المقالات

في الحاجة للتصوف والفلسفة.. قراءة لإرث ابن رشد وابن عربي (أبو يعرب المرزوقي)

لماذا ابن رشد وابن عربي؟

أخذت العلمين ـ ابن رشد وابن عربي بسبب القصة الشهيرة بينهما ـ للرمز إلى لغتين أشارا إليهما في حوارهما حول علاقة الفلسفة بالتصوف أو علاقة ضربين من “المعرفة”:
1 ـ الفلسفية التي كانت تستعمل لغة تعتبر لغة العلم والعقل في عصرهما (ابن رشد)..  
2 ـ والصوفية التي كانت تستعمل لغة تعتبر لغة الكشف والوجدان في عصرهما (ابن عربي).
وكان يمكن أن آخذ علمين آخرين معاصرين لهما ينتسبان إلى المشرق وهما السهرودي والرازي رمزين لنفس الإشكالية من منظورين مختلفين أسلوبيا وكلاهما يحدد نظام الفكر في الحضارة الإسلامية النسقي النهائي قبل الأفول:

1 ـ  صوفي فلسفي مغربا في علاقة بفلسفة أرسطو.

2 ـ صوفي كلامي مشرقا في علاقة بفلسفة أفلاطون. 

فصوغ هذا النظام كان مدار الفكر عندهم نظام توحده إشكالية العلاقة بين الصوفي الكلامي (السهرودي والرازي) والصوفي الفلسفي (بن رشد وابن عربي) ومن ثم مدار العلاقة المضاعفة بين الديني الطبيعي والفلسفي والديني المنزل والفلسفي الأرسطي والإفلاطوني في الحالتين. 
وتلك هي علة حضور لغة التصوف فيهما بجوار لغة المنطق في الحالتين: السهروردي وابن عربي تحضر عندهما لغة التصوف لقول التجربتين الطبيعية والروحية. والرازي وابن رشد تحضر عندهما لغة المنطق لقول التجربتين الطبيعية والروحية. وجميعهم على وعي حاد بالفرق بين اللغتين وبين التجربتين لا يقابلان بينهما بصورة تجعل إحداهما تقول الحقيقة والثانية لا تقولها بل هما معا تقولانها.

وإذا كان السهروردي لا يخفي صلته بالأديان الطبيعية وإحالته إلى ما بين الإفلاطونية والحكمة الشرقية ممثلة بالزرادشتية والقدامى الذين يشير إليهم بعد أن قطع مع المشائية. فإن ابن عربي أبقى على قابلية تأويل فكره تأويلا لا يناقض الأديان المنزلة (تأويل ماسينيون ذو الميل النصراني) والأديان الطبيعية (تأويل هرتون ذو الميل الهندوسي).
والرازي كما هو معلوم ميال إلى الأفلاطونية بتوسط السينوية إيجابا كما هو بين من قوله بالمثل وابن رشد يكاد يؤله أرسطو بتوسط السينوية سلبا (أي إنه يعتبر ابن سينا سببا في فساد الفلسفة الارسطية ما جعل نقد الغزالي وجيها ليس إزاء الفلسفة الحقة -أرسطو-بل إزاء تحريفها ـ ابن سينا. 

وقد سبق فبينت أن وحدة الوجود والتجلي عند ابن عربي أرسطية الميل ويكفي تأويل الأعيان الثابتة في العدم بالصور التي بالقوة وفي الرؤية قلب للأرسطية لأن العدم عنده هو المادة عنده والتصوير هو حلول الرب في الأعيان الثابتة في العدم. 

والهدف من هذه المحاولة التي ستمثل خاتمة لتعليقاتي على ترجمتي لنص هيدغر ـ في شكلها النهائي ـ وجوابا على إشكالية التقديم للغز لغة التصوف عنده. وهو البحث في ما وصفته خيارا هيدغرانيا يجمع بين اللغتين. 

ودافعي مضاعف:

1 ـ فأولا هدفي أن أبحث في المسألة لأني أريد أن أعير مدى صلاحيته للتكوين الفلسفي الذي يناسب الحاجة في جماعة ليس لها الزاد العلمي الذي يمكنها من التعالي عليه والزعم بأن “العلم لا يفكر”. فهي تكتفي بتجاوز ليس من علم “لا يفكر” بل من جهل يدعي التفكير.
 
2 ـ وثانيا أبحث في ما يتصورونه تعييرا للعلم دون علم بالموجود ويتوهمونه قادرا على النفاذ إلى الوجود. لمحاولة فهم طبيعة اللغتين وعلة الانفصال والاتصال بينهما في الفلسفة وفي الدين.. بمعنى أن حضور التصوف في الفلسفة وحضور المنطق في الدين كلاهما مما يحير الباحث في الرؤيتين إذا أبقى على الفصل بينهما.

والفصل بينهما يحول دون فهم القصد من اعتباري القرآن ليس نصا دينيا فحسب ولا هو نص فلسفي فحسب، بل هو نص في الواحد المشترك الذي ينبع منه الديني والفلسفي للجواب عن علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب واستراتيجية سياسية تتأسس عليها فتكون استراتيجية الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.

 القرآن عرض نقدي للتجارب الدينية لاكتشاف الكوني فيها أي الديني من حيث هو ديني في كل دين. وهي نهاية الفلسفات الجزئية التي تمثلها تجربة فرد (كل أمة لها فيلسوف بلسانها)، بل هي توليفة من نظام التجارب الفلسفية في تحديد العلاقة بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.

 وهذه السياسة التي تتأسس عليها تتميز بالكونية (تشمل كل البشر) والختمية لم تعد الإنسانية بحاجة لرسالات أخرى، لكأن التلقي صار “نصيب” الإنسان من حيث هو إنسان، ويكفي مخاطبة ما جهز به للقدرة على النظر والعقد معرفة واستعمارا في الأرض وعلى العمل والشرع قيمة واستخلافا فيها:

الرسالة الخاتمة نهاية الأديان الجزئية التي تمثلها تجربة فرد (كل أمة لها رسول بلسانها)، بل هي توليفة من نظام التجارب الدينية بمنطق التصديق والهيمنة في سياسة عالم الشهادة بقيم عالم الغيب (الرسالة الخاتمة خطاب للعقل والوجدان في آن): 
القرآن عرض نقدي للتجارب الدينية لاكتشاف الكوني فيها أي الديني من حيث هو ديني في كل دين. وهي نهاية الفلسفات الجزئية التي تمثلها تجربة فرد (كل أمة لها فيلسوف بلسانها)، بل هي توليفة من نظام التجارب الفلسفية في تحديد العلاقة بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.

وذلك هو مجال التفلسف وهو عين مجال التدين: القرآن استراتيجية نقدية لسياسة عالم الشهادة بقيم متعالية ومعيارها مدى الانشداد إليها عند الجميع. وبهذا المعنى نفهم الآية 38 من الشورى لأن الأمر أمر الجماعة وهي التي تسوسه بالتشاور في ما بينها. 

1 ـ وهذه السياسة ما كانت لتكون ممكنة لو لم تنف الرسالة الإحاطة والمطابقة المعرفية في النظر وتعوضهما بالاجتهاد الإنساني أو التواصي بالحق الذي يشارك فيه الجميع وترجئ الحسم في العلم التام للآخرة.

2 ـ وهي كذلك تنفي التمام والمطابقة القيمية في العمل وتعوضهما بالجهاد الإنساني أو التواصي بالصبر الذي يشارك فيه الجميع وترجئ الحسم في العمل التام للآخرة.  
ولأعد الآن إلى رأي هيدغر الذي يدعي أن “العلم لا يفكر” وأن الفلسفة بالشكل الذي يعرض تاريخها عرضا تغلب عليه لغة التصوف نسيت سر التفكير الذي يعنى بالحقيقة فيتجاوز الموجود إلى الوجود أو الانطيك إلى الأنطولوجيك. 

وهذه الرؤية تبدو لي نكوصا ليس لأنها تستعمل لغة التصوف بل لأنها تقابل بين الفكر في الأنطيك والأنطولوجيك فتتصور الولوج إلى الأنطولوجيك من خارج الأنطيك ممكنا وتنسبه إلى “هدية” المصير.

وذلك هو سر القول بما يشبه الكشف الصوفي، لكأنه البديل من البحث العلمي الذي ينفذ من الموجود بالانشداد إلى الوجود دون الإحاطة المستحيلة على الجميع بمن فيهم الرسل والفلاسفة بسبب وجود الغيب.

ولو قال القائل إن مرحلة من العلم صارت لا تفكر ـ لأنها صارت تقول بالمطابقتين المعرفية والقيمية ـ لقبلنا ذلك ولكان مما لا يستحق النقاش. لكن الزعم بأن العلم من حيث هو علم لا يفكر وأن البديل منه للتدارك هو هذه اللغة الصوفية التي تعتمد لغة طبيعية معينة على أنها مصدر الإلهام هو المشكل.

والمعلوم أني قد قدمت لنص هيدغر ـ تفسير رؤية بارميندس وعلاقتها بما تلاها من نسيان للوجود (المستوى الأنطولوجي) اقتصار على الموجود (المستوى الأنطيكي) ـ بعد نقله إلى العربية مؤخرا. وقد نشرته في وسائل التواصل الجمهوري قطعا مع حصره في مبتذل النوازل اليومية. فالتواصل الجمهوري لا ينبغي أن يبقى مقصورا على التقريب الجمهوري. فهذا ليس كافيا في تكوين شباب مطالب بأن يشارك بعمق في فهم إشكاليات العصر ليشارك في الاستئناف ومنها الشأن السياسي بل وخاصة السياسي بأبعاده التالية:
1 ـ فالأصل هو الحكم من حيث هو قوامة الشأن العام بالنيابة عن الجماعة ويتفرع عنه أربعة عناصر مقومة للفعل السياسي.

2 ـ قوامة شروط سد الحاجات التي تصدر عن القيام العضوي لكيان الإنسان رعاية وحماية وذلك هو الاقتصاد.

3 ـ قوامة شروط سد الحاجات التي تصدر عن القيام الروحي لكيان الإنسان رعاية وحماية وتلك هي الثقافة (بكل أبعادها العلمية والفنية).

4 ـ وأثر الاقتصادي في الثقافي وهو دوره في علاج الآجل الذي هو روحي وهو العلوم وتطبيقاتها والفنون وتطبيقاتها في تربية البشر وتكوين ألاجيال.
5 ـ وأثر الثقافي في الإقتصادي وهو بدوريه علة فاعلة في سد نوعي الحاجات الاقتصادية والثقافية (العلوم وتطبيقاتها) ودوره علة غاية في سد نوع الحاجات الاقتصادية والثقافية (الفنون وتطبيقاتها).

 تقديم خطاب من جنس خطاب هيدغر في النظر أي في علاقة الفلسفة بالعلوم، يشبه تقديم خطاب التصوف في العمل أي في علاقة الفلسفة بالسياسة. وفي الحالتين نجد أنفسنا أمام مفاضلة بين ضربين من التجربة الإنسانية

وهذه المجالات كلها يمكن الكلام عليها باللغة الطبيعية بالإحالة إلى ما لا يمكن أن يقال بها لأن دورها فيها يفترضها معلومة باللغات العلمية الخاصة بها ومن ثم فإذا لم يكن الشباب حاصلا على الزاد الكافي فإنه لا يمكن أن يسهم في النهضة الفعلية للأمة.
والمشكل الذي وضعه كلام هيدغر في هذا المقال الذي نقلته إلى العربية قد يجعل أي شخص يتصور الفلسفة قابلة للمشاركة في فعل النهوض إذا بقيت من جنس كلامه في جيل من الشباب لم يحصل على الثقافة العلمية.

فحصوله عليها هي التي قد تحوجه لما يمكن أن يعتبر دعوة لتجاوز العلوم “بحجة أنها لا تفكر” تجعله يبحث عما يضفي عليها معنى مستمدا من التجربة الثانية التي يتكلم عليها.
فتقديم خطاب من جنس خطاب هيدغر في النظر أي في علاقة الفلسفة بالعلوم، يشبه تقديم خطاب التصوف في العمل أي في علاقة الفلسفة بالسياسة. وفي الحالتين نجد أنفسنا أمام مفاضلة بين ضربين من التجربة الإنسانية:

1ـ واحدة تتعلق بالتجربة العلمية التي هي ثمرة حوار بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين الإنسان وذاته من حيث ما فيهما من طبيعي.

2 ـ والثانية تتعلق بالتجربة العملية التي هي ثمرة حوار بين الإنسان والإنسان وذاته وما فيهما من روحي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق