصوص بشروط السّيطرة على المجال الحيويّ بوصفه مسرح الأحداث التّاريخيّة، وحين نظّم علم الدّلالة الجيوسياسيّ نظريّاته ومصادره المعرفيّة المتعدّدة في دائرة منهجيّة واحدة تحوّل كثير من المعلومات القديمة السّاكنة إلى معارف حيويّة؛ فقد صار كثير من نظريّات الجغرافية السّياسيّة_كنظريّة قلب الأرض على سبيل المثال_نظريّات حيويّة؛ ولذلك مكّن علم الدّلالة الجيوسياسيّ الدّارسين من تفسير ما يطرأ على العالم “من تبدّلات وتقدير النّتائج المترتّبة على تدخّل الإنسان بالتّوازنات القائمة والتّطوّرات الّتي قد تُحدثها”[3]، وتأكّد أنّ كلًّا من فهم العالم وقيادته وتوجيهه يحتاج إلى علم غزير مع حسن المنطق وقوّة الفصاحة، وإدراك تأثير العوامل المتعدّدة في توجيه الشّعوب وقيادتها؛ ومن هنا تبرز أهمّيّة علم الدّلالة الجيوسياسيّ بوصفه علمًا شموليًّا حديثًا ذا منهجيّة واضحة ودقيقة في تفسير سيرورة التّاريخ[4].

اتّجهت أوروبّا في بداية نهضتها الحديثة نحو العلوم الشّموليّة؛ نظرًا لدور تلك العلوم في تفسير سيرورة التّاريخ، ولعلّ فقه اللّغة المقارن والجغرافية السّياسيّة يأتيان في مقدّمة العلوم الّتي اهتمّ بها الأوروبيّون خصوصًا، بعدما أدركوا أهمّيّة هذين العلمين في نقاشاتهم الفلسفيّة والدّينيّة والدّلاليّة والبلاغيّة الطّويلة. وكذلك استعانوا بتلك العلوم في تحليل الأدلّة الأثريّة (Archeology) وقراءة اللّغات القديمة أو ترجمتها وتأويلها حين تمدّدت دولهم في دول حضارات الشّرق القديم خلال آخر مئة وخمسين سنة من ضعف الدّولة العثمانيّة بين 1765-1915.م ؛ ولا سيّما أنّ معظمهم كانوا من المشغوفين بالبحث عن أصول عريقة؛ (عرقيّة ولغويّة ودينيّة) ينافسون بها أصول السّاميّين في مشرقهم، ثمّ تركّست أهمّيّة العلوم الشّموليّة حين وجد علماء أوروبّا ما يروي شغفهم في آلاف المدوّنات الشّرقيّة الدّفينة في تلال الممالك القديمة الممتدّة من أهرامات مصر الفرعونيّة إلى تلال الممالك السّوريّة في ماري وإيبلا وأوغاريت (رأس شمرا)، وعثروا على آلاف الوثائق الدّلاليّة حول العلوم والفنون والآداب في سهول العراق الممتدّة من (أُور) جنوبًا إلى ما بعد أكاد وآشور وبرج بابل وتلالها شمالًا؛ فتبلور علم الدّلالة الحديث، وراحت تتبدّى ملامح اتسّاع علم الدّلالة العامّ، وتتكشّف أَمَارات انقسامه إلى علوم دلاليّة متعدّدة؛ أحدَثُها علم الدّلالة الجيوسياسيّ الّذي نتحدّث عنه.

ساعد علم الدّلالة العامّ فلاسفة أوروبّا على تأويل كثير من مدوّنات زرادشت في كتاب (الزّند أفسته) ومدوّنات أناشيد الفيدا السّنسكريتيّة في الهند، وبعدما وضع وليام جونز في وثيقته الشّهيرة إطارًا تنظيميًّا لجهودهم الدّلاليّة راحوا يتحدّثون عن الأبعاد الآريّة: (الدّينيّة واللّغويّة والعرقيّة والقوميّة…) الّتي ينطوي عليها مصطلح (الهندو_أوربّي)؛ فظهرت بذور علم الدّلالة الجيوسياسيّ، وتلقّف الفلاسفة وعلماء فقه اللّغة المقارن في ألمانيا وثيقة وليام جونز حول الأصول الهندو_أوروبيّة بشغف، وأظهرت العقليّة الجرمانيّة المذهبيّة مادّيّتها وأسطوريّتها الدّينيّة المنشودة في الوقت الّذي كان فيه فريدريك راتزل(Friedrich Ratsel 1844-1904.م) يسعى “إلى بناء مذهبه كأسلوب للعمل السّياسيّ القوميّ؛ ومن هنا نشأت نظريّة المجال الحيويّ العزيز على النّازيّة”[5]، وأكمل كلّ من يوهان جوتفرد هردر (1744-1803.م) وأغسطس لودفيك فون شلوزر (1735-1809.م) رؤية وليام جونز التّوراتيّة حول الأصول الهندو_أوروبيّة بإطلاق مصطلح اللّغات السّاميّة على اللّغات الشّرقيّة القديمة: (الأكديّة والآراميّة والعبريّة والسّريانيّة والعربيّة) بالاستناد إلى رؤية دينيّة توراتيّة حول أبناء نوح عليه السّلام: حام وسام ويافث، ثمّ تكرّست بعد ذلك نظريّات أخرى متعدّدة؛ قوميّة وعرقيّة، لا يخلو بعضها أو كثير منها من عنصريّة مقيتة، وراح أصحابها يتحدّثون_في موازاة نظريّتي: العناية الإلهيّة وشعب الله المختار العبريّتين_عن فروق عرقيّة بين الأقوام، واستعدادات فطريّة لدى بعض الشّعوب؛ بتأثير مباشر لمجموعة من العوامل الجيوسياسيّة؛ تأتي في مقدّمتها الجغرافية السّياسيّة والرّؤية الدّينيّة التّوراتيّة[6].

ولعلّ وطننا العربيّ الحديث تعرّض لكثير من آثار تلك العصبيّة المقيتة، ولا سيّما بعد أن كرّس إسرائيل ولفنسون Israel Wolfensohn من خلال كتابه: (تاريخ اللّغات السّاميّة) كثيرًا من الآراء العنصريّةلدى الفلاسفة الألمان وعلماء الدّلالة الأوروبّيّين المستندين إلى وثيقة وليام جونز ورؤيته التّوراتيّة،وقد استغلّ ولفنسونموقعه أستاذًا للآداب الشّرقيّة واللّغات السّاميّة في دار العلوم والجامعة المصريّة في مطلع القرن العشرين، وأسهم في تجيير علم الدّلالة الجيوسياسيّ وأهدافه العلميّة والإنسانيّة الحقّة لصالح أغراض نفعيّة مكيافيليّة؛ ولا سيّما حين أسهب في الحديث عن عراقة الكنعانيّين دون سواهم، وحاول تكريس نظريّتي: العناية الإلهيّة وشعب الله المختار[7].

وقد نقل نفر كبير من الباحثين والمؤلّفين العرب في مجال اللّغات الشّرقيّة وفقه اللّغة المقارن كثيرًا من آراء ولفنسون بوصفها مُسَلَّمات أو بديهات لا تقبل النّقاش أو التّفنيد، وبرغم أنّه لا ضير في التّقسيم النّظريّ ذاته، ولا سيّما إذا كان هذا التّقسيم لغايات دراسيّة أو تعليميّة، إلّا أنّ الدّراسة الجيوسياسيّة للعالم العربيّ تكشف عن التّأثير السّلبيّ لتلك التّقسيمات السّالفة في واقعنا المعاصر، وتؤكّد ما تحتوي عليه آراء ولفنسون من تعصّبٍ لأعراق محدّدة وعنصريّة تجاه شعوب وأقوام أخرى؛ ولعلّ كثيرًا من جوانب تلك العنصريّة وتفريعات ذلك التّعصّب يتقاطع مع رؤية راتزل العنصريّة، الّتي تسهب أو تتمادى في الحديث عن أثر الحيّز الحيويّ في طبائع الشّعوب ودوره الكبير في تكوين الإنسان وتحديد “قابليّة الشّعوب وقدرتها على التّأثير في الطّبيعة وتنظيمها وإصلاحها. وهذا يعني أنّ مؤهّلات الشّعوب للتّنظيم والقيادة تتفاوت فيما بينها؛ أي قدرتها على حكم نفسها أو فرضها السّلطة على الآخرين تختلف من شعب لآخر. كما يمكن لهذه الملَكات أن تذبل وتختفي نهائيًّا، ويمكن أيضًا أن تغرس وتنمّى: وهكذا نستطيع أن نتلمّس في هذه النّظريّة شيئًا من الرّوح العنصريّة أو التّفوّق العنصريّ”[8]. وحين امتلك الأوروبّيّون القوّة الاستعماريّة والتّفوّق تجلّت مسألة التّمييز العنصريّ بين أمّة وأخرى أو إنسان وآخر؛ لذلك يحظى مفهوم الإنسان بأهمّيّة مركزيّة في علم الدّلالة الجيوسياسيّ؛ لأنّ الإنسان منتِج العلوم والفنون ومتلقّيها والمستفيد منها وصانع تاريخ البشريّة ومفسّره ومؤوّله.


[1]– محمّد، محمّد حجازيّ، الجغرافية السّياسيّة، القاهرة 1996.م، طبعة دون تصنيف (د.ت)، ص 8.

[2]– أحمد، عبد الله نذير، خزانة العلوم في تصنيف العلوم الإسلاميّة ومصادرها (شرح رسالة اللّؤلؤ النّظيم في رَوْم التّعلّم والتّعليم لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريّا الأنصاريّ)، دار البشائر الإسلاميّة، طبعة بدون تاريخ، ص 119.

[3]– سليرييه، الأميرال بيير، الجغرافية السّياسيّة والجغرافيّة السّتراتيجيّة، ترجمة: أحمد عبد الكريم، الأهالي للنّشر والتّوزيع، ط1، دمشق 1988م، ص 9.

[4]– يُنظَر: الصّلّابيّ، عليّ محمّد محمّد، السّيرة النّبويّة (عرض وقائع وتحليل أحداث، دروس وعبر)، منشورات دار ابن كثير، ط 9، دمشق 2019.م، ج2، ص 351-353. ويُنظَر: الجغرافية السّياسيّة والجغرافيّة السّتراتيجيّة، من مقدّمة المترجم، ص 5.

[5]الجغرافية السّياسيّة والجغرافيّة السّتراتيجيّة، ص 22.

[6]– يُنظر: لغات الفِرْدَوس، (آريّون وساميّون: ثنائيّة العناية الإلهيّة)، ص 110-117.

[7] – يُنظر: ولفنسون، إسرائيل، تاريخ اللّغات السّاميّة، منشورات لجنة التّأليف والتّرجمة والنّشر ومطبعة الاعتماد، ط1، القاهرة 1929، ص 23-26

[8]الجغرافية السّياسيّة والجغرافيّة السّتراتيجيّة، ص 23.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق