المقالات

غزّة ومكانتها التاريخية(طالب عبد الجبار الدغيم) _1_

“غزّة” ابنة تاريخ طويل، شهدت صروف الدهر المتقلبة، واعتبرها نابليون: “بوابة آسيا، ومدخل إفريقيا”؛ احتفظت باسمها ومنزلتها، رغم كل ما مرّ بها من حوادث، وتعاقَب عليها من ملوك وغزاة وطامعين. ووصفها المؤرخ المقدسي عارف العارف في كتابه (تاريخ غزة): “غزّة ليست وليدة عصرٍ من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها… لم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه”.

غزّة: المكان والمعنى

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط، وعلى مساحة لا تزيد عن 360 كم2 تتربع مدينة غزّة. وقد بُنيت على تلٍ يرتفع زهاء (45م) فوق سطح البحر، وعلى حافة الأراضي الخصبة، التي تأتي مباشرة بعد برّية سيناء، لتكون المحطة الطبيعية لكل القادمين من مصر، ووجهتهم إلى الشام، ومن الشام إلى مصر.  

تبدل اسم “غزّة” بتبدل الممالك والقوى التي استولت عليها، فقد كان الكنعانيون يسمونها “هزاتي”، والعبرانيون “عزة”، والفرس “هازاتو”، وسماها المصريون القدامى “غاداتو”. وفي المعجم اليوناني “أيوني”، وعند الأتراك “غزة”، وعند الإنجليز “غازا”. وسماها العرب المسلمون “غزة” أو “غزة هاشم”. فقد ارتبط اسم “غزّة” عند العرب، باسم هاشم بن عبد مناف الذي مات فيها، وهو عائد بتجارته منها نحو مكة عام 524م، إذ كانت غزة محط رِحاله، ومأوى ضريحه، ولم يغب عن أهل غزة تقدير ذلك الشرف، والرابطة بينهم وبين قريش ومكة، حيث تأوي مدينتهم ضريح الجد الثاني للرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وسموا أكبر مساجدهم باسمه. كما ولد في هذه المدينة أحد أئمة الإسلام وفقهائها الكبار، وهو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (رحمه الله).

وذَكر ياقوت الحموي غزّة في كتابه (معجم البلدان): “غزّة مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، وغزة كانت امرأة صور الذي بنى صور مدينة الساحل قريبة من البحر، والشام حدها من الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية”. وعلى هذا النحو يذهب ابن بطوطة في رحلته، فيقول: “ثم سِرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد الكثيرة، والأسوار عليها”.   

وإن المؤرخ المقدسي عارف العارف (ت: 1973l)، يُورد في كتابه احتمالات عدة لمعنى اسم غزّة، فقد يكون من القوة والمنعة والشدة، وقد يكون من الثروة، وفيما يستصوب العارف الرأي الأول، فإن المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ في حاشية موسوعته عن الديار الغزّية، يُرجح المعنى بين المخزن والكنز، وما يمكن ادخاره، وهذا رأي أخذ به المؤرخ اللبناني أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها”.

وتطور عمران غزّة أسفل التل من نواحي الشمال والشرق والجنوب، حتى تكونت غزّة في وقتنا الحاضر من خمسة أحياء رئيسية، وهي: الدرج، والتفاح، والشجاعية، والتركماني، وحي الزيتون وهو أقدمها. ويعيش في غزة أكثر من 1.72 مليون نسمة، أيّ بمعدل 27 ألف نسمة في الكيلو متر المربع الواحد، وترتفع هذه الكثافة في مخيمات غزّة إلى 56 ألف ساكن بالكيلو متر المربع تقريباً. والجدير بالذكر، بأن غزّة استقبلت عدداً كبيراً من النازحين الفلسطينيين إثر نكبة عام 1948، ونكسة 1967م، ومنهم نحو 76 ٪ ينحدرون من مناطق بئر السبع ومدينة يافا والمجدل وعسقلان والنقب، والتي احتلها إسرائيل، وهَجّرت سكانها الأصليين.

التقويم الغزّي

وصلت غزّة من الشهرة والأهمية التاريخية، إلى أن أصبح لها تقويم خاص بها، عرف بـــ “التقويم الغزّي”، كما للمسلمين تقويم هجري، وللمسيحيين تقويم ميلادي، ولليهود تقويم عِبري، أو التقويم القبطي. ويرجع مؤرخون، سبب وجود تقويم غزّي، لارتباط المدينة بتواريخ أحداثٍ وحروب عالمية، كحروب ملوك الفراعنة، وملك الأشوريين والبابليين، وملوك اليونان، والرومان، وملوك المسلمين كصلاح الدين وأولاده، وهي معارك غيّرت حياة أمم، وكتبت تاريخاً جديداً، ثم ما لبث أن تم محوه، بحرب كبرى، وهكذا، حتى صارت أحداث غزة، تقويماً، يبدأ عام 60 قبل الميلاد، على وجه تقريبي. وبحسب المؤرخ عارف العارف، فإنه يَنقل أن السنة الغزّية، ما بين شهر أكتوبر من عام 61 ق.م وشهر أكتوبر من عام 60 ق.م. ولهذا إذا كان التاريخ الميلادي، مثلاً، عام 505 يقابله بالتاريخ الغزي 565.

غزّة في المصادر والوثائق التاريخية

سعى المؤرخون والرحالة والرواة إلى تدوين تاريخ غزّة، واعتمد المؤرخون المعاصرون في تأريخ غزّة، على معجم البلدان لياقوت الحموي، وفتوح الشام للواقدي، وفتوح البلدان للبلاذري، والسلوك لمعرفة الملوك للمقريزي، وخطط الشام لمحمد كرد علي، والمحفوظات الملكية المصرية، وتاريخ مدينة غزة لإم. أي. ماير، وكتاب غزّة للفرنسي شارلز كليرمونت جانيي، ومؤلفات عديدة ذات صلة بتاريخ غزّة، باللغات العربية والانجليزية والفرنسية والتركية. 

ومن الكتابات الحديثة التي دوّنت التاريخ الغزّي، كتاب عارف العارف “تاريخ غزة”، وهو الذي شغل منصب قائم مقام غزّة في الفترة بين 1940 – 1944م، وكتابه في 356 صفحة، تناول فيه تاريخ غزة متسلسلًا زمانيًا، فبدأ بالحديث عن موقعها، وأهميتها التاريخية، وأسمائها التاريخية المختلفة، ومعنى كل اسم منها، ثم انتقل للحديث عن بناة غزة الأولين والشعوب التي سكنتها منذ القدم والعصور التاريخية التي مرت عليها والدول التي حكمتها حتى الفتح الإسلامي. وتحدث بإسهاب عن فترة الحكم العثماني حتى الانتداب البريطاني. وهناك كتاب “تحفة الأعزّة في تاريخ غزّة”، للشيخ عثمان الطباع (ت: 1950)، وهو أحد أبرز المؤرخين الفلسطينيين الذين كتبوا عن غزة، وتاريخها الاجتماعي والثقافي في النصف الأول من القرن العشرين. وكتاب “غزة وقطاعها” لسليم المبيض عام 1987م، وتناول في كتابه الجغرافيا وحضارة سكان غزّة من العصر الحجري الحديث حتى الحرب العالمية الأولى في 500 صفحة. وفي الحقبة الأخيرة، أبدع الشباب العربي والفلسطيني في إصدار عشرات الكتب والمدونات والروايات التي توثق الحياة اليومية بتفاصيلها في قطاع غزة من الحصار، والحروب، والفقر، والإبداع، والعبادة، والزواج، والفرح… إلخ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق