المقالات

تفاعلات استراتيجية دولية: التنازع القيمي مدخلا للواحدية الحضارية. (عادل بن ايدامو)

من الحِكم أن “ليس من المهم ما تعرفه بل ما تفكر فيه”، فما نعرفه دراسة وجَهد،
وما نفكر فيه تأمل على أرض البحث وجلَد الدراسة. وما دام عالمنا “إنسانية سرية” بتعبير
الفيلسوف ليوتولستوي، تحيك المشهد الدولي من خلف ستار، فإننا ننسج ثلاثية للتفكير
التأملي Reflective Thinking لاعتبار المفكر فيه إنما يتم في عالم متغير غير مستقر،
لم يتشكل بعد ظاهرة ولن يتجاوز في القريب مجرد العتَبة.
وثلاثية التأمل: سؤال وحدس واستشراف.
إن السؤال من ضروب الجهل، بخاصة في عالم متفلت غير مستقر. ومقتضى
السؤال هو الجهل بالمآل. فما دامت ميادين التفاعل الدولي مرآة للابتلاع الرأسمالي للبشرية
من قَبْل وجودها المستلب بتعبير زيجمونت باومان في سلسلة السيولة، ومادامت هذه المرآة
على حائط عولمي واحدي يلتهم البيئة الضامنة وجوده بتعبير روزا لسمبورغ في كتابها
تراكم رأس المال، فإن السؤال في واقع اللاأمن واللاستقرار العالمي سؤال الوجَل من
الاغتراب الوجودي، في حالة وضعانية تقسم العالم إلى سخافة المرئي الموجود واللامرئي
المعدوم وفقا لموريس ميرلوبونتي، وتترجم حالة طوارئ مقلقة لموازين قوى تتشكل
باستمرار.
ومقتضى الحدس في معرض الجهل بالعتَبة غياب القدرة على التحليل فضلا عن
الاستشراف بكل مناهج التفكير وطرائق التدبير، فكان لزاما بتعبير إدغار موران مغادرة
العقلانية السقيمة التي تلقي الحدث بالسخف والعارض بالابتذال.
ولغاية الاستشراف نتجاوز مقالة العارض الذي لا يعرض له كما عند ابن خلدون في
مقدمته، باعتباره لا يعبر عن أصالة الخبر، ولا يشكل مناط صحة الحدث أو زيفه، لنقول
في المقابل بضرورة التأمل المنهجي باعتباره المتاح للإحاطة بما استجد طارئا، واستشراف
لما استحدث عارضا، واعتراض للعارض مع ما يلزم من توثيق نتوءاته، ونسجه نصا،
لتفلته، وزمنية وقوعه، وسرعة إيقاعه.
من ثم، مقالنا تأمل في الأسباب العميقة، وفي وما وراء الأسباب البادية للتفاعلات
الاستراتيجية الدولية، التي تتجاوز الوجه المكشوف للسياسة الدولية، لتكشف تدافع عالم
الأفكار وأنساقه المعرفية المتفاعلة فيه وموقفها من قضاياه، وتختبر القدرة على التفسير في

2

عالم الأحداث وتفاعلاته السياسية الداخلية والعالمية، وتنظر في الأثر العملي في عالم
الأشخاص وقيامهم على أمر تدبير السياسات وإدارة الأزمات.
الجائحة مَخبَرا كاشفا
شكلت الجائحة المستجدة امتحانا لرؤى البشرية، كان يفترض معه أن تسهم في بعث
الوعي بالمشترك الإنساني المستهجن للتفاعل الدولي التآمري المذكي للخصومات، في أفق
التأسيس للقيم الكوكبية الحافظة لخصوصيات الأمم التي تأبى تنميط الاختيارات والرؤى.
وعلى خلاف المراد بأن تشكل الجائحة تعقيما وتطهيرا للواقع، أصر العقل الديكارتي التقني
الحسابي على الاستعلاء الإلغائي الذي يدفع باتجاه إسقاط ضرورات التعاون الدولي في
المسألة الوبائية إلا على أساس الاستتباع الإلحاقي.
وفقا لذلك، لم نجد عنوانا أفصح للجائحة المستجدة سوى أنها “إعادة إنتاج للقوة”.
فعلى المستوى الداخلي ووفقا لميشيل فوكو في كتاب المراقبة والمعاقبة، تتقوى السلطة
وتهيمن لخلق الجسد الطيع وضبطه والتحكم فيه. فيصير الاستثناء الطارئ دائما، وتتحول
الكمامة إلى تكميم، ويصاب مفهوم الدولة بالهشاشة أمام تنامي الكفاءة الفردانية، وتجري
نسبية مفهوم المواطنة إلا مواطنة في حالة طوارئ، يتحول معها جلابوا العملة الصعبة
جلابون للوباء، ويكشف الخوف زيف التضامن، فتضعف سلطة التفاوض الاجتماعي،
ويستحال اعتماد التبادل نظاما للأشياء وفقا لجون بودريار.
أما على المستوى الدولي كشفت الجائحة عن “إعادة إنتاج للقوة” بين طرف قوي
يَجتاج وآخر ضعيف يُجتاح، وفي سيطرة أسواق الأدوية وتفوقها على تجارة الأسلحة مؤشر
ذلك، كما هو مؤشر تنامي قيم الرأسمالية العالمية في “توسيل الإنسان في العالم” بتعبير
أستاذنا طه عبد الرحمن، وتنامي الاستكبار المؤسسي المنسق غير العفوي، القائم على
التعقيل العلمي والتقني التام للسلوك الإنساني المخْلَد إلى الأرض بتكديس الأرباح على
حساب الأرواح وبلا انقطاع.
في هذا السياق، لا نقول بفرضية ما قبل الجائحة وما بعدها، فالجائحة مناسبة لم
تفرز نقاشا جديدا لما قبلها، ولم تستحدث جديدا في بنية النظام الدولي، إلا أنها أفرزت
نقاشا–ذكرنا بعض تفاصيله-حول نسبية مفهوم الدولة والمصلحة الوطنية كمفاهيم رئيسة
للواقعية الكلاسيكية.
وتظل سمة الفوضوية Anarcy الوصف المشترك لواقع النظام الدولي بين المناولة
الواقعية التي تعبر في ذلك عن تحيزها الأنطولوجي المؤسس للصراع والنزاع-إذ العقل
الإنساني لا يمكن له نقل الواقع بحياد تام وكأنه آلة تصوير كما علمنا أستاذنا عبد الوهاب
المسيري-والاعتبار المنهجي للقيم، الذي وإن أقر بواقع الفوضى الذي تغيب فيه التراتبية
والمركزية، فإنه في المحصلة اعتبار ناف للتعارض والتنازع القيمي. وفقا لأستاذنا سيف
الدين عبد الفتاح إسماعيل في سفره الماتع: مدخل القيم، إطار مرجعي لدراسة العلاقات
الدولية في الإسلام.
متعاون مع العدو

3

يتحدث ميلان كانديرا في القسم السادس من فن الرواية، كيف أن الأوضاع التاريخية
المستجدة تكشف باستمرار عن إمكانات الإنسان وتتيح لنا تسميتها، من ثم اكتسبت كلمة
تعاون معنى جديدا في أن يضع المرء نفسه طواعية في خدمة سلطة ما. لا يتعلق الأمر
بسياق التطبيع على خطورته، على الرغم من اللغط الإعلامي الدائر حوله، وهو لغط لا
يرتفع قدرا عن ابتسامة الإشهار البلهاء، والتطفل وقد رفع إلى مقام الفضيلة، وذلك نوع من
التطبيع والتعاون مع العدو. فسياق التطبيع هذا حدث فرعي لأصل أن قضية فلسطين تبدأ
من واقع الانقسام والتذرر الحاكم للمجال السياسي العربي، وتنتهي إلى ما يلزم وفقا لمنطق
الأشياء بالمواجهة الإنسانية لأخطر ظاهرة استعمارية في التاريخ البشري.
من هذا المنطلق، نجزم القول بقضية فلسطين كمصدر الشرعية للكثير من التفاعلات
التي تعيد علينا تاريخا من دروس الوعود الساذجة للورنس دارابي واللورد مكماهون، ومن
ذلك اليد الإماراتية والإسرائيلية الواحدة في اغتيال الربيع العربي، الذي شكل لحظة فزع
إزرائيلي من جوار دول تنعم بالحرية شرطها في التحرر والانعتاق من أنظمة تحتاجها
إزرائيل لعقد تحالفات دائمة على دأب الخنق والحنق لوعي الشعوب بمركزية وأولوية
قضية فلسطين، بما يجعل من التطبيع إبادة حضارية تتجاوز مجرد التنسيق والتبادل، إلى
عملية تطبيع حضاري يقوم على غائيات معرفية تستبطن العقل الاستراتيجي الإزرائيلي
العنصري الماثلة في محو الوجود الفلسطيني-العربي-الإنساني وإحلال الوجود اليهودي
بمبررات دينية للشعب المختار في مواجهة الأغيار.
إن استدعاء مفهوم الجماعات الوظيفية لأستاذنا عبد الوهاب المسيري في تفسير
الدور الذي تؤديه النظم العربية ينطبق كذلك على القيادة الفلسطينية، إذ أن أزمة قضية
فلسطين هي كذلك أزمة القيادة وغياب الرؤية البديلة لفوضى أوسلو، وانعدام مساعي توحيد
النظام السياسي الفلسطيني. هنا يتعثر كفاح الشعب الفلسطيني على أزمة أفول للشرعية
داخلي وضعف التحالف مع الحواضن العربية والإقليمية. وإلا كيف يمكن تفسير رهان
القيادة الفلسطينية على نظم تتحالف سرا وعلنا مع الكيان المحتل؟
إن أزمة قضية فلسطين أزمة سياسية تتصل بالتنصل من الدفاع عن قضية فلسطين
والترويج لمشاريع استعمار اللاعبين الكبار مقابل دعم التنافس على النفوذ والسلطة
والثروة، وكما أن من يتخلى عن جزء من وطنه لا يحق له الدفاع عن ما تبقى منه،
ففلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني وهي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي…
وتلافيا للتفكير في الأزمة بمنطق الأزمة، فالأزمة السياسية لا يكون فكها إلابالحل
الحضاري الأوسع في استيعاب السياسي وتوابعه، والذي يستدعي بعثا جديدا للمنظومة
الحضارية ومؤسساتها الاجتماعية، ويضعها على محك الحرج الأخلاقي، بدءا بوحدة
الأسرة وما أنيط بها من تحمل الوظائف الحضارية المعطلة، وانتهاء بوحدة القيادة ومهامها
في تفعيل أطروحة التجانس الحاكمة للمجال الثقافي العربي، وما يقتضيه ذلك من ضرورة
فك التناقض الحاصل بين حقائق الاجتماع السياسي وحقائق الاجتماع الثقافي في الوطن
العربي، وكذا تحديد الصفة العربية التي تتجاوز الإرادات القطرية لتكوين مجتمعي يتجاوز
الشعب في كل دولة باعتباره شعبا واحدا لأمة واحدة.

4
الجيوبوليتيك الحضاري ضدا على الهوية التركية
إن انتقام الخرائط كفيل بفهم أزمة الهوية الجغرافية التركية وفقا لفرضية روبرت
كابلان R. Kaplan التي تجعل موروثات الجغرافيا والتاريخ والثقافة هي من يفرض
بالفعل حدوداً لما يمكن تحقيقه في أي مكان بعينه، وكيف أن الخرائط تدحض المفاهيم
المتعلقة بوحدة الجنس البشري، كونها تذكر بالبيئات المختلفة للأرض والتي تجعل البشر
غير متساوين ومفككين على نحو عميق. من هنا، شكلت مسألة الانسجام بين مكونات الدولة
الويستفالية جدلاً واسعاً، منذ تأسيس الجمهورية التركية سنة 1923، كما أثرت مسألة
الانسجام هذه في ثنائية الدمج والإقصاء، التي شكلت بدورها أحد أهم تجاذبات العملية
السياسية في تركيا، والتي أثرت على الطريقة التي نظر بها الأتراك إلى محيطهم الخارجي
في ظل التأثّر الكبير لتركيا بأي تغير يطرأ على بنية السياسة الدولية.
كما لاشك في أن التوظيف السياسي والفكري للمفاهيم الجغرافية / الجيوبوليتيكية في
تركيا ساهم بصورة كبيرة في رسم حدود الهوية الداخلية، الإقليمية والدولية لتركيا. وبالتبع،
فإن فاعلية النموذج التركي يخفي أزمة هوية ونبوءة الدولة الممزقة، والتي تفسر ما يتوجب
على تركيا القيام به من مراجعة الانسجام بين الهوية الأوروبية الأطلسية، والقدرة على
إعادة إنتاج هويتها وموروثاتها الحضارية الخاصة.
من ثم كان الاختيار التركي للجيوبوليتيك الحضاري استدعاء للمقاربة التي قدّمها
جون اجنيوJ. Agnew في “الجيوبوليتيك: إعادة مراجعة السياسة الدولية” كأحد تمثّلات
الجيوبوليتيك العالمي، والتي تقوم على التوظيف الحالي للإرث التاريخي لإعادة الاستقرار
والبناء القوي للدول، من خلال التزام الدولة بالتفرد الوطني كحضارة، وبأن جذور تفردها
حاضرة في ماضيها. وفقا لذلك، عمد النظام السياسي التركي إلى التقارب مع محيطه
الجيوثقافي القريب المتمثل في مجتمعات الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، وذلك في مقابل
التجاهل الذي أبدته الحضارة الأوروبية التي تصر على بوارها بالإصرار على أن تظل
حضارة قارية، وهو ما أدى إلى تفعيل البنية السيكولوجية القوية التي دعمت عناصر
الاستمرارية التاريخية من جديد.
إنها البنية التي أخذت شكلها في استقلالية القرار السياسي التركي في محطات بالغة
الخطورة والتعقيد، والتي حملت رسائل للأطراف الدولية بالحضور في أغلب الصراعات
الإقليمية ومحاولة إطالة أمدها لتأكيد مخططها في إنشاء نقاط ارتكاز استراتيجية مقيمة على
الأرض في الحالة الليبية، أو في الحل الكامل للملف الكردي من خلال عملية غصن
الزيتون ضدا على إقامة دولة انفصالية في الشمال السوري، أو في تحويل منتدى غاز
المتوسط إلى منظمة إقليمية تؤسس لشراكة حقيقية لدول المنطقة، أو في الدعم الكامل
لأذربيجان الذي تسعى من خلاله تركيا إلى تأكيد التأمين الطاقي، وبالأهم تثبيت خريطة
التوازنات بالقوقاز عبر اتفاقات كما في البلقان، تضمن لتركيا الوصل بعمقها الحضاري مع
جمهوريات آسيا الوسطى عبر الممر البري-المتنازع بشأنه- والذي يمكن أن يصلها
بأذربيجان، وهو ما سيشكل محور الصراع التركي الروسي، والذي لا يظهر منه حاليا إلا

5

تكريس الاحتلال الروسي الفعلي لإقليم ناغورني قره باغ وفقا لاتفاقية السلام الثلاثية بين
أذربيجان وأرمينيا وروسيا.
والحال أن تركيا تجني من استقلالية قرارها السياسي تناميا لنفوذها الإقليمي
والدولي، وتأجيجا متواصلا للصدام الحضاري، الذي يأخذ شكله في الاستهداف المتعاظم
لها، بدءا بأزمة الليرة التركية التي تعد وجها حضاريا وثقافيا لصراع بلد يفقد الصلة
بالديمقراطية الليبرالية، وانتهاء بسياسة شد الأطراف التي تمارسها الحضارة الغربية التي
تعتبر نفسها ناديا مسيحيا يرفض أن تلعب تركيا أي دور يساهم في تشكيل دورة حضارية
إسلامية.
ماكرون: التطرف بصيغة علمانية
لا يمكن حصر الإساءة المستجدة للإسلام في فرنسا في سياق انتخابي أو في خلفية
توترات محيط البحر المتوسط، وهو ما يجعلها ديماغوجية وبراغماتية سياسية توتر الفضاء
العام على نحو متواتر، يكشف عن تناقضات ثقافية ذاتية تخرج للعلن كلما وجدت أقرب
مناسبة وفرصة، لقيامها على دفاع انتقائي عن حرية التعبير، وبالتالي على ديمقراطية
عنصرية لا تمت بصلة للتعددية الديمقراطية اللبرالية الناجزة والتي تختلف والتسامح
المستمد من تراث ديني بعينه.
إنها معركة سياسية لا غير، تقوم على جهل عميق بالتراث الفلسفي والسياسي
الأوروبي نفسه، وتنكر لحدود حرية التعبير في الديمقراطية الفرنسية نفسها، بدعوى
السوابق الحاصلة من قمع حرية التعبير ودعاوى توسيعها، والتي لا تجد أساسها التراثي إلا
في معاداة المؤسسة الدينية وتدخلها في السياسة دون معاداة الدين، ودليل ذلك هامشية تيار
معاداة الدين في حركة التنوير.
من هنا ينقلب ماكرون على أسس العلمانية الفرنسية وجوهرها في تحييد دور الدولة
في الشأن الديني، وهو انقلاب لا يمكن أن يبرر بحال حربه على الإسلام، لأنه لا يمكن
حظر الدين في المجال العام وفقا للمبادئ الديمقراطية. إن ماكرون يمارس التطرف
المؤسس والممنهج الذي تتدخل الدولة العلمانية لدعمه بصيغة علمانية متطرفة، وتحوله من
الحالة الشاذة إلى النموذج على جدران المباني الحكومية.
إن الخطاب الماكروني الحجاجي الهوياتي الفج، يكشف عن تناقضات ذاتية للثقافة
الأوروبية، ظاهرها خطاب التعايش والتنوع الثقافي والحضاري، وباطنها تعزيز نزعات
الانكفاء والانغلاق على الذات، بل وتفعيل منظومة التخييلات الإيديولوجية من منطلق
الضبط والتحكم والتدمير الثقافي وفقا لإدوارد سعيد. وهو ما من شأنه إذكاء نار الصراعات
الهويّاتية وقوداً مثالياً لنشر التطرف الذي يغذي بعضه بعضا.
إنه في مقابل الاتجاه الغربي نحو الانغلاق وحراسة تخلف الآخرين وفقا لبرهان
غليون في محنة الأمة العربية، نجد أبسط مراجعة لنظامنا الحضاري الابستمولوجي
(المعرفي) والأكسيولوجي (القيمي)، كفيلة بإقرار الإسلام دين المجال العام الذي يتوسل
منهج العمران الإنساني التدبيري دون التدميري، ويتغيى الانتقال بالإنسانية من التدافع

6

الإكراهي إلى التدافع الطوعي الذي تجسده الحاجة إلى فقه المشترك الإنساني، وأن أي
انسداد حضاري باد، إنما من قبيل الممانعة ضد أخلاق التحلي الغربية بتعبير أبو الأعلى
المودودي، التي مارستها كل الحضارات حفاظا على المقدس الذي يعبر عن الهوية
والانتماء أكثر من كونه اعتبارا حضاريا مائزا، وهو الانسداد الحال الواقع الذي لا يعفي
من معالجة أسباب التخلف الحضاري الذاتية، كما لا يعفي من مج طلائع التغيير المسلحة
المقاتلة وخطابها المتشح بالتراث أو المقنع بمعسول الخطاب الوافد من عواصم الطغيان
الدولي والانتهاز الإقليمي، والتي آلت إلى الفشل، كما آل إلى ذلك التطرف العلماني التركي
الإسلامي والبورقيبي العربي، وانتهى إلى نتيجة عكس التي أراد.
فاتحة منهجية: في نقد الواقعية الكلاسيكية من أجل مدرسة عربية في العلاقات الدولية
يكرس هذا-وغيره كثير-قصور الواقعية الكلاسيكية عن ولوج عالم الأفكار،
وصدقيتها في الوصف دون التفسير لواقع التفاعلات الدولية، وذلك لقيامها على مجرد
الرصد للسلوكات السياسية وفقا لهانس مورغنتاو في فن الحرب. وإن كان من دلالة عقلانية
مأمولة لهذا الرصد، فإنما يتم من حيث تتابع الأسباب والنتائج لاستنباط الأهداف من واقع
التصرفات المرئية دون غيرها، بما يجعل منها حكمة قصيرة النظر، لم تف لبيئتها
الحضارية التي علمنا تاريخها الثيو استراتيجي القديم والمعاصر كيف أن الغرب في
المواقف الفيصل ينزل إلى المستوى الأعمق حضاريا بعيدا عن منطق التحالفات
والتصنيفات السياسية وعن سياسة الأمر الواقع. أهذه هي الحدود القصوى لتعظيم المكاسب
وفقا لكلاوزفتش؟!
إن سياسة القوة ليست ميدان العلوم وإنما ميدان الوجود الاجتماعي، وإذا كان العلم
يقدم حلولا للمشاكل المادية، فالفكر وحده-كرؤية حاكمة-هو ما يقدم حلولا للعلاقات
الاجتماعية والمجتمعية، بدءا من علمية الإرث الاجتماعي المتوارث في الانتماءات
الحضارية للأفراد والمجتمعات كما عند غوستاف لوبون، وانتهاء بأن كل تفاعل اجتماعي
لا يتم إلا بالإخصاب الذاتي لكل حضارة، ولا يتم بالانسلاخ عن الذات أو فرض خارجي
تقليدي فوقي. هكذا علمنا أساتذتنا قراءة تاريخ الأمم والحضارات. فكيف لمكيافيلي ادعاء
النزوع إلى القوة وتقمص الروح الهازئة والتجرد من الأخلاق نابعا من القراءة المتصلة عن
الحضارات؟
إنها ليست دعوى مثالية، فما تصبوا إليه اللا أخلاقية هو نفسه ما تريده الأخلاقية:
احتكار القيم وعالميتها. والواقعية حكمة لاشك، لكنها بلغت من قصر النظر حدا لا يمكن لها
معه أن تعي حركة التاريخ. والبديل اعتقادنا واقعية المدخل المنهاجي القيمي كمدخل
للمراجعة وإعادة البناء، ناف للتعارض والتنازع وقاصد حافظ لأسس العمران وأصوله.
ولعل ذلك ما يأتي بيانه في مقال مستقل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق