المقالات

اللغة شكل حياة(عبد العزيز بومسهولي)

إذا كانت عبارة “الكلام أو الموت” تلخص مأزق العلاقة القائمة بين طرفين، ليس لهما من إمكانية سوى الاختيار ما بين الكلام، أو العنف حد الموت، فإن عبارة “اللغة أو الحياة” لا تضعنا أمام مأزق للتسوية، وإنما تلخص قضية اللغة ليس باعتبارها قضية حياة وحسب، بل باعتبارها هي الحياة عينها، ولذلك يصح أن نقول أن كل لغة حياة، ما دام ” أن كل شيء يحدث داخل اللغة”. ومعنى ذلك، أن كل شيء يمت للحياة بصلة، إنما يحدث في صلب علاقة اللغة بالكون، ولذلك توقع كل لغة حدث الحياة، أي أن كل حدث تعبير عن أوجه التغير في أنشطة الحياة وفي علاقاتها، ونظامها الرمزي.  يرى جون ديوي John Deweyإن نشأةاللغة ( بأوسع معانيها) عن مناشط بيولوجية سابقة- وفي صحبتها عوامل ثقافية أوسع منها مدى- هي مفتاح هذا التحول في طبيعة الإنسان”. أي تحول السلوك العضوي إلى سلوك متميز بخصائص عقلية، والذي هو ” نتيجة لحقيقة قائمة وهي أن الأفراد يعيشون في بيئة ثقافية، فيضطرهم هذا العيش إلى الأخذ في سلوكهم بوجهات النظر التي تقتضيها العادات والمعتقدات والنظم والمعاني والمشروعات التي هي نسبيا على الأقل، متصفة بالشمول والموضوعية”. وتحتل اللغة بالنسبة لديوي مكانة خاصة في المحيط الثقافي، باعتبارها هي عينها نظاما ثقافيا، من بين أنظمة كثيرة، لكنها هي الأداة التي تنتقل بها سائر النظم والعادات المكتسبة، وهي أيضا تتميز بتركيب خاص قابل للتجريد وله تأثير حاسم تاريخيا في صياغة النظرية المنطقية. وهذا المنظور يتناول اللغة بالمعنى الواسع، الذي يتعدى الكلام، ليشمل الإشارات الجسدية، والطقوس ومنتجات الفنون الصناعية والجميلة، فالآلة ليست مجرد أداة، بل هي ضرب من اللغة تقول شيئا لمستعمليها. إن أهمية اللغة تكمن في كونها ضربا من سلوك بيولوجي الخصائص، وفي كونها تجبر الفرد على ” أن يلتزم بوجهة نظر سائر الأفراد، وأن ينظر إلى الأمور وأن يجري عليها البحث من زاوية لا تقتصر على فرديته الذاتية وحدها، بل تكون مشتركة بينهم وبينه باعتبارهم شركاء، أو “أطرافا متعاقدة” في مشروع مشترك؛ نعم قد يكون احد أجزاء الوجود الفعلي هو الموجه وهو الهدف لقيام اللغة، لكنها تهم أول ما تهم شخصا أو أشخاصا آخرين، إذ تكون لهم وسيلة “تفاهم” أي وسيلة تقيم بينهم شيئا مشتركا؛ ومن ثم فبمقدار ما يكون لها من هذا الاشتراك تصبح عامة و”موضوعية”. وهذه اللغة التي نشأت، كما يرى ديوي، أول أمرها لتكون وسيلة للتفاهم من شأنها أن تخلق بين الناس تعاونا مقصودا ومنافسة مقصودة فيما يقومون به من مناشط مشتركة، هي عينها ” اللغة التي خلعت على الأشياء الكائنة بالفعل ما لها من قوة الدلالة، أي ما لها من قدرة على أن يكون وقوع بعضها شاهدا على وقوع بعضها الآخر”. ولهذه الفكرة بالغ الأهمية بالنسبة لمسار هذا البحث، لأنه يمكننا تأويل اللغة- على المدى الأوسع-  بناء على ذلك، باعتبارها أساسا للتفاهم بين الشعوب، وقاعدة للعلاقات بين الدول، من خلال اضطرارها جميعا على تبني وجهة نظر “دولية”- أو كونية تمثل سائر الدول، عوض تمسك كل دولة بوجهة نظرها الخاصة.

إن أهمية هذا الطرح، إنما يكمن في كون اللغة مفتاح كل تحول ذي طبيعة ثقافية، ولذلك فهي تضفي على أبعاد الخبرة أبعادا جديدة، تتمثل فيتنوع أنماط الوجود، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي تعبر بكيفية ما عن علاقات بشرية تتمثل في شكل للحياة.وكما قال لودفيك فتغنشتاين Ludwig Wittgenstein-  ” أن تتصور لغة يعني أن تتصور شكل حياة”.يرتبط مفهوم “شكل حياة” بمفهوم “اللعب اللغوي” باعتباره محكوما بقوانين وقواعد التصرف مثل تلك التي تنظم الحياة الاجتماعية، وفي ” هذا المقام، على اللفظة “لعبة لغوية” أن تبرز أن تكلم لغة ما يعد عملا أو شكل حياة” .وفق هذا المنظور تشكل اللغة جزءا لا يتجزأ من حياة الكائنات اللغوية؛ ولذلك فتصور اللغة كلعبة، إنما يرتكز إلى كونها خاضعة لقواعد العلاقات البشرية، ولقواعد السلوك غير اللغوي، ولهذا فإن لشكل الحياة، الذي تبرزه اللغة،  أساس ثقافي، بحيث تكون ألعاب الكلام، شكلا من الاحتكام إلى قواعد تضفي على اللغة صفة المؤسسة الاجتماعية. وبناء على ذلك فنحن نتكلم وفقا للعبة لها قواعد، وهذه القواعد إنما تحيل إلى مؤسسات وعادات وتقاليد. وهكذا يرجع الامتثال للقاعدة، إلى تقاليد وممارسات اجتماعية تتكرر وتتواصل، ويقوم بها أفراد متعددون لا فرد واحد. ولذلك فإن ” الامتثال للقاعدة ممارسة (Praxis). وأن نعتقد أننا نمتثل للقاعدة ليس امتثالا للقاعدة. لهذا السبب لا يمكن الامتثال للقاعدة بصفة شخصية(privatim): وإلا لكان الاعتقاد في الامتثال للقاعدة يعني هو نفسه الامتثال للقاعدة”.والمراد أن الامتثال ممارسة وفعل وعمل وتمرن، يقوم على أساس التعالق بين اللغة والمؤسسة الاجتماعية، ومادام الأمر كذلك، فإنها لا تنجز على انفراد، إذ يؤكد فتغنشتاين على أنه “لا يمكن أن يكون هناك شخص واحد فقط قد امتثل للقاعدة أو أنه قد فعل ذلك مرة واحدة. لا يمكن أن يكون تواصل قد تم مرة واحدة وأن أمرا قد أعطي وفهم مرة يتيمة واحدة.- أن تمتثل لقاعدة وأن تقيم تواصلا وأن تطيع أمرا، وأن تلعب مقابلة شطرنج هي عادات (تقاليد، مؤسسات).و أن تفهم قضية يعني أن تفهم لغة، وأن تفهم لغة يعني أن تتحكم في تقنية”. أي أن اللغة محكومة بقواعد تكتسب بالمهارة والتمرن على التحكم في تقنيات اللعب من خلال الامتثال للقواعد وكأنه امتثال لأمر ما، بصفته ترويضا على ذلك. بالفعل، إن القدرة على التعرف على التعبير، هو قدرة على إدراجه داخل سياق، داخل شكل للحياة يكتسب فيه معناه بالكامل.  إن نوعية الحياة تخدمبالأساس استعمال الكلمات. وهكذا فإن التعرف على تعبير ما سواء تعلق بوجه ما أو بلعبة معبرة للاعب البيانو، يفترض معرفة، وإثقانا لبعض التقنيات المتجذرة في ثقافتنا، أي أن فهم التعبير هو قدرة تستند على التحكم في تقنيات الاستعمال التي تحيل في المقام الأخير على الثقافة أو شكل الحياة، بوصفه الأساس الموضوعي للاختلافات العارضة. إن الحدود المفاهيمية التي يرسمها فتغنشتاين- حسب كريستين شوفيري –Christine Chauviré تقوم في نهاية الأمر دائما على الاختلافات التي تكتسب معانيها من الممارسة داخل شكل حياتنا”. وفق هذا المنظور يفسر فتغنشتاين طريقة تصرف البشر بعامة، بكونها “النظام المرجعي الذي نؤول به لغة مجهولة لدينا”. ولما كان الأمر على هذا النحو، فإن “شكل الحياة الذي ترتبط به ألعابنا اللغوية هو المجتمع البشري، فتختلف الألعاب اللغوية بحسب اختلاف الثقافات، والمحيط الطبيعي والزمان والعلاقات الاجتماعية وقواعد التصرف عامة”.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق