المقالات

المدرسة وتحديات الرقمية(مراد ليمام)

في إطار السعي الحثيث لمواكبة المستجدات التي عرفها السياق الدولي والوطني، ولتجويد المنظومة التربوية يأتي هذا المقال من أجل تعميق النقاش في موضوع المدرسة وتحديات الرقمية. وهو موضوع بات يطرح أسئلة تربوية تدعو إلى التفكير في المكانة التي يمكن أن تضطلع بها المدرسة، بل هو موضوع  يؤشر على دخولنا حقبة جديدة انهارت فيها كل الثنائيات والتعارضات الكلاسيكية: الطباعة مقابل الرقمنة، والدولة مقابل المجتمع، والمنتوج العمومي مقابل المنتوج الخاص. كما أن المحيط الخاص بالمجال البيداغوجي يشهد بدوره انفجارا تتلاشى فيه الحدود بين الفضاء البيداغوجي والفضاء الاجتماعي.

ويرمي هذا المقال إلى الكشف عن السياقات الجديدة التي ساهمت في التخطيط لمشاريع البحوث المتعلقة بالوضع الجديد للمدرسة، وهي سياقات ارتبطت بسيرورة التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والفكرية التي شهدها العالم منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي حتى يومنا هذا. ومن جملة التبدلات المرتبطة بذلك ظهور منظور عالمي جديد، ونهج جديد، وموضوعات جديدة لم يعد من الممكن التفكير معها وبواسطتها إلا عبر خلفية كونية كوسمولوجية. ولم تكن المدرسة بمنأى عن هذه التحولات، بل أضحت تُقدم جانبا وجهيا أو بروفيلا profil)) عن المايحدث بانخراطها في تجسيد مفاهيم مابعد الحداثة، وتجريبها أراض جديدة لتحط بحملها عليها وتبنيَ كثافتها الخاصة.

ففي ظل التحولات الجذرية والعميقة التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات والاتصال، تشق التربية طريقا جديدا يتماشى مع الانفجار المعلوماتي وتأثيره على ما نعيشه. ولعل هذا الأمر يجعلنا في أمس الحاجة إلى مدرسة جديدة تتماشى وطبيعة التقدم التراكمي للثورة التكنولوجية الجديدة. لقد أدرك الوعي البيداغوجي المعاصر أن الولوج إلى تقنيات الاتصالات الرقمية يعطل الوحدات التقليدية للتمدرس: وحدة الزمن، والمكان،  والعمل… فدور المدرس والمتعلم يشهد –حاليا- تغيرا ملحوظا.

فإذا كانت معظم المهن في القرن العشرين مهنا يدوية وحضورية يمكن نقلها مباشرة، فإن مهن القرن الأحد والعشرين تشتمل على مكونات تكنولوجية تتطلب التجديد السريع والتحسين المستمر للأداء. ومن ثم، يمكننا أن نميز بين نموذجين مختلفين في التدريس: النموذج الحرفي أوالتقليدي (le modèle artisanal)، يكون المدرس فيه الصانع الوحيد للدرس مع حفاظه على علاقته الوحيدة والمستمرة بالمتعلمين. ثم النموذج الصناعي أو التايلوري  (le modèle industriel)الذي يتم فيه تقسيم مهمة التدريس بين عدة أشخاص (مصممين، ومبرمجين، ومدرسين، وتربويين، وإداريين…). هنا، يتم وضع كل شيء في متناول يد المتعلم على نحو يجعل سيرورة اكتساب المعرفة مناسبة لوثيرته الخاصة.

فالحديث عن المجتمع الرقمي ومجتمع المعرفة الذي تحولت فيه المعرفة إلى سلعة اقتصادية تتجدد باستمرار أفقد المدرسة سلطتها المرجعية بوصفها المصدر الأول والوصي الوحيد على المعرفة.  كما يتسم المجتمع في ظل التحولات المتسارعة بشبكات الربط التي تغير من طريقة الولوج إلى المعلومة  والتواصل مع الآخرين. فالبناء الجماعي للمعرفة  والمواقف في عصر العولمة كسر التسلسل الهرمي التقليدي للأنظمة التربوية والتعليمية. فالمدرسة في التصور التقليدي تركز على البعد الفردي:  “تُطور المدرسة وفق هذا النهج المعرفة الفردية، وتكوِّن الذكاء الفردي والذاكرة الفردية، وتقوِّم المتعلم بشكل فردي، ويعمل المتعلمون بشكل فردي[1]“. لكن، وبخلاف مألوف وعينا البيداغوجي الكلاسيكي، يتطلب مجتمع اليوم ومدرسته “مهارات جماعية مع القدرة على العمل مع الآخرين، والتعاون معهم. تقوي الرقمية الذكاء والذاكرة والكفايات الجماعية. والأنظمة التعليمية مطالبة بمراعاة هذه الأبعاد[2]“. إن الحديث عن المجتمع ما بعد الصناعي (la société post-industrielle) –بحسب رأي البعض- في ظل الطفرة التكنولوجية التي تجمع بين التكنولوجيا الرقمية، وشبكات الاتصال، والذكاء الاصطناعي، وعلوم الأعصاب، يرجح في وقتنا الحالي كفة أنماط جديدة من التعليم.

فالانتقال من الثقافة الشفوية والمكتوبة إلى الثقافة البصرية والرقمية وفر إمكانات متنوعة لتنظيم التعليم ونشره وفق أنماط مختلفة ومتعددة. فالرغبة في تعزيز مسارات التعلم أو الاستجابة لحاجيات التعليم فتح الباب أمام تحديات جديدة من أهمها التعليم عن بعد وما يتضمنه من أنماط معززة بالتكنولوجيا الجديدة. يتطلب إدماج هذه الأخيرة في التعليم تطوير استراتيجيات تربوية مكيَّفة مع: مراعاة العلاقة الجديدة بالفضاء والزمان بعد توظيف الحامل الرقمي، وإيجاد تمفصلات بين التعلم الفردي والتعلم الجماعي، وتكييف الأدوات المتحركة، واستحداث طرائق تدريس قابلة للتفعيل على مستوى شبكات الربط، وتفريد طرائق التعليم حسب خصوصية مسارات التعلم المختلفة للمتعلمين، واعتماد منظور جديد يقوم على مفهوم التعلم مدى الحياة….

إن اعتماد الأنماط المختلفة للتعليم بعد الإبدال الرقمي يقود نحو ضرورة نهج ثقافة تعليمية تستجيب لتقلب مستويات التعلم وبدرجات متفاوتة بين المتعلم والمدرس. بالتالي، يتطلب تجديد الممارسة التعليمية إعادة النظر في عناصر المثلث الديداكتيكي ببناء علاقات جديدة بين المعرفة وبين فعل التدريس وفعل التعلم.

لقد شكلت الثورة  التكنولوجية الجديدة انعطافة حقيقية في تصميم المقاطع التعليمية وتوزيعها بفعل إدماج الحامل الرقمي. فقد تطورت أساليب التفاعل كثيرا لجعل التعلم أكثر متعة وجاذبية على نحو يقلل من نسب الفشل مع إضفاء الطابع الإنساني على التعليم الرقمي. لكنه، وعلى الرغم من كون التفاعل والتفاعلية هي الطريقة الأمثل لتصميم الدروس عن بعد ، فإنه من الصعب ضمان تبادل ذي جودة عالية بسبب المشاكل المادية والتقنية. وترى فدرالية المدرسين والمدرسات الكندية أن التعليم الرقمي خلق أساطيره الخاصة به وهي: “أسطورة الثورة الرقمية، وأسطورة المتعلم المستقل، وأسطورة المدرس المصاحب، وأسطورة المردودية…[3]“. لذا تدعو الفدرالية إلى تفكيك الخطاب الأسطوري الذي ولده التعليم الرقمي لضمان جودة هذا النمط ولإدماجه بشكل مسؤول ومتوازن حتى لا يبقى حبيس تصورات تخندق التعليم فيما يُسمى باقتصاد المعرفة بمبرر أن المدرسة في خدمة التطور الاقتصادي. “تضع الرؤية النيوليبرالية التعليم في قلب ما يسمى باقتصاد المعرفة… وتربط هذه الرؤية  الخاصة التعليم الرقمي بالتمويل غير المباشر للمؤسسات(مما يعزز خطاب التكيف) مع تدهور ظروف العمل في التعليم والخطر المتزايد… كل ذلك باسم الربحية والمنافسة والتوافق مع احتياجات الشركات التي تحولت إلى مصنع حقيقي لإنتاج القيم . فتشابك مصالح المدرسة مع المصالح النيوليبرالية المتمثلة في الإنتاج والكفاءة ينذر بضرورة التفكير في ذلك. فليس مشكل التعليم عن بعد الذي يطرح نفسه، بل تنبع المشكلة من حقيقة أن هذه الرؤية النيوليبرالية للتعليم تستحوذ على الكثير من الأفكار الجيدة وتشوهها[4]“.

ومن ناحية أخرى، تسعى البيداغوجيا التقدمية الجديدة (néo-progressiste) إلى جعل التعليم متمحورا حول المتعلم عوض المعارف المراد نقلها. أضحى المتعلم وفق هذا التصور سيد نفسه يقوم برسم مساره الدراسي وبتجريب اهتماماته وإظهار احتياجاته. فبقدر ما تنصت هذه المقاربة البيداغوجية للمتعلم  وتضع نفسها في خدمة الإيقاعات والطلبات الخاصة به بقدر ماتثير صعوبات كبيرة “بافتراض استقلالية المتعلم بشكل مسبق. فتمكين الفرد سيرورة تاريخية واجتماعية تعكس المشروع الحديث للتعليم. إن رفض أهمية التركيب بين المعرفة في التعلم يفتح الباب على مصراعيه للمقاربة الزبونية approche) (clientèle للاستهلاك التعليمي[5]“. كما تطرح فكرة المتعلم المستقل قضية المساواة الاجتماعية والاقتصادية، لأن تجاهل هذا المعطى يؤثر على تنمية استقلالية المتعلم ومهاراته التعليمية. فالطفل القادم من محيط ميسور وبيئة مُحفزة تقدر المدرسة والفضول المعرفي  سيحقق في مساره التعليمي والمدرسي مستوى أعلى من الاستقلالية مقارنة بمتعلم لم يحصل على كل تلك المزايا.

أما بخصوص أسطورة المدرس المصاحب، فيمكن القول إن التقنو-بيداغوجيا techno pédagogie المرتبطة بالتعليم الرقمي تفرض  إعادة النظر في دور المدرس. ففي هذا العصر الرقمي، يمكن الوصول إلى المعلومات والمعارف بسهولة مما يغير من وظيفة المدرس التي ستستمر في التبدل لتُختزل في المساعدة على التعلم. فتقليص دور المدرس سيجعل منه أداة تعليمية واحدة من بين أدوات أخرى. تُعلي هذه المقاربة من شأن البيداغوجيا على حساب التخصص الدراسي على نحو يقود إلى التفكك التدريجي لعملية نقل المعرفة. “هذا التفكك على مستوى أنظمة التخصصات الدراسية له تأثير على وضع المدرس (في الثانوي، أو الإعدادي، أو الابتدائي) بوصفه سلطة ومحاوِرا أساسيا. بالتالي، يمكن أن يؤدي هذا الخلل إلى تآكل الاستقلالية المهنية للمدرسين مع إعطاء الأولوية لنوع من التدبير القائم على الحكامة (الزيادة من تحكم إداراة المؤسسات والمجالس التربوية أوالتقنو-بيداغوجية)[6]“. فغالبا ما يأتي الضغط من الإدارة التي تشجع الاستخدامات المختلفة للتكنولوجيا الرقمية في الفصول الدراسية والتعليم عن بعد في إطار خطة عمل حكومية تُخصَّص لها مبالغ وميزانيات ضخمة. ويرى العديد أن هذا الضغط يمكن أن يُعتبر شكلا من أشكال نزع الملكية ليتحول المدرس إلى مستهلك بسيط لموارد التعليم الرقمي التي يتم إنتاجها من قبل الخبراء في الرقمية، أو مستشاري التقنو-بيداغوجيا، أو قادة البيداغوجيا الرقمية، أو الشركات الخاصة التي تجتذبها هذه السوق المربحة للغاية.


[1] – Claudine B, et autres, 2019, l’enseignement à distance, enjeux pédagogiques, syndicaux et sociétaux, Fédération nationale des enseignantes et des enseignants du Québec, rapport présenté au conseil fédéral, Canada,, p37.

[2] – lbid, p37.

[3] – Claudine B, et autres, 2019, l’enseignement à distance, enjeux pédagogiques, p28.

[4] – lbid, p46.

[5] – Lapan J, 2007, le discours étudiant sur les transformations néolibérales  de l’éducation: analyse de contenu du discours l’ Assé, de la FEUQ et de la FECQ, mémoire présenté comme exigence partielle de la maitrise en sociologie, université de Québec à Montréal,pp42-43.

[6] – Claudine B, et autres, 2019, l’enseignement à distance, enjeux pédagogiques, p40.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق