المقالات

العدالة الدولية في رسائل النور(إبراهيم القادري بوتشيش)_2_

عدالة شكلية ومصلحية:

انتقد المفكر التركي سعيد النورسي نظام العدالة في الغرب ، لأنه نظام  مهما بدا منتظما ظاهريا وشكليا، فإنه منحرف في العمق انحرافا واضحا عن جادة العدالة الحقيقية ، وهو في نظره أيضا  نظام فاسد في الأساس ، لأنه يعاني من أزمة معنوية وروحية  بسبب عدم اتخاذه مرجعية  العدالة الإلهية المطلقة، وعدم مسايرته  لمصلحة البشرية ، فالمصلحية والنفعية والأنانية التي تتبناها الأجهزة الحاكمة في الغرب سواء داخل بلدانها أو على مستوى المحافل الدولية ، هي الإطار المتحكم في القوانين التي تصدرها. ولإبراز صحة مقولته ، يعطي دليلا على ذلك من خلال استحضار نموذج حكومة أنجلترا ، فرغم أنها تبدو عادلة ظاهرا وسطحيا، إلا أنها في العمق متحكمة ومهيمنة في مصير الشعوب ، والمثال الواضح الذي يعكس هذه الحالة يتمثل في هيمنتها واستبدادها في كل من الهند ومصر[1] .

و لتأكيد سلامة وجهة نظره ، يسرد نموذجا آخر يعكس العدالة الشكلية للغرب ، الفارغة من أي محتوى حقيقي ، وهو النموذج الأمريكي الذي يزعم أنه رائد الحرية ، لكنه يطبق سياسة عنصرية ضد الهنود الأصليين ، أبعد ما تكون عن العدالة [2].

والحاصل أن النورسي يرى في عدالة الأنظمة الغربية الديموقراطية عدالة تشع ببريقها الظاهري ، بيد أنها تخفي في باطنها قوانين تسلطية جائرة .

عدالة منافقة وملتوية:

من خلال دراساته وتحليلاته لنظام العدالة في الغرب الذي يزعم أنه مهندس الديموقراطية والمساواة، وقف النورسي على ثغرة كبيرة انتقدها في هذا النظام ، وهي تستّره تحت غطاءين : أولهما غطاء الحرية الخارجة عن دائرة الشرع  [3] ، و كل حرية من هذا القبيل هي في تصوره (( استبداد أو بهيمية وحشية )) [4]، لأنها خارجة عن نطاق الفطرة الإنسانية وميزان نظام الكون . أما الغطاء الثاني فهو غطاء الإنسانية الذي يتستر خلفه كل رؤساء أوروبا المتوحشين (( العديمي الضمير الجائرين )) [5].

نفس الانتقاد وجهه الأستاذ النورسي للعدالة الأمريكية التي تزعم رعايتها للحرية والمساواة، بينما أظهر الزمان أنها كبّلت بثلاثمائة من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليون من الهنود منذ ثلاثمائة سنة ، ونفذت عليهم قوانينها الجائرة بأقسى صور الظلم ، وأدارت ظهرها للشعارات التي رفعتها ، وهذا ما يبرّر قوله عن الولايات المتحدة بأنها (( أعطت لقانونها الجائر هذا اسم العدالة والانضباط ، ودفعته إلى نار الظلم ))[6] . و يستشف من هذه النصوص أن النورسي انتقد هذا الشكل من القوانين الغربية التي تجسد وجها من أوجه النفاق الذي يظهر شيئا ويبطن شيئا آخر . لذلك سماه بالقانون البشري الغادر[7] . وفي نفس المنحى يستبق النورسي الزمن ، و يتنبأ بحسّه ونظرته المستقبلية الواعية أن الولايات المتحدة ستكون أعتى قوة طاغية في العالم ، فيقول عنها : (( هذه الدولة غدت مقتدى ذلك الاستبداد القادم في المستقبل ))[8].

ويستشف من هذه المقولات أن النفاق والطرق الملتوية التي تتميز بها العدالة الغربية هي في حد ذاتها نوع من الاستبداد الذي يعصف باستقرار العلاقات الدولية.


[1] صيقل الإسلام ، ص 139

[2] ملحق قسطموني ، ص 126

[3] سيرة ذاتية ، ص81

[4] صيقل الإسلام، ص536 .

[5] المكتوبات ، ترجمة د.إحسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر للنشر، (ط2) القاهرة 1413 هـ \ 1992 م  ص535 .

[6]  ملحق قسطموني ، ص  126

[7]  ملحق أميرداغ ، ص 377

[8] نفس المصدر والصفحة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق