المقالات

الإلحاد: هل هو موقف عقلي أم مأزق نفسي؟ (إبراهيم الدويري)_1_

لم يكن الملاحدة منذ فجر التاريخ إلى يوم الناس هذا شيئًا مذكورًا عدديًا، فهم قلة في كل مجتمع، ويمثلون نسبة المرضى النادرة في أي مجموعة كالشواذ. ورغم قلتهم أصبح الحديث عنهم عربيًا متداولًا في أكثر من مناسبة بعد الانتصار الصوري لمجاميع الثورة المضادة، وحالة اليأس التي أصابت الشباب العربي والإسلامي جراء العسف والظلم والقتل والتهجير الذي تعرضوا له في أكثر من بلد حلموا بالرفاه والعيش فيه بكرامة وحرية.

وقد صحب الحديث عن الإلحاد في مثل تلك الحالات أسئلةٌ تستفسر عن الأسباب الحقيقية الداعية للإلحاد والشك: فهل هو قناعة عقلية؟ أو علة نفسية تستدعي مكبوتًا ترسخ في اللاوعي في مرحلة ما من عمر الإنسان، فكان الإلحاد تنفيسا عنها؟ وللإجابة عن هذين السؤالين يستحسن الوقوف مع ظاهرة الإلحاد في الغرب لنرى الأسباب الحقيقية له حسبما استقرت عليه الدراسات النفسية المعاصرة. 

لم يعد باحثو علم النفس والخبراء المهتمون بالإلحاد ينظرون لمظاهره كإشكالات علمية نابعة من النظر والتفلسف، أو تضارب الأدلة وتهافتها. فكل ذلك حيلةٌ مكشوفة تستر بها علماء النفس الملاحدة قرنًا من الزمن حاولوا خلاله ترسيخ بحث الإيمان وقضاياه ضمن الإشكالات النفسية هربًا من مواجهة عقدهم النفسية والاجتماعية.

في عام 1999م نشر عالم النفس الأمريكي البروفسيور بول فيتز Paul Vitz كتابًا عوانه “نفسية الإلحاد: إيمان فاقد الأب”. ومنذ صدوره تنبه علماء النفس لدور المشاكل النفسية المترسبة في تبني الإلحاد. وتنبه فيتز لتلك الحقيقة التي عاشها هو نفسه، لم ترق لرواد الإلحاد المعاصرين، فانزعجوا من كتابه والبحوث التي كتبت على هامشه، واعتبروا نشره أمرًا في غاية الخطورة لهدمه الأبراج العاجية التي عاش فيها أغلب منكري الخالق، ومحاربي الأديان، ومناهضي فطرة البشر في عصرنا الحالي. 

المزعج عند الملاحدة في تنبيه بول فيتر على دور المشاكل النفسية في تبني الإلحاد أن الدراسات الميدانية، وسير كبار الملاحدة من رواد التنوير الأوروبي، تؤكد ما ذهب إليه. فقد نشر عالم النفس اليهودي بنيامين هلاهمي عام 2007 م دراسة مهمة بعنوان “النمط النفسي للملحد”، أجراها على أعضاء “الاتحاد الأمريكي للإلحاد المتقدم”. وقد كشفت هذه الدراسة أن نصف الذين أنكروا وجود الإله قبل عمر العشرين من الشباب الذين أجريت عليهم الدراسة ألحدوا بسبب مشاكل نفسية تتعلق بفقد أحد الوالدين أو معاناة في الطفولة أو اختلال أسري.  وبسبب القناعات العلمية الناشئة عن عدة دراسات مشابهة اعتبر كثير من الباحثين “أن ما يطرحه الملاحدة كأسباب معرفية (موضوعية ومنطقية) لإلحادهم ما هي في معظم الأحيان إلا قناع تختفي وراءه العوامل النفسية والشخصية والاجتماعية”1

لم يبدأ البروفسيور بول فيتز الغوص في أعماق العلاقة المتكتم عليها خلال قرن بين الإلحاد والمشاكل النفسية من فراغ؛ فالرجل قد خبر ذلك القاع المظلم، وهو ما أكسبه ثقة وشجاعة على الاقتحام. وقد لخص تجربته مع الإلحاد وأسبابه بقوله: “بالنظر إلى خبرتي الخاصّة فقد اتضح لي أن الأسباب التي جعلتني ملحدًا ومتشككًا عندما كان عمري 18 إلى 38 سنة كانت أسبابا سطحية، وغير منطقية، وبلا نزاهة فكرية أو أخلاقية، وأنا مقتنع أن الأسباب نفسها هي الشائعة الآن بين المثقفين، وخصوصًا علماء الاجتماع”، هذه تجربة فيتز فهل هي بالفعل الأسباب التي دعت غيره من فلاسفة الغرب الملحدين إليه، لنرى ذلك من خلال النظريات التالية. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق