المقالات

العصيان المدني مدخل إلى الديمقراطيَّة(عزّ العرب لحكيم بناني)_2_

العصيان المدني بين التصوُّر الحقوقي والسياسي:

إنَّ ما يجب أن ننتبه إليه أنَّ العصيان لا يوجَّه ضدَّ قوانين محدَّدة فحسب؛ بل قد يُوجَّه أيضاً ضدَّ فكر الأغلبيَّة، أو ضدَّ النظام السياسي القائم، أو للدفاع عن قضايا لا تهمُّ أغلبيَّة السكَّان، (النظام النباتي في الأكل ومواجهة الطاقة النوويَّة والمضاربات العقاريَّة، … إلخ). ويرى المفكر الهنديّ (Vinit Haksar)، وهو يتذكّر نموذج غاندي، أنَّ العصيان المدني، على خلاف ما يدَّعيه رولز وسينغر، يرفض على الأقل مهادنة النظام السياسي القائم، في حين يرى رولز أنَّ المنشقَّ يهادن النظام ويتعاون معه، بقبوله عواقب خرق القانون، ما دام يَعدّ القانون صحيحاً، وهذا الأمر يُعدُّ مظهراً من مظاهر التعاون بين المنشق والدولة. وسأركز على نقطتين: على العصيان المدني السياسي، وهو الصورة الأساسيَّة الواردة في العالم العربي، والعصيان المدني الحقوقي الذي يواجه الفساد.

العصيان المدني السياسي:

فرض الواقع السياسي، الذي عاشه العالم العربي، منظوراً جديداً للعصيان المدني. فقد أصبح ممارسة تطالب بالحق في تقرير المصير الجماعي، كما انتبه إلى ذلك (Celikates)، فإذا كانت المطالب تحمل طابعاً نقابياً مثلاً وتدافع عن مصالح عمَّاليَّة ضيّقة، فهي لا تندرج ضمن إطار العصيان المدني. وأيضاً «إذا كانت طرق الاحتجاج تخضع للقانون، فإنَّها لا تدخل في إطار العصيان المدني كذلك»، فهذه الحالات من العصيان تتنافى مع فهم رولز للعصيان المدني الذي يراه احتجاجاً سياسياً وعمومياً يعترض من خلاله شخص أو مجموعة من الأشخاص على قانون يَعدّونه ظالماً. لكنَّنا نجد صوراً سياسيَّةً جديدةً للاحتجاج تضع تصوُّراً جديداً للعصيان المدني، حيث يتجاوز الموضوع الاعتراض على قانون نشكّ في مشروعيّته؛ إذ يذكّرنا الفيلسوف الأمريكي ميكل وولزر هنا «كيف أنَّ بعض الفئات الاجتماعيَّة ترفع مطالب شموليَّة، وتجد نفسها مجبرة على تحدّي النظام الشرعي القائم، وعلى إسقاط حكومة وتعويضها بحكومة أخرى، وعلى مهاجمة المجتمع ذاته والنظام السياسي برمّته». ويمكن في هذا المضمار التذكير بالقضيَّة الفلسطينيَّة التي كانت تجد من بين أنصارها من يمارس العصيان المدني نضالاً من أجلها، حتّى لو أدَّى ذلك إلى خرق القوانين الوطنيَّة لبلدان ما. ويذكّرنا بيداو بحركات مقاومة الاستعمار والأنظمة الفاشيَّة، عندما كانت شبكات سريَّة تتولَّى عصيان الأوامر لحماية المقاومة، حيث كانت أعمال التخريب جزءاً من المقاومة المشروعة. وقد كتب سارتر مقدّمة مستفزّة لكتاب «المعذبون في الأرض» لفرانس فانون، جاء فيها ما يلي: «إنَّ سلاح المقاتل هو إنسانيّته. يصبح القتل ضرورياً في المرحلة الأولى من التمرُّد. إنَّ قتل أوربي هو قتل عصفورين بحجر واحد؛ هو التخلّص من المضطهَد ومن المضطهد». وقد كانت نصوص سارتر هذه مسوّغاً لاستخدام العنف في المقاومة، غير أنَّ مفهوم العنف يحتاج إلى المراجعة والتدقيق، حتى لا نخلط بين المقاومة السلميَّة والمقاومة المسلَّحة والعصيان المدني.

العصيان المدني ونداء الضمير

لن نستطرد في هذا المجال للحديث عن العصيان السياسي، وسنتوقف عند طابع العصيان الذي يكون فرديَّاً وغير سياسي، ويرتبط بضمير الشخص وبالقيم الأخلاقيَّة العليا، وهو عصيان يتَّخذ الصورةَ المعروفة عند فورتاس ورولز، ويتبنَّاها دووركين بدوره، حينما أكَّد شرعيَّة مواجهة قانون ظالم بالاستناد إلى مبادئ الدستور (مثلما هو الأمر في حالة الدستور الأمريكي). فمن هذه الزاوية يرى دووركين أنَّ «عصيان القانون له مسوّغ أخلاقي، حتى ولو لم يكن يمتلك مسوّغاً قانونيَّاً»، بل يذهب ميكل وولزر إلى أبعد من ذلك ويقول: «في بعض الأحيان، يجب على من يطيع الدولة أن يبرّر السبب الذي دعاه إلى ذلك، لو ثبت أنَّ الواجب كان يفرض عليه أن يتَّخذ موقف العصيان». وعليه، إنَّ المنشقَّ ليس مجرَّد مجرم بسيط، ما دام يتصرَّف وفق تقديره الخاص بأنَّ القانون لا يتطابق مع الحقّ الذي يزعمه هو. وقد اقترح ميكل وولزر منذ القرن الماضي «أن تضيف الدولة إلى كلّ نصّ قانوني إجراء يفيد أنَّ العصيان بموجب الضمير لا يستوجب العقاب». لكنَّ عدم تجريم العصيان المدني يتطلب اجتهاداً خاصاً من فقهاء القانون؛ لأنَّ دعوة وولتزر تظلُّ مقيَّدة بالسياق الأمريكي الذي «يجعلنا نرى أنَّ قانوناً ما غير صحيح إذا ثبت أنَّه غير دستوري»؛ فقد يكون القانون صحيحاً في الظاهر فقط؛ أي من حيث إجرائيات سنِّه، وعدم تضاربه مع قوانين سارية المفعول، في حين يرى من يتجاوزه، أو يدعو إلى عصيانه، أنَّ مدى تطابق منطوقه مع نصّ الدستور غير واضح، أو أنَّه مشكوك فيه، مثلما يبيّن ذلك دووركين. لنفترض أنَّ الدولة وضعت قانوناً سنة 2000 يفرض على الطلبة تحيَّة العلَم قبل بداية المحاضرة، ثمَّ لنفترض أنَّ الطلبة مارسوا حقهم في العصيان، وامتنعوا عن تحيَّة العلَم أو تقديم السلام الوطني، ولنفترض أنَّ المحكمة الدستوريَّة رأت سنة 2002 أنَّ هذا القانون غير صحيح. فهل خالف الطلبة القانون بين 2000 و2002؟ هنا يصبح مبدأ «لا رجعيَّة في القانون» مبدأ غير صحيح؛ لأنَّ الطلبة لم يخالفوا أيَّ قانون بين التاريخين المذكورين، وهذا الأمر هو ما أشار إليه (Greenwalt) بقوله: «لو تمَّ تأكيد الدعوى المرفوعة، لما كان صاحب الدعوى قد خالف قانوناً صحيحاً، لو نظرنا إلى الأمر نظرة تراجعيَّة». يسهم إذاً العصيان المدني في تحسين جودة القوانين من خلال إلغاء القوانين الظالمة، وتكريس الحقوق الأساسيَّة.

فإذا ما انتفض العصيان المدني ضدَّ قانون ظالم فإنَّه يسهم في تطوير المنظومة القانونيَّة، وهذا الضرب من العصيان هو ما يدعوه بيداو العصيان المدني المباشر. لكنَّنا نجد عصياناً مدنياً غير مباشر من خلال الشعور بواجب التضامن؛ أي من خلال الشعور بالمسؤوليَّة غير المباشرة عن الظلم الذي يتعرَّض له غيرنا. ولتوضيح ذلك، لنفترض أنَّ الدولة فرضت رسوماً باهظة على استيراد اللحوم، فقام طلبة الجامعات باحتلال إدارة الجامعات ومقاطعة الدروس احتجاجاً على ذلك. وسيعترض كلُّ من يرى أنَّ القانون الجديد لا يهمُّ الطلبة مباشرةً، وسيرفض ممارستهم ضغطاً على الدولة. وعندها ستُعَدّ مقاطعة الامتحانات شكلاً من أشكال التمرُّد، ويصبح العصيان طريقاً إلى الفوضى الاجتماعيَّة، ولن يسهم في تربية الأجيال، غير أنَّ التخلي الكامل عن التضامن بين الناس ضدَّ قانون ظالم، إذا نظرنا إلى الأمر من جهة أخرى، قد يصبح ذريعةً للفصل بين السياسة والمبادئ الأخلاقيَّة والسياسيَّة. فلو افترضنا مثلاً أنَّ الشرطة قامت بانتهاك حقوق الإنسان، تحت مسؤوليَّة الدولة، عند التصدي لاحتجاجات الطلبة، فسوف يصبح عندها من حقّ المواطن العادي أن يتَّخذ موقفاً من هذه الانتهاكات، وأن يؤازر الطلبة ضدَّ ما اقترفه أعوانها إزاء المحتجّين السلميين. ويمكن أخذ مثال آخر لتوضيح فكرة بيداو تلك. فحينما أعلم أنَّ موظفاً ما يستغلُّ موقعه أو نفوذه، وأعلم أنَّه سيستمرُّ في صنيعه ذاك لو لم أتدخَّل، هنا، يصبح من واجبي أن أمارس اعتراضاً علنيَّاً على هذا التصرُّف. وهذا ما يدعو بيداو إلى الحديث عن مسؤولية أخلاقيَّة لا تتحوَّل إلى مسؤوليَّة جنائيَّة، لكنَّها تسمح على الأقل بتطبيق المبدأ التالي: «يُعدّ كلُّ شخص مسؤولاً عن أفعال ظالمة، سواء اقترفها هو أم اقترفها غيره، وهو ملزمٌ بأن يتصرَّف على نحو يبرّئه من الخطأ الذي ينتج عن تلك المسؤوليَّة». وبطبيعة الحال يتضامن من يمارس العصيان المدني مع من خضع للقوانين الجائرة، ويرى أنَّ مبادرته مفيدةٌ في مقاومة الظلم. وعندما تنجح المقاومة، وينتهي الصراع السياسي بحدوث التغيير المطلوب، تتمُّ معاقبة أعوان النظام السياسي، الذين تسبَّبوا في دفع الناس إلى العصيان، لكنَّه، وكما ينبّه وولتزر إلى ذلك، «لا يمكن أن نتّخذ إجراءً في حقّ الذين تخلّوا عن المشاركة في المواجهات. ولا يحسُّون بأيّ التزام للقيام بذلك». ويسمح العصيان المدني، في هذا الصدد على الأقلّ، بعدم التورُّط شخصيَّاً في الانتهاكات الجسيمة، وعدم مباركتها، أو التحالف مع مرتكبيها. غير أنَّ المسألة ليست في عمقها بالجنائيَّة ولا بالعقابيَّة؛ بل تظلُّ مرتبطة بمستويات التضامن مع ضحايا حقوق الإنسان. وهنا يرى «المخالف للقانون أحياناً أنَّه ملزمٌ بالعصيان، بحكم انتسابه إلى ‹الجنس البشري»، أو بحكم تضامنه مع المظلوم».

خاتــمة:

لاحظنا وجود تصوُّرين للعصيان المدني هما: تصوُّر سياسي لا يشكُّ في مشروعيَّة القانون، ولكنَّه ينتهكه لأسباب سياسيَّة، بينما يعترض التصوُّر المقيّد للعصيان على القانون الظالم نفسه. فمن يرفض قبول العصيان المدني يرفض انتهاك القانون لأسباب سياسيَّة، انطلاقاً من مبدأ أنَّ الغاية لا تبرّر الوسيلة. كما أنَّ الدول الديمقراطيَّة الغربيَّة، على خلاف غيرها من الدول، لا تحتاج إلى ثورة سياسيَّة، ولا إلى العصيان المدني في نظرها، رغم بروز عدَّة حركات «احتلال وول ستريت في أعقاب الربيع العربي»، ما دام أنَّ المشاركة السياسيَّة مضمونة للجميع في تلك الدول؛ غير أنَّ هنالك من أظهر الحاجة إلى العصيان المدني داخل الدول الغربيَّة ذاتها، من خلال مواجهة القوانين الظالمة، ما دامت هذه المواجهةُ تساعد على تطوير الترسانة القانونيَّة والحياة السياسيَّة، مؤكّداً أنَّ الدول غير الليبراليَّة تعيش في مرحلة دقيقة، ما دامت لا تميّز بوضوح بين العصيان والعنف والثورة. وقد حاولنا أن نبرز أهميَّة العصيان المدني في الشرق والغرب من جانب المسؤوليَّة الشخصيَّة ومحاربة الفساد. فهو مهمٌّ من جهة أولى في إعادة صياغة مفهوم القانون من زاوية مشروعيته الدستوريَّة، وهو مهمّ من جهة ثانية في إثارة موضوع المسؤوليَّة الأخلاقيَّة والتضامن مع ضحايا القوانين الظالمة. وانتهينا إلى وجوب التمييز بين مجرم الحقّ العام والمنشقّ عن القانون، داعين إلى ضرورة مراعاة هذا التمييز داخل القوانين الداخليَّة، من أجل تعزيز دولة الحقّ والقانون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق