المقالات

كورونا: أو حينما يصير الوباء باعثا على التأمل في عالمنا المعاصر (عبد الحميد لخميس) _2_

خلخلة نمط إدراكنا للذات وللعالم: أو سؤال النظر وسؤال العمل

         قضية المعرفة هي واحدة من القضايا الفلسفية الشائكة في تاريخ الفلسفة، بل هناك مبحث خاص بنظرية المعرفة يندرج في مبحث أعم وهو الإبيستيمولوجيا، وهو المبحث الذي هيمن كما نعرف في الفلسفة الحديثة بالخصوص، وأهم مفارقة تساجل حولها الفلاسفة هي دور الحواس والعقل والعلاقة ينهما ولمن الأولوية… وهذه سجالات معروفة، على كل حال، منذ بارميندس وهيراقليطس، مرورا بالسوفسطائية والأفلاطونية والأرسطية، ثم مدارس القرون الوسطى، والتيارات الكبرى في الفلسفة الحديثة (العقلانية والتجريبية)، وصولا إلى الفلسفة المعاصرة. لكن رغم كل ذلك تظل الحواس مصادر هامة جدا في إدراكنا للذات وللعالم، إنها نافذتنا على هذا العالم. غير أن تأملا متأنيا سيجعلنا ندرك أن أكثر الحواس التي نوليها أهمية ربما هي البصر، ويليها السمع، ثم الذوق  والشم، وأخيرا اللمس. وهكذا فالغالب على تصوراتنا على ما يبدو هو إنزال حاسة اللمس منزلة دنيا مقارنة بالحواس الأخرى، فإذا كان الشخص مخيرا بالإبقاء على حاسة واحدة من حواسه، ففي غالب الأحيان لن تراه يختار اللمس، والحال أن الأمر فيه حيف؛ ذلك أن حاسة اللمس ترتبط ارتباطا وثيقا بالجلد الذي يغلف أجسامنا من كل ناحية، ونحن لا نستطيع أن نخرج من جلدنا، والجلد هو أول ما يتعرض من جسمنا إلى المؤثرات الخارجية، والجلد به مستقبلات سطحية تستشعر الضغط الخفيف، ومستقبلات عميقة تستشعر الضغط القوي، وكل مستقبل تنشأ عنه سيالة عصبية تُنقل عبر الألياف العصبية فتُترجم على مستوى الباحات العصبية الموجودة في المخ، فيستطيع هذا الأخير أن يتعرف على نوع أو طبيعة الحساسية الشعورية ويميزها، كأن يميز مثلا الحرارة عن البرودة، والنعومة عن الخشونة… واللمس هو الحاسة الوحيدة التي تنقل السيالة العصبية عبر الألياف الموجودة بالنخاع الشوكي، فهي إذن أكثر الحواس شمولية.

         لكن بعيدا عن هذه المعطيات العلمية، ومن الناحية الجمالية، ربما حاسة اللمس هي أكثر حواسنا حميمية؛ فبفضلها نستشعر وجودنا في كل لحظة وحين، بها نتعرف على هويتنا كل صباح حين نستيقظ من نوم هادئ أو مضطرب، باللمس نصافح غيرنا ونحضنه ونعانقه ونعبر له عن حبنا، كما قد نصفعه، اللمس أكثر حميمية في علاقتنا الجنسية، إذ لا يمكننا تصور هذه العلاقة من دون جلد وهو يلامس جلدا آخر، وحتى في الاستيهامات الجنسية التخيِيلية لا تسقط هذه القاعدة، فإذن نحن كائنات جلدية لا تستطيع أن تخرج من جلدها، بل إننا نخرج من جلد ونولد منه، بعدما يدخل الجلد في الجلد. لكن مع كورونا كأننا أمام فيروس يحاول أن يرغمنا على أن نخرج من جلدنا، وأن ننفصل بالتالي عن ماهيتنا، لكن هيهات ثم هيهات إننا ننفصل لنتصل، ننفصل عمّا هو براني أي عن العالم الخارجي وعن الأغيار، ولكن نرتد نحو جوانيتنا وغورنا لنكتشف أصالتنا، ونستشعر كينونتنا، ونصغي لأتاوينا البعيدة وقعرنا السحيق، وفي هذا الارتداد نحو الذات فائدة عظيمة، فربما ـ وأمام الفائض من الوقت الذي أصبح أمامنا والذي لم نكن نعيره اهتماما ـ يدفعنا ذلك إلى تشغيل ملكة “النظر” والتأمل، التي مع الأسف لم تنبت في ثقافتنا منذ عصر الانحطاط، اللهم بعض الحالات المعزولة التي هي مجرد انفلتات جاد بها الزمن علينا دون أن نقدرها حق قدرها.

         ثقافتنا مهووسة بهدر الزمن، الزمن وما أدراك ما الزمن. لقد سُئل ماكس فيبر ذات يوم عن الأسباب التي جعلت أروبا تدخل الحداثة، وأجاب بحكمة بليغة؛ قائلا: “لم يكن من الممكن أن تدخل أروبا إلى الحداثة إلا حينما أصبح للوقت قيمة”. وكم من الوقت ضيعنا وها نحن اليوم تائهون في عالم يسير بإيقاع سريع ومخيف، نتفرج كالبلهاء على الفتوحات المدهشة التي يشقها أغيارنا في جغرافيات قريبة أو بعيدة منا.

ثقافتنا أيضا لا قِبَل لها بسؤال “النظر”، بل إنها مهووسة بسؤال العمل. ولكن أي عمل؟ فكثيرا ما تتردد في ثقافتنا العبارات الحاثّة على العمل، والداعية ٳلى الممارسة “المفيدة”، وخاصة حينما يتعلق الأمر بتربية النشء، وبالمقابل، فالعبارات المحفزة على التٲمل وٳعمال النظر في المجردات تكاد تكون منعدمة، ومَرَدُّ هذا “العدم” ليس ٳلى كون الطفل غير قادر على القيام بمثل هذه العمليات الذهنية التجريدية، ولكن لٲن ثقافتنا ـ على ما يبدوـ لا تدرك قيمة “النظر”، كما تحمل صورة مشوهة عن مفهوم “العمل”؛ ذلك ٲن العمل عند الغالبية ليس ما كان امتدادا لٳطار نظري مُبَنْيَن، ولكنه ما ارتبط بمنفعة وفائدة intérêt، وكان من نتائج ذلك ٲن صار الكسب المادي من مال وعمارة وتجارة وربح وادخار… هو معيار “النجاح” الاجتماعي، ولعل تٲملا متٲنيا في هذا المفهوم الشعبي الفجّ والمشوَّه عن العمل يكشف عن فقر حضاري مهول، يتجلى في القحط النظري الذي يسري في جسمنا الاجتماعي، ٳذ يختزل الحياة كلها في سجن اليومي، وفي عبودية كدحية بئيسة ما تنفك تتٲهب توجسا من الٳملاق وخشية الفقدان، وهو ما ٲنتج في النهاية ذاتا منفعلة ترزح تحت شروط ووضعيات لا تستوعبها نظريا، غير ٲن الحضارات الراقية، كما يعلمنا التاريخ وكما يثبت الحاضر، هي تلك التي اهتمت بجانب النظر بغاية بناء الذات الفاعلة والمبدعة والحرة، فبهذا الجانب يشتغل العقل بكل ملكاته، وتنفتح المخيلة بكل طاقاتها، ولتحصيل هذا المرمى البعيد لا بد من تعدد المشارب الداخلة في بناء تلك الذات، من آداب وفنون وعلوم… ولمّا يحصل ذلك يصير مفهوم العمل مباينا تماما لِما يفهمه الحس الشعبي؛ ٳذ يكون ثمرة مباشرة لهذا الزخم النظري المتعدد الٲلوان، زخم يقطع مع كل ٲشكال العوز والضحالة والبؤس، التي تحكم قبضتها على وجودنا برمته، فتستغرقنا كلية، وتسلبنا كينونتنا الٲصيلة، حينما تسد ٲمامنا آفاق النظر، وتحجب عنا الجانب المشرق في الحياة. بهذا الانصراف اللحظي عن المحسوسات ربما قد تشتغل ملكة التفكير والتأمل التجريدي والخيال الخلاق والمبدع، وندرك ما للوقت من أهمية. ولا فردانية فاعلة دون هذه المقومات.

درس الوباء: أو الأممية بدل العولمة:

         كثر الحديث عن العولمة في الزمن الراهن، وتباينت التصورات حولها بين داع لها وبين رافض، ولكن مع اجتياح الوباء (والذي نسميه كذلك بالجائحة من الاجتياح والاكتساح) يبدو أن العولمة لم تعد مقتصرة على الثقافة والاقتصاد والسياسة والقيم والتقنية والإعلام… بل إن الوباء نفسه لم يفلت من عجلتها الطاحنة، فصارت تجتاحنا اجتياحا، وتكتسحنا اكتساحا مضاعفا. كورونا وباء جائح سريع الانتشار والاختراق، فهو يخترق الحدود الجغرافية والسياسية والثقافية والدينية… وهذا ما يميزه عن الكوارث الأخرى؛ كالزلازل والأعاصير والبراكين، وحتى الحروب. إن له قدرة هائلة على الاكتساح والاختراق والاجتياح، وبالطرق نفسها. ولذلك فالدول والحكومات تلجأ إلى التدخلات ذاتها، والإجراءات عينها، مع فارق في اللوجيستيك والنجاعة والالتزام الشعبي.

         مع كورونا أصبح العالم اليوم يستشعر أن المصيبة واحدة، وأن المصير واحد، والخوف والهلع والرعب واحد، في الصين كما في إيطاليا أو في المغرب أو في أمريكا، لا فرق إذن بين ووهان أو نيويورك أو مدريد أو أبي الجعد أو قرية نائية في كوريا الجنوبية، لقد بتنا نشاهد ونسمع بعولمة الوباء، وبعولمة الخوف، وبعولمة الرجاء، وهكذا يكسر كورونا أسوار الهوية، ويفجر خندق الإنية.

يعرف المفكر البريطاني رولاند روبرتسون العولمة بأنها “اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش”، ويعرفها مالكوم واتزر مؤلف كتاب “العولمة” بأنها “كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بغير قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد” هذا الانكماش أو ذلك الدمج تعدى الاقتصاد والسياسة والثقافة إلى الوباء والجائحة.

         معلوم أن العولمة تقابل بالرفض والمقاومة من دول الهامش، نظرا لما تخفيه من هيمنة لدول المركز وللقوى العظمى، هيمنة ماحية للاختلاف ومذيبة للهوية في بوتقة الكونية المزعومة، بيد أننا في الغالب سنتجه إلى زمن جديد للعالم، يمكن أن نسميه “ما بعد كورونا المستجد”، ومن المرجح أن العولمة بمعناها الاكتساحي المتسلط والماحي للهوية لن تعود قادرة على الصمود، ولذلك لابد من الاستغناء عنها بمفهوم جديد؛ وهو الأممية، بيد أن استعمالنا هنا لمفهوم الأممية لا يحيل إلى ما دأبت عليه التصورات الاشتراكية، والتي تقدم المفهوم كبديل عن العولمة التي التصقت بالتوجهات الليبرالية، وإنما نقصد بها معنى يكاد يكون حرفيا، وهو؛ “تعاون الأمم وتكافلها”، وهذا مبدأ سياسي أخلاقي يتجاوز القومية الضيقة، والأصولية العنيفة، والشوفينية الراديكالية، و الليبرالية المتوحشة، والاشتراكية الكليانية، وبالمقابل يهدف هذا المبدأ إلى تعاون سياسي وعلمي واقتصادي وثقافي أكبر بين الأمم والدول والشعوب، لأن لها مصيرا واحدا ومشتركا؛ بمعنى أنه على شعوب العالم أن تتحد أكثر لتعزيز مصالحها المشتركة، وأن تتعاون حكومات العالم، لأن المصالح المتبادلة طويلة الأمد وأهم بكثير من نزاعاتها. قد تبدو هذه الدعوى يوتوبيا حالمة، ولكنها على الأقل هي بمثابة مثل أسمى ينبغي نشدانه باستمرار، والسعي وراء تحقيقه على الدوام، فهو الأفق الأسلم لمستقبل الإنسانية. ذلك أن العالم اليوم بات أكثر حاجة من أي وقت مضى للتعاون والتكافل، فعوض “حرب الكل ضد الكل”، ينبغي أن يكون “الكل من أجل الكل”. إن العالم هو بيتنا الكبير جميعا، وعلى هذا البيت أن يعاد ترتيبه وتهيئته بالشكل الذي يأوي كل ساكنيه ولا يلفظ أحدا خارج أبوابه.

         لا ينبغي أن ننخدع من كلمة التعاون والتكافل بين الشعوب والأمم، فهي تقتضي التعاون من طرف الجميع، وليس التعاون يتم بالاتكال والتفرج، إنه ليس فرض كفاية إذا قام به البعض شمل الكل، وإنما هو فرض عين، فكل المجتمعات والثقافات والشعوب والأمم مطالبة بتحمل مسؤوليتها، ومدعوة إلى المساهمة من زوايتها، وعليه؛ فعلينا أن نكون نحن كذلك مساهمين في عجلة التعاون، وبالتالي منتجين للتعاون لا مجرد مستهلكين له كما هو حالنا اليوم، ومن دون هذا المبدأ لن نتحرر، ولن نحقق الاستقلال الذاتي، بل نظل تابعين خاضعين ومتفرجين على منجزات غيرنا.

قدمت الصين درسا للعالم في كيفية تصديها للوباء من جهة، وفي كيفية تعاونها مع الدول التي حل بها الوباء من جهة ثانية، ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن هي من يقود معركة التصدي للوباء، لقد تنازلت عن هذا الدور للصين التي قدمت نفسها كقائد للمعركة، ومن الممكن جدا أن تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في حاجة إلى مساعدة الصين في حال تفشى الوباء بدرجة أكبر. كل هذه المؤشرات وغيرها تدل على تغير وشيك للخريطة الجيوسياسية العالمية، فهي على الأقل تبين أن العالم لم يعد فيه مركز واحد، بل أضحى هناك مركزان، وأن الصين قوة جديدة باستطاعتها أن تقود العالم. وأمام هذه المعطيات؛ إما سيتعمق الصراع أكثر، ويمضي العالم نحو مزيد من الكوارث، وإما نتجه نحو الأممية لما فيها من تكافل وتعاون.

نظرا لما التصق بالعولمة من توصيفات قدحية، فهي ماضية نحوالانحسار والأفول، ولذلك فالأممية تطرح نفسها كبديل ممكن، ولكنه بديل صعب المنال، ولابد أن يكون له ثمن، ولابد أن يصاحبه الصراع والتصادم والتدافع، لأن منطق التاريخ هو هكذا، غير أن هذا التصادم لابد وأن يؤول في النهاية إلى تركيب خلاق ومفيد، يظهر فيه كل طرف في الحاجة إلى الطرف الآخر، ف”النوع الإنساني لا يتم وجوده إلا بالتعاون” كما يقول ابن خلدون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق