المقالات

جمال الدين الأفغاني رائد الصحوة الإسلامية

من السنن الربانية النافذة التي لا تتخلف أن الأمة إن زاغت عن المنهج الذي ارتضاه الله عز وجل لها لتحكم به كل مجالات الحياة : السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها، ابتلاها الله عز وجل بالغثائية والهوان، وتعدد الأعداء وواجهات النيل منها، وأصابها ما أصاب الأمم من اضمحلال وتخلف.

حداأ  لكن الخير بالأمة موصول، وبواعث النهضة والتجديد قوية. فقد صاحب هذا الابتلاء تمحيص واختبار ثم اصطفاء لممثلي الحق وحاملي راية الإصلاح،  جند الله المرشحين لمعالجة الرزايا القلبية والنفسية والقضايا الكبرى، إبراما للعرى المنقوضة {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[1].
هي شروط ونواميس جعلها الله تعالى في خلقه، من استوفاها وأخذ بها استحق التمكين والغلبة، ومن حاد عنها مني بالهزيمة والسقوط {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ، فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[2] وسنن الله لا تحابي أحدا.

التغيير في نظام حكم من المنهج النبوي إلى المنهج الوراثي وبيعة الإكراه المطلية بصبغة شرعية، جعل الغلمان تولى على المسلمين وتسوقهم سوق الغنم[5]. يقول ابن خلدون الذي عاش التجربة وعاصرها: “ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخَوَله، ويُؤنس منه العجز عن القيام بالملك، فيقوم به كافِلُه من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله، ويوري بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد، ويجعل ذلك ذريعة للملك فيحجب الصبي عن الناس، ويعوده إليها ترف أحواله ويُسيمه في مراعيها متى أمكنه، وينسيه النظر في الأمور السلطانية حتى يستبد عليه وهو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير وإعطاء الصفقة وخطاب التهويل، والقعود مع النساء خلف الحجاب”[6].

فمع مطلع القرن العشرين، استفاق المسلمون على صبح أسود انهار فيه آخر معاقلهم، شوكة الدولة العثمانية. فإن تعددت أسباب هذا السقوط المدوي من حروب صليبية، وبلقانية، ومشاركة العثمانيين في الحرب العالمية، وصراعات داخلية كان لها الأثر البليغ في انهيار الإمبراطورية الإسلامية وغيرها من الأسباب التي دونها المؤرخون ذووا النظرة القصيرة المفصلية، فإننا لا يمكن أن ندرس تاريخ الدولة العثمانية، وأسباب سقوطها بمعزل عن تاريخ الأمة الاسلامية منذ أن أقام صاحب رسالة الاسلام عليه الصلاة والسلام  للمسلمين دولة ومجتمعا، إلى عصرنا هذا دراسة فاحصة نخلص من خلالها: أن سقوط الدولة العثمانية ليس إلا نتيجة حتمية  لتراكمات وعوامل كان منطلقها يوم انحرف المسلمون عن المنهج. وأعني بالمصطلح هنا منهج الحكم، قال عليه الصلاة والسلام “لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة”[3]، وقال سبحانه عز وجل: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ  أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
فكل الأسباب إنما مردها بالدرجة الأولى إلى الابتعاد عن الشريعة الاسلامية وخاصة في الحكم، لأنه العمود الفقري لدولة الإسلام وبه يستقيم حالها. ف”الفساد في الحكم هَدم أخلاق الأمة، ونخر في اقتصادها، وبدد ثرواتها، وشرد المستضعفين، ودفع الفتيات البائسات إلى سوق البغاء، وخطف لقمة العيش من أفواه الأطفال، وتسبب في تفشي البطالة والمخدرات والمرض والخمور والعهارة ومدن القصدير والرشوة والمحسوبية وطابور المشاكل” العدل: الإسلاميون والحكم”[4].

 انحلت أزرار الثوب فسنحت الفرصة للمتربص الغربي الذي ما نامت عيناه منذ أن كانت العرى موصدة، فاستعمرت بلاد الإسلام وتفشت فيها الأفكار والنظم المادية الشيوعية والرأسمالية والعلمانية، لتنافس فكرا ونظاما كان سباقا لها في الميدان بتجربة ناجحة قادت العالم لفترة. فقد ” غزا العالم الاسلامي، منذ سقطت الدولة الاسلامية صريعة بأيدي المستعمرين، سيل جارف من الثقافات الغربية، القائمة على أسسهم الحضارية، ومفاهيمهم عن الكون، والحياة والمجتمع. فكانت تمد الاستعمار إمدادا فكريا متواصلا، في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأمة، وسر أصالتها، المتمثل في الاسلام “[7].

فكان لا بد من هبة فكرية، ونهضة اسلامية لمواجهة الاستيطان الاستعماري والتصدي للغزو الفكري، هذا الأمر الذي سيجسده ويطلق شرارته الأولى السيد جمال الدين الأفغاني رجل الثقافة والعلم رحمه الله، عن طريق إحياء الأفكار الإسلامية بعد أن أدرك الفساد الذي أصاب المجتمع الإسلامي، ودعوته الى وحدة الدار بالتضامن والتكتل الإسلامي ودفع القنوط واليأس عن المسلمين في المشرق، وكذا التشكيك في الشريعة الإسلامية بعد الاحتلال العسكري والمعنوي القادم من الغرب.. وقد بدأ محاولته هذه قبل سقوط الدولة العثمانية سقوطها المدوي عندما كتب إلى السلطان عبد الحميد الثاني رسالة نسج فيها مشروعا سياسيا وتنظيميا، قائما على أساس اللامركزية لإنهاض ” الخلافة ” العثمانية بعدما أنهك المرض الممالك الإسلامية كلها، وسرى في الجسد داء التأخر والجمود والاحتلال. لكن “حرص السلطان عبد الحميد على إحكام قبضته على المركزية القاتلة للهمم، قد منع هذا المشروع من أن يرى النور”[8].

في بلاد الأفغان الذي لم تسلم هي الأخرى من الوباء كانت محاولة الأفغاني القصيرة في النهضة والإحياء حاضرة، إلا أن عين الاحتلال لم تكن نائمة، فقد واجه المحاولة بالكيد والسلاح. الأمر الذي دفع الأفغاني للرحيل إلى بلاد الهند التي أرهقها طغيان الاستعمار الإنجليزي. فانطلق في بذر بذور الحرية والجهاد في سبيلها، وإصلاح الأخلاق والتمسك بالفضائل، وتصحيح العقيدة الإسلامية السليمة بعد أن طغى على البلاد التيار المادي الطبيعي، فكتب رسالته المعروفة ” الرد على الدهريين”.                                 

       فكان من الطبيعي أن يتدخل المحتل مرة أخرى لإفساد البذور قبل نباتها، فأجبر الأفغاني قهرا على مغادرة الهند. و”رحل الرجل الى مصر ليواصل رسالته في البعث والإيقاظ…ولم تكن مصر بأحسن حالا من الهند، فقد استدان إسماعيل وبالغ في القرض والتبذير حتى جر الاستعمار إلى وطنه. وقد ألف الناس الاستكانة والانصياع وأخذ يفتح العيون على ما جرى في البلاد من أهوال، ويتصدر المجالس ليعلن آراءه في الحكم وبرامجه في الإصلاح. ثم اختار صفوة من تلامذته ودفعهم الى الكتابة في الصحف، ليصوروا الفساد الداخلي ويفضحوا الطغيان الخارجي ثم يرسموا طريقة الخلاص … ويحد من الفردية الدكتاتورية في الحكم والسلطان”[9].

وبعد أن أخفقت الثورة العرابية وتمكن الإنجليز عسكريا من بلاد مصر، توجه جمال الدين الأفغاني (مخلفا روحه ومبادئه الثورية سارية في المجتمع المصري ليومنا هذا) سنة 1883م منفيا إلى باريس، بعد أن مكث أياما قلائل في لندن، حيث أصدر وتلميذه محمد عبده جريدة “العروة الوثقى” فطنة منهما إلى أنه لا بد للفكرة بعد نشرها من الإعلام بها والترويج لها بما أتيح من وسائل إعلامية. ولم يصدر للجريدة إلا ثمانية عشر عددا (وصلت العالم الإسلامي وكان لها الأثر الكبير فيه) بعد أن حاربها المحتل البريطاني.  ثم انتقل إلى لندن مرة أخرى وبعدها وفي سنة 1886 انتقل إلى بلاد فارس ومنها إلى روسيا ثم البصرة، وهكذا راح الرجل يجوب الأمصار الإسلامية وغيرها يحاول تحرير الأمة من جمودها الفكري، وتأخرها العلمي، واستبدادها السياسي.  حتى وافته المنية صبيحة يوم الثلاثاء سنة 1897م في الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، فحمل على أكتاف بعض الحمالين إلى مثواه وسط تجاهل من السلطان وبطانته وعامة الناس. وخير ما يختم به هذا المقال الذي حاول المساهمة إلى جانب المؤلفات التي تطرقت لسيرة الرجل وحركته، كلمة سطرها الرافعي في حق الأستاذ الأفغاني ننقلها كما هي: ” إن الأمم الشرقية جمعاء مدينة بنهضتها السياسية والفكرية إلى الزعيم الكبير والفيلسوف الشهير السيد جمال الدين الأفغاني. ظل الشرق قرونا عديدة رازخا تحت الجمود الفكري، والتأخر العلمي والاستبداد السياسي، وبقي في سبات عميق إلى أن قيض الله له الحكيم الأفغاني جمال الدين ففتح فيه روح اليقظة والحياة، وأهاب بالنفوس أن تنهض وتتحرك، وبالعقول أن تستيقظ، وبالأمم والجماعات أن تتطلع إلى الحرية، فكانت رسالته إلى الشرق مبعث نهضته الحديثة”[10].


[1] سورة آل عمران: 139

[2]  سورة فاطر الآية 43

[3] الإمام السيوطي، الجامع الصغير، رقم 7214، حكم المحدث: صحيح.

[4]  عبد السلام ياسين، “العدل: الإسلاميون والحكم”، ص 432.

[5] صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء، رقم: 6649، حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال أخبرني جدي قال كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومعنا مروان قال أبو هريرة سمعت الصادق المصدوق يقول هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش فقال مروان لعنة الله عليهم غلمة فقال أبو هريرة لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشأم فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا عسى هؤلاء أن يكونوا منهم قلنا أنت أعلم.

[6] المقدمة، الفصل 21،

[7]  السيد محمد باقر الصدر، فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثالثة 2009، ص 5.

[8] د. محمد عمارة، إحياء الخلافة الاسلامية حقيقة ام خيال، مكتبة الشروق الدولية-القاهرة، الطبعة الأولى 2005، ص 31.

[9]  محمد رجب البيومي، علماء في وجه الطغيان، ص 101.

[10] عبد الرحمان الرافعي، جمال الدين الأفغاني باعث نهضة الشرق، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ص 03.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق