المقالات

صدقة الفطر أو يوم بدون تسول:

شرع الله تعالى صدقة الفطر أو زكاة الفطر([1]) طهرة للصائم وعَوْنا للمحتاجين والفقراء بعد شهر رمضان، لقول ابن عباس:” فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ “([2])، وذلك  لكي تعود النفس إلى فطرة الكمال التي فطر الله الناس عليها، وتتخلص من صفاتها البهيمية فتغدو إنسانية سامية من كل الوجوه، فزكاة الفطر هي التعبير العملي لمصداقية النفس بطاعتها لربها التي تتجلى بعملها التكافلي السامي؛ أي بما تقدمه من الزكاة([3]).

كان المستشرق فانسون لاكاردير Vincent Lagardère  ([4]) ممن اهتم بتاريخ الغرب الإسلامي في العصر الوسيط، وقد أثاره ذلكم البعد الاجتهادي المرن الذي ذهب إليه  ابن عرفة من حيث رأى جواز إخراج زكاة الفطر أول رمضان خلافا للجمهور، واعتبره دليل عبقرية الاقتصاد الإسلامي ومرونته، وقد أفتى بذلك ابن عرفة إذا لزم ودعت حاجة الفقراء إليها وأخذها العمال قيمة كما ذكر ذلك صاحب المعيار([5])، وهذه فتوى راعى فيها صاحبها واقعه، لهذا كان العالم كما قال ابن القيم:”من يتوصل بمعرفة الواقع والفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله”([6]).

ومن المعلوم أن  الشرع جعلها على كل مسلم كبير وصغير ذكر وأنثى لكي يستشعر كل أفراد المجتمع دورَهم ومساهمتهم “بحس مشترك” في تنمية الجماعة وتماسك بنية المجتمع المسلم بما تمنحه زكاة الفطر من شعور بالتكافل والتعاضد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أدوا زكاة الفطر عن كل من تَمُونُون”([7])، لهذا لم يُشترط فيها الغِنى، حتى يساهم كل واحد بما يستطيع عن طيب خاطر، أو لنقل لتعميم الشعور بالحاجة للبذل والعطاء، أو ما يسميه هولكر فايس Holger Weiss الشعور بالانتماء للجماعة في دراسته عن أثر زكاة الفطر في صوكوتو شمال نيجيريا([8])، وبذلك “تجب زكاة الفطر على بعض من يُعَدُّون فقراء شرعا، إذ  يدفعونها إلى من هم أفقر منهم، وبذلك تكون زكاة الفطر موجهة إلى أفقر الفقراء”([9])، فقد روى ابن عمر أن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض صَدَقَةَ الفِطْرِ – أَوْ قَالَ : رَمَضَانَ – عَلَى الذَّكَرِ ، وَالأُنْثَى ، وَالحُرِّ ، وَالمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ” فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، ” يُعْطِي التَّمْرَ ” ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ ، فَأَعْطَى شَعِيرًا ” ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ” يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ ، وَالكَبِيرِ ، حَتَّى إِنْ كَانَ لِيُعْطِي عَنْ بَنِيَّ ” ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ” يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا ، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ “([10]).

         وتشير بعض الأحاديث إلى غاية إنسانية تنموية سامية من وراء إقرار هذه الصدقة، وهي تخليد يوم بدون تَسَوُّل تمهيدا للقضاء على هذه الآفة نهائيا في المجتمع المسلم، فالمطلوب أن يحمل المتصدقون صدقاتهم بأنفسهم للمحتاجين في بيوتهم وأماكن عيشهم دون إلجائهم لطلبها، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم”([11])، ولا نعتقد أن هذا الأمر “كي لا يتشاغل الفقير بالمسألة عن الصلاة” كما ذهب بعض الفقهاء([12])، وإنما  هو تفكير استراتيجي نحو تنمية مستقبلية تقف في وجه تنامي التسول حتى لا يصبح صناعة وحرفة([13]).

إن الإسلام يريد من وراء صدقة الفطر تعميق الإحساس لدى الجمهور بمعاناة المعوزين والفقراء والمساكين بعد تجربة الانقطاع عن الطعام والشراب الروحية خلال شهر بالكامل، لتكون صدقةُ الفطر تتويجا لهذه التجربة، وبداية لعلاقات جديدة مع جزء المجتمع المتضرر والمحتاج، وبفضل هذه الموجة الجديدة من مشاعر التعاطف والتكافل والتي تتجدد مع كل تجربة صوم تطوعي على مدار السنة، لا تتوقف الصدقة عند حدود المقدار المحدود في زكاة الفطر، لأن اختزال الصدقة في الفطر داخل  مجتمعات يغلب عليها الفقر والحاجة تحوله إلى مجرد فعل تجميليCosmetic Act  كما يصفها أندرياس كريسمان Andreas Christmann ([14]).

إن صدقة الفطر إعلان أخلاقي كوني لانطلاق تنمية ينال فيها كل واحد حقوقه، بل ويتحمل المجتمع والدولة معا المسؤولية اليومية عن رعاية العاجزين عن العمل والإنتاج عبر مؤسسات تحفظ كرامتهم، وتساعدهم على الاندماج التدريجي في دينامية المجتمع ونسيجه كما تقول روزاليند كيرفن Rosalind Kerven بروح فيها السعادة والفرح([15])، إذ المفروض أن تخلو الفضاءات العامة للمدن الإسلامية من المتسولين، ذلك أن التسول مظهر من مظاهر التخلف الاجتماعي([16])، كما أن منظر التسول في المجتمع بقدر ما يؤذي المشاعر الإنسانية يؤشر على سقوط حاد في القيم الإنسانية، ويُسائل الضمير المجتمعي من جهة ويدين النموذج التنموي الذي لم يتمكن من معالجة أعطابه الداخلية عبر توزيع عادل ومنصف لثرواته بين أبنائه.

مقتطف من كتاب: إدريس مقبول:الزكاة: سؤال التنمية والعدالة التوزيعية(كتاب الأمة: ع197، 1444هـ)


([1]) _ يطلق على الزكاة الشرعية في القرآن الكريم صدقة، وقد قال الماوردي:”الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى”، يراجع: الماوردي،  الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص108.

([2]) _ سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، حديث رقم: 1406.

([3]) _ محمد أمين شيخو، الزكاة: ثالث المدارس العليا للتقوى، جمعه عبد القادر يحيى، دار نور البشير للطباعة والنشر، ط1، 2000، ص20.

([4]) _ Vincent Lagardère, Histoire et société en occident musulman au moyen âge: Analyse du Mi°Yar D’Al-Wansarisi, Casa de Velazquez; Édition : 1,  2002, p34.

([5]) _ الوزنشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقيا والمغرب في فقه النوازل، تحقيق محمد عثمان، بيروت: دار الكتب العلمية، ج1، ص530.

([6]) _ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين،  ج1، ص69.

([7]) _ ابن زنجويه، الأموال، كتاب الصدقة وأحكامها وسننها، باب ما يستحب من إخراجها قبل صلاة العيد يوم العيد، حديث رقم: 1961.

([8]) _ Holger Weiss‏,  « The Concept of Islamic Economy as Articulated in Sokoto : Social Justice and State Responsibility »   in Social Welfare in Muslim Societies in Africa, Nordic Africa Institute, 2002 , p171.

([9]) _ سعيد العبيدي، الاقتصاد الإسلامي، دار دجلة، ط1، 2011، ص157.

([10]) _ صحيح البخاري، كتاب الزكاة، أبوبا صدقة الفطر، باب صدقة الفطر على الحر والمملوك، حديث رقم: 1451.

([11])_ ابن زنجويه، الأموال، كتاب الصدقة واحكامها وسننها، باب ما يستحب من إخراجها قبل صلاة العيد يوم العيد، حديث رقم: 1961.

([12]) _ أبو الحسن المرغيناني، الهداية في شرح بداية المبتدي، تحقيق طلال يوسف، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ج1، ص115.

([13]) _ عبد الله البريدي، التنمية المستدامة: مدخل تكاملي لمفاهيم الاستدامة وتطبيقاتها مع التركيز على العالم العربي، الرياض: مكتبة العبيكان، ط1، 1436هـ، ص211.

([14]) _ Christmann, A « An Invented Piety? Subduing Ramadan in Syrian State Media » ; . in Muslim Traditions and Modern Techniques of Power, (Armando Salvatore ed) (Yearbook of the Sociology of Islam). Hamburg; New Brunswick; London : Lit Verlag, 2001. P258.

([15]) _ Rosalind Kerven, Ramadan and Id-ul-Fitr, Evans Brothers Ltd, 2010, p14.

([16]) _ سجى الفاضلي، دور الضبط الإداري البيئي في حماية جمال المدن: دراسة مقارنة، المركز العربي للنشر والتوزيع، ط1، 1438هـ،ص158.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق