المقالات

كورونا ومأزق الأنصاف (إدريس مقبول)

في كل من حقلي الدين والعلم هناك متعلمون وأنصاف متعلمين، والخطورة لا تأتي إلا من الأنصاف _ ولو أشهروا الشهادات الورقية _ لأنهم يتصرفون باستعلاء أصم “متحذلقون” بعبارة أفلاطون، يعممون الأوهام على أنها حقائق ويفهمون العالم من حولهم بمنطق بدائي بسيط؛ منطق الأبيض أو الأسود، ينسون أن الطبيعة فيها أكثر من لون، فيضيق نظر هؤلاء في حلال أو حرام، ويضيق نظر أولئك في مرئي وغير مرئي، والحال أن مجاري الحكم كما يقول الأصوليون في الدين أوسع من القسمين، وأن اختزال العالم بمنظور وضعاني في مرئي موجود و لامرئي معدوم سخافة كما يقرر ميرلوبونتي في كتابيه “العين والعقل” و”المرئي واللامرئي”.. إننا لا نرى كل شيء هذه هي الحقيقة… ولهذا  كان الاتجاه المادي الحسي “المتعملق” مجانبا للصواب في تشويه العالم وتقليص فرص التأمل الفلسفي للموضوعات.

إن الأنصاف من الفريقين في الواقع “منتحلون للصناعة” بعبارة ابن خلدون، ويسيؤون للناس وللموضوعات بسبب تنكبهم  طريق الدين الحق وطريق العلم الحق وما من شيء يمسخ الدين ويمسخ العلم معا على حد تعبير الأستاذ العقاد، “كما يمسخها هذا الخلق الذميم، فإن الدين لا يُعَلم الإنسان شيئا إن لم يُعَلمه حب الصدق واجتناب التمحل والافتراء، وإن العلم شر من الجهل إن كان يسوم الإنسان أن يغمض عينيه لكيلا يرى ويوصد أذنيه لكيلا يسمع، فليس هذا جهلا يزول بكشف الحقيقة، ولكنه مرض يتعمد حجب الحقيقة عن صاحبه وهي مكشوفة لديه، فهو شر من الجهل بلا مراء”.

         ومن حظنا العاثر أننا اليوم مصابون بجائحتين؛ جائحة  كورونا وهذه أخف في الميزان، وجائحة الكائنات النصفية وهذه أثقل الجوائح وأفتكها..

         كلا الفريقين مشغول بأسئلة مغلوطة، لأن كل واحد منهما في الواقع يقتات بريع ما يشغل به الجمهور ويلهيه عن أداء دوره على صعيدين : تقويم سلوكه أولا حتى لا يكون “كائنا مؤذيا” لنفسه ولغيره، وتقويم أداء المؤسسات وسياسة الدولة في العموم، إذ في الوقت الذي يجب أن توجه سهام النظر والنقد لنمط الوعي المريض والتربية القطيعية ولدور النموذج التنموي للدولة في تكريس التخلف والتبعية والتراجع الرهيب في سلم التعليم والصحة والشفافية وحقوق الإنسان عالميا، يخوض الفريقان مبارزات الديكة..وليس يكاد التعجب ينقضي ممن يتركون مصدر تخلفنا؛ أعني الاستبداد الذي أفسد الدين والعلم على حد سواء، ويشغلون الجمهور بمعارك الوهم.

أنصاف المتعلمين في حقل الدين (وأكثرهم وعاظ وخطباء، وللأسف لا يميز الناس بين خطيب وعالم، ومن طريق هؤلاء الوعاظ والخطباء دخلت طوام الموضوعات والأحاديث الباطلة عبر التاريخ إلى ثقافة الناس) أنصاف المتعلمين من هذا الفريق ناشطون عند الأزمات في تفزيع الناس وبث الرعب ومشاعر اليأس في نفوسهم بأحاديث وأخبار واهية أكثرها لا يصح، لا تقدم سوى وجه غضوب مكفهر للدين، يزرع في الناس الخوف ويشل كل طاقة وقدرة فيهم على الإدراك والمقاومة، والحال أن البشرية محتاجة في لحظاتها العصيبة لمن يبعث فيها خطاب الدين التذكيري المتنور الذي يحمل الأمل والبشارة والرجاء في الله ورحمته التي وسعت كل شيء، وقد وسعت الكافر والمؤمن.. وليس أقوى من “الإيمان” في المساعدة على رفع مناعة الإنسان في مواجهة صدمات الحياة وانكساراتها.. فإلى جانب الأدوية الموصوفة يعمل الإيمان على التقليل من إفراز هرمونات التوتر والضغط، ويجعل الإنسان أكثر تقبلا لأوضاعه ورضا بأحواله ومشكلاته، ولا شك أن له دورا في تغيير كيمياء الدماغ البشري في اتجاه الشعور بالطمأنينة والسلام والتخفيف من حدة ما يعانيه من الآلام النفسية والجسدية وهو أمر يعرفه علماء نفس الألم والمختصون في الطب التكاملي.

هذه المعطيات لا تستسيغها حويصلة فريق من المتكلمين باسم العلم وممن يخاصمون الدين في كل حين وبلا مناسبة(والواقع أن هذا الفريق لا صلة له بالعلم إلا من جهة الانتحال، وأكثرهم يلقي بالحجارة من وراء أسوار الادعاء والتشغيب الفلسفي كما تكلم عنهم أفلاطون في الكتاب السادس من الجمهورية)، صار تخصصهم إحياء صراعات سوداء باسم العلم، صراعات من القرون الوسطى تضع العلم وجها لوجه مع الإيمان، وتحيي تقابلا حديا بين العلماء والمؤمنين، وكأن كل عالم مشروط أن يكون ملحدا، وأن كل مؤمن مكتوب عليه أن يكون جاهلا معاديا للعلم، والحال أن بلداننا الإسلامية فيها فائض من الكفاءات العلمية بالمقاييس العالمية لكن ما ينقصها هو غياب سياسات لتشجيع البحث العلمي ورعايته، و الاستبداد كما تعرفون عدو للعلم كما كتب الكواكبي في الطبائع، ولهذا فما ينقص بلداننا ليس علماء أكفاء، وإنما حاكمين راشدين، يستثمرون في طاقاتها بدل أن ينهبوها، يستثمرون في عقول هذه الأمة وفي المادة الرمادية بدلا من تضييع الثروات على نزواتهم وفي التفاهات والمواسم والمهرجانات المتلاحقة في الوقت الذي يعاني فيه قطاع الصحة والبحث العلمي من شح في الموارد والإمكانيات تجعل من الكلام عليه عندنا تراجيديا سوداء.

الكائنات النصفية في الحقلين مشغولة بأسئلتها المغلوطة، ولم تفهم لحد الساعة أنه لا تعارض بين الدين والعلم إلا في الأذهان الكليلة، كما لم تفهم أن لكل حدوده ووظائفه، وأن البشرية محتاجة لهما معا، وأن أحدهما لا يقوم مقام الآخر، وأنه لا توزان لوجودنا كبشر ولا سلام ولا صحة إلا بتكاملهما وقيام كل واحد بوظيفته، لأن كل واحد منهما جاء للجواب عن أسئلة مختلفة للكائن البشري، والحاجة ملحة لهما معا. ولسنا ندري كيف نبتت هذه العداوة في عقول بعضهم كما ينبت النبات الشوكي في شقوق الأحجار، والحال أن فن الطب هو من العلوم النبيلة في نظر الدين، ويكفي أن الشافعي الذي وضع أصول الفقه لتنظيم اشتغال العقل المسلم قال: لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب.

 إن ما يجب أن يتضح في الأذهان هو أن الأديان لم تأت لتقدم لقاحا لفيروس أو دواء لمرض مزمن أو تصف للناس عقاقير لآلامهم الجسدية كما يحاجج بعض السطحيين ويتحدى في سفسطة سخيفة، وإنما وظيفتها تقديم لقاح ضد أمراض العدمية والإلحاد واللامعنى، اللقاح الذي جاءت الأديان لتقديمه للإنسان ليأخذه بإرادة وحرية دون إكراه أو غصب هو لقاح ضد الجهل بالله أو ضد القلق الذي تفرزه تجربة الحياة حين تكون بلا غاية، فحق الإنسان الأعظم كما يقول الإمام عبد السلام ياسين هو حقه أن يعرف خالقه ومآله بعد الموت، والحاجة ملحة “للمطلق” كما يقول أندري سبونفيل لأنه هو وحده الكفيل بمنع حياتنا من الوقوع في السيولة والتلاشي واللامعنى، وهو وحده الذي يمنحنا الإيمان بأن ثمة قيما مطلقة، ومركزية “المطلق” في هذا المنظور المركب  تدفع في اتجاه يتجاوز المنظورات الخطية والحدية.

المصل الذي يقدمه الدين هو مصل الأفق المملوء بالله ضد فزاعة الفراغ التي تستبعد الأبدية والخلود  الذي تمنحه الأديان، وتجعل تاريخ البشر خاليا من أي غاية أو معنى كما يقول فرنكل في “أزمة الإنسان الحديث”…مصل الأديان ضد عبودية البشر في أنظمة شمولية أبدية تسلب الناس كرامتهم وحقوقهم وضد عبوديات أخرى لا تنتهي تختزل وجودنا في “كائن مستهلك” او “كائن مضارب” أو “كائن منجمن” أو مجرد مادة استعمالية كما يقول المسيري؛.. تحاصرنا اليوم عبوديات بلا حصر.. عبودية السوق وعبودية الربح وعبودية الشهرة وعبودية الموضة وعبودية البورصة في أنظمة ليبرالية متوحشة لا تلقي بالا للإنسان المحتاج ولا لآلامه على حافات الجوع والمرض..

إن الإسلام الذي هو دين الله كما يقول الإمام ياسين، هو توجيه مِعياريٌّ يريد الإنسانَ أن يكون أخاً مواسيا للإنسان، لا زَبونا بارِدَ العاطفة صامِتَ الحساب، يقف إلى جانبه في لحظات الضعف، وينفتح على الإنسانية في سقوطها ولأوائها ليمد لها اليد والعون ويسارع للإسعاف وتقاسم مواد الحياة مع كل البشر، ويبشر بباب عريض مفتوح للأمل، إنه أمل عودة الطابع القدسي لهذه الحياة عبر مصالحة الذات الموجودة مع الوجود ومع خالق الوجود، أو لنقل بعبارة هيدغر عبر “عودة السحر لعالم فقد سحره ومعناه”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق