المقالات

عبد الكبير الخطيبي: المثقف الممتنع عن التصنيف(عبد السلام ديرار)_1_

– تـوطـئـة :

     أن يكتب المرء عن شاعر من عيار شكسبير أو بابلو نيرودا، أو ليوباردي، أو ألن بو أو المتنبي أو محمود درويش…أو غيرهم من الذين جعلوا شعرهم تقطيرا لوجودهم، مضمونٌ رفعه منسوب إحساس من حولهم، فهي مغامرة !. و أن يكتب عن روائي بحجم ميلان كونديرا أو غابرييل غارسيا ماركيز أو غوستاف لوكليزيو أو دوستويفسكي أو ماكسيم غورغي، أو أمبيرتو إكو…أو غيرهم من الروائيين الذين توقد أعمالهم خيال ، و تلهب إحساس و مخيال من حولهم، فهي مخاطرة !. و أن يكتب عن علماء اجتماع من طينة ماكس فيبر و جان بودريار و ريمون بودون و بيير بورديو و لوسيان غولدمان و بول  هنري شومباردولو و كولمان جيمس و إدغارد موران…، فهي و ورطة !. وأن يكتب عن فلاسفة زعزعوا استقرار يقينيات و مسلّمات، و أزاحوا أقنعة و غشاوات من حجم حنا أرندت و ميشيل فوكو  و جاك ديريدا و جيل دولوز و فيليكس غاتاري و نيتشه و هيدغر و فيدغينشتاين…، فهي مجازفة !. و أن يكتب عن أنتروبولوجيين بوزن كلود ليفي ستروس و مالينوفسكي و مارغريت ميد و كليفورد غيرتز… و غيرهم ممن فكّكوا الثقافات و اللغات و المعتقدات و المجتمعات، و كشفوا الاختلافات  و التنوعات، فهي مكابرة !. و أن تكتب عن سيميائيين من أمثال شارل ساندرز بيرس و دينيس برتراند و توماس سيبوك و ألخيرداس جوليان غرماس و رولان بارت…ممن غاصوا في مغاليق الرموز و العلامات و حياتها ضمن الحياة الاجتماعية، و تحويلها من حال “البكم” إلى حال “النطق” بدلالاتها ومعانيها و وظائفها و الرهانات حولها…،فهي مغامرة مضاعفة !.

    و نقصد ب”المغامرة” و “المخاطرة” و”الورطة”و “المجازفة” و “المكابرة” ، الإشارة إلى ما تقتضيه الكتابة حول  هؤلاء الكبار  من  زاد  ثقيل، ومن  تواضع  كبير، و شعور بالمسؤولية فادح، خوفا من الإساءة لأفكارهم و أعمالهم أو عدم إدراك مقاصدهم،أو(وهو الأفظع) جعلها مبتذلة، كحال الذي يلامس الذهب و يحيله ترابا !. أما أن يكتب المرء عن مغربي، أي بعيدا عن مراكز الفلسفة و العلم و الفنون أو الآداب في الزمن المعاصر، و بكل أثقال المغرب الخارج للتوّ من المرحلة الاستعمارية المباشرة، كما عايشه هذا المغربي، و يستحق اعتراف عمالقة متوجين باستحقاق، بمختلف الأصناف المعرفية السابقة، كما الحال بالنسبة للراحل الكبير عبد الكبير الخطيبي، فلا نملك غير الاعتراف بكوننا أمام موقف فيه الكثير من الرهبة و وابل روحانيات، و شيء من ارتباك، يفاقمه تداخل الفرح (بنيل شرف الكتابة عن “قديس”)، و الحزن(على عدم نيله ما يستحقه في حياته، و عدم انتباه المغاربة بعد، إلى إرثه)، و التمجيد و الغبط، و النشوة(بنيله اعتراف الآخرين) و الغضب العارم ( على تنكر كثير من “ذوي القربى” له). فهذا جاك ديريدا ، كواحد من أكبر و أشهر فلاسفة القرن العشرين، لا يتردد في القول أنه يعتبر الخطيبي واحدا من كبار الكتاب و الشعراء و المفكرين ضمن اللغة الفرنسية في زمننا…و أنه حريص على تأكيد أن عمله المعترف به بشكل واسع بالعالم الفرانكفوني، هو في نفس الوقت ابتكار شعري ضخم و تفكير نظري قوي…(1).

و هذا رولان بارت الناقد الأدبي و السيميولوجي و اللساني و الفيلسوف اللامع يكتب عن هذا الخطيبي تحت عنوان شديد الإرباك (بالنسبة لي أنا على الأقل”المتورط” في الكتابة عنه ) :  ” ما أدين به للخطيبي” (Ce que je dois à Khatibi)، و يقول: “الخطيبي و انا ، نهتم بنفس الأشياء، بالصور، بالرموز، بالآثار، بالحروف، بالعلامات، و في نفس الوقت ولأنه يحرك هذه الأشكال كما أراها، لأنه يجرّني بعيدا عن ذاتي، إلى إقليمه الخاص، كما  إلى نهاية  ذاتي،  فإن  الخطيبي  يعلمني شيئا جديدا يزعزع معرفتي”(2). ويقول كثيرون آخرون ما يشبه ما قاله ديريدا و بارت في حق الخطيبي، من أمثال الروائي و الناقد الأدبي و الفيلسوف موريس بلانشو، و أستاذ الأدب و المختص في الأدب الفرانكفوني غونتارمارك، و أشهر الموسوعات العالمية(3). و هو ما لن نفصله، لأنه مفصل في أعمال كثيرة، بلغات عديدة حوله أولا، و احتراما لروحه التي اختارت العمل بعيدا عن الأضواء ثانيا.

    فمن يكون عبد الكبير الخطيبي هذا؟ أي سيرة هذه التي أنتجته؟ ما هي أهم أفكاره و أعماله؟ ماذا عن التزاماته الأخلاقية و السياسية تجاه وطنه، و الإنسانية عموما(فهو اشتهر بعدم فصل حياته الفكرية عن الاهتمامات الكبرى و القضايا الشائكة للقرن العشرين و بداية الواحد والعشرين)؟. ثم ماهي محطاته النضالية، أو محطات “نزوله إلى الحدث” بلغة جيل دولوز، لأنه لم يكن أبدا من نمط المثقفين الذين ينتجون من “أبراج” ! بل من الذين “يرتطمون” بالواقع، مهما كان الثمن، و مهما تطلب ذلك من تضحيات.

   اـ عبد الكبير الخطيبي:الشخصية الفذة و السيرة الإشكالية:

أ- سيرة مركبة بالقياس إلى السياق و الزمن:

  جاء الطفل عبد الكبير الخطيبي إلى العالم يوم 11 فبراير من عام 1938 بالجديدة، أي بعد ستة و عشرين عاما من احتلال المغرب، بعد قرون من الضياع و التردي الشامل، الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الثقافي…و لنا في كتابات الرحالة و الأنتروبولوجيين و السوسيولوجيين الاستعماريين (بعد غربلتها) وصف لما كانت آلت إليه أحوال دكالة و الدكاليين، و المغاربة عموما من بؤس فظيع و تقهقر رهيب، فاقمها قدوم الغزاة، و صادف يوم ميلاده يوم الاحتفال بعيد الأضحى، و من تمّ اسمه الشخصي. كان الإبن الثاني لأسرة مكوّنة من ثلاثة أطفال و طفلتين، من أب متعلم من أصل فاسي ! ( ها هي ذي واحدة من مكونات تركيب شخصية الخطيبي)، اشتغل في البداية إماما لمسجد(مكوّن تركيب ثان)، ثم تحول إلى التجارة (مكوّن تركيب ثالث يضاعف أثر المكوّن الثاني !)، و اختار الاستقرار بالجديدة بعيدا من فاس. و اختار شريكة حياته واحدة من “بني هلال” ! أي دكالية (التركيب يتفاقم : فاسي متعلم، فقيه ثم تاجر، بكل “ثقافة” فاس، العاصمة القديمة ! و دكالية بكل تقاطيع “بني هلال” في تلك الفترة)… أما جده فكان “معلما” – جبّاصا (مكوّن تركيب إضافي كبير)، و هو ما سيستدعيه عبد الكبير الخطيبي في آخر رواية له “Pèlerinage d’un artiste amoureux” (4).     تابع الشاب عبد الكبير فصوله الدراسية الأولى  بمراكش  كتلميذ  داخلي (5)، (ها هو عنصر تركيب إضافي بارز في سيرته، فلمراكش خصوصياتها و” روحها “الخاصة!) (6)،قبل أن ينتقل في السنة النهائية لتعليمه الثانوي، إلى ثانوية ليوطي بالدار البيضاء حيث سيحصل على الباكالوريا ( ما زال التركيب يتفاقم، خصوصا بالقياس إلى حال معظم شبان جيله، الذين كانوا إلى غاية 1956 و ما بعدها، لم يغادروا – في الغالب- دواويرهم (أصغر وحدة اجتماعية- مجالية بالبادية المغربية) أو قراهم.

و في بداية الستينات، سينتقل عبد الكبير الشاب إلى باريس، و بالضبط إلى واحدة من الجامعات العالمية “الصاخبة” آنذاك، ألا وهي السوربون لمتابعة دراسته الجامعية بشعبة الفلسفة (ذروة تركيب شخصيته). و هناك سينخرط في الحركة الشيوعية المغربية للطلبة الملتفّين حول الاتحاد الوطني لطلبة المغرب(L’U.N.E.M.)(7) و سيبدأ الكتابة في صحيفة “المكافح” (8)، مما شكل علامات بارزة على إصراره و تصميمه الواضح على الانخراط في قضايا وطنه ( و هو تحت الاحتلال) و التزامه الأخلاقي و السياسي الذي سيظل يطبع مشواره، مفكرا و سوسيولوجيا و أديبا لامعا.

ب- عبد الكبير الخطيبي: الشخصية الفذة، العائد من باريس بكل” صخب” السوربون، و بدون “ضجيج” :

  عام 1964، كان عبد الكبير الخطيبي حصل على دكتوراه الدولة في السوسيولوجيا من جامعة السوربون، و عاد إلى المغرب بكل حماس و إرادة المشمّرين على سواعدهم و عقولهم ! للنهوض بالوطن الخارج للتو من مرحلة الاستعمار المباشر، فعُين أستاذا جامعيا بجامعة محمد الخامس بالرباط. و في سنة 1966 سيصبح مديرا لمعهد السوسيولوجيا، بالرباط دائما، هذا المعهد الناذر الذي كان يملك كل مؤهلات الوعد بالخير و الجميل للمغرب و المغاربة. و في سنة 1968 نشر عملا تحت عنوان “Le Roman Maghrébin” (9)، إيذانا بانطلاقة مختلفة لمشروع معرفي مختلف، لن يعرف التوقف، و لا نال منه التعب أو الصدمات ! على امتداد أربعة عقود، كانت حصيلتها هائلة و مدهشة كما سنفصل ذلك في مرحلة لاحقة من هذا العمل. مما جعل منه شخصية معرفية فذة، بارزة في المشهد الثقافي المغربي و المغاربي، و الأوسع منهما، لا بل و الأبعد من ذلك بكثير، إذ يوصف بكونه ساهم في الانتقال من “فرنسية” كانت فرنسا منارتها بدون منازع ، إلى فرنسية متعددة حسب المجالات و الوضعيات، و بكونه لم يدع “سالما” اي صنف من أصناف الكتابة، لم يفعل داخله، كما بكونه سار على درب تطوير إبستيميّة هجينة (مركبة/أصيلة)، مُستجدة بالنسبة للمغرب، و لكنها تمتد إلى ما بعد المغرب، إلى الثقافة الإنسانية ككل، كما سنفصل ذلك في تحليلنا لأهم أفكاره و مشروعه الإصلاحي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق