المقالات

الراهن الملتبس وتفكك الديمقراطيات (عبد السلام ديرار)

 نحن في  بداية الثمانينات من القرن الماضي، بدابة “سُحُب سوداء”  فوق  سماء  الاتحاد السوفياتي (سابقا)، ” الإمبراطورية” المترامية الأطراف، حيث بؤرة  ” النموذج الاجتماعي” المناقض للّذي بالغرب عدوّه اللذوذ الذي يقارعه على كل الجبهات و بكل بقاع الأرض، رحل بريجنيف الذي عمّر على رأس السلطة ب”الإمبراطورية” طويلا (من 1964 إلى 1982)، حدّ نعته في الكتابات الغربية (الساخرة بلؤم) ب “الخليفة”!، و هو الذي اشتهر بميله لتكريس الشيوخ في مناصب السلطة، و تمّ تعويضه بشيخ آخر هو أندربوف (Youri Andropov) في الثامنة و الستين من عمره، و الذي كان السوفيات يحتفظون بذكرى سيئة خلال مروره على رأس مخابرات “الإمبراطورية” (1967- 1982)، هي علامات “تصلب شرايين” النموذج الاجتماعي العدوّ، كانت تتوارد على عواصم الغرب، يتلقفها بالتحليل الخبراء الإستراتيجيون بواشنطن و لندن و باريس و طوكيو…و يقدمون خلاصات تقييمها للقادة السياسيين للغرب، للبناء عليها في المواجهة… هي “الحرب الباردة” الأشد ضراوة من “الساخنة”.

   يرحل أندربوف بعد سنتين فقط من تسلمه السلطة (1982- 1984)، و لا يتم استبداله إلا بشيخ آخر هو قسطنطين تْشيرْنينكو، المشهور هو الآخر بميله “البريجنيفي” لتكريس الشيوخ في مناصب السلطة…هي علامات “تصلب الشرايين” تتفاقم، و أخبارها تثلج صدور الممسكين بالسلطة بعواصم الغرب (و بالطبع كانت تؤذي أرواح المقهورين بكل بقاع العالم نتيجة ما بنوه حول “الإمبراطورية” من آمال و أوهام!).

  يرحل تْشيرْنينكو هو الآخر بعد سنتين في السلطة و يعتلي كرسيها من ليس شيخا، لأول مرة منذ عقود، ميخائيل غورباتشوف (1985- 1991)، الذي أعلن ما يسمى ب “البرسترويكا” (Perestroïka) (إعادة الهيكلة الاقتصادية)، و”الكلاسنوست” (Glasnost) (سياسية حرية التعبير و نشر المعلومات )، حيث  تكشّفت  الاختلالات الداخلية للنموذج الاجتماعي الذي لطالما قدم نفسه البديل و “الأمل” في مقابل النموذج الغربي، و التي اتخذت  شكل  صراع  بين قوة  هائلة  محافظة،  واضح  أنها نتاج عقود للركود، و قوة راهنت على إعادة البناء، و طبعا انتهت لصالح الأولى و انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وبالضبط خلال اليوم الذي سيظل محفورا في تاريخ البشرية ككل و هو يوم 25 دجنبر، حيث  قدم  غورباتشوف  استقالته، و رفوف  الأسواق  و المتاجر خاوية من البضائع (كما في مجاعة!)، و حائط برلين سقط، وشعوب من التي كانت تشكل “الإمبراطورية” تعلن استقلالها، و”عربيد” يتولى السلطة على رأس روسيا الفيدرالية الجديدة، في مشهد تراجيكو- سوريالي…و احتفاء بعواصم الغرب بزوال شبح النموذج الاجتماعي الذي ظل يرعب حكامه على امتداد عقود طويلة.

  و للإشارة، فإن استحضارنا لهذه المحطات من تاريخ الاتحاد السوفياتي، أي تاريخ النموذج الاجتماعي الذي كان ينافس النموذج الغربي، بل يطرح نفسه بديلا له، يخدم عملنا، من ناحية كون كل ما يخص الأول من تغيرات، امتدادا أو انكماشا،كان يجد له انعكاسات و ارتدادات مباشرة بعواصم الغرب، استنفارا أو تغييرا للاستراتيجيات أو هجوما…، كما سنفصل ذلك في هذه المحطة من عملنا.

    لقد تصادف وصول أولى التقارير عن “الوهن” الذي بدأ يستشري في أوصال “إمبراطورية الشر” (الاتحاد السوفياتي) (كما سيسميها علانية الرئيس الأمريكي (رونالد ريغان) مع وصول مارغريت تاتشر إلى رئاسة الحكومة ببريطانيا (1979)، هذه المحافظة الليبرالية الشديدة العداء للشيوعية، التي دخلت التاريخ باقترانها بما سمي ب”الثورة المحافظة” لسنوات الثمانينات، و بكون شرارة “التشدد” تطايرت منها باتجاه أوربا، بل امتد تأثيرها إلى الأحزاب الاشتراكية، حتى أن كتابات تعتبر أن اشتراكيين من أمثال طوني بلير (الوزير الأول البريطاني السابق المثير للجدل بمواقفه المحافظة! )كانوا “ضحايا” التَّاتْشرية.

     و بعد سنتين من تولي هذه ال تاتشر رئاسة الحكومة ببريطانيا، ها هو عدوّ معلن للنموذج الاجتماعي المنافس للغربي يترأس “عاصمة” هذا النموذج الأخير، رونالد ريغان الذي اشتهر بدعمه المباشر للحركات المناهضة  للشيوعية  عبر  العالم،  المتنكّر

لاتفاقيات الحد من السباق  نحو  التسلح، الذي أعلن زيادة مكثفة في الميزانية العسكرية، هذا على مستوى السياسة الخارجية، و هو الذي اشتهر بسياسته المتشددة تجاه النقابات والحد من كل الميزانيات الفيدرالية غير العسكرية، أي الاجتماعية، على مستوى السياسة الداخلية.

     إنه الثنائي (تاتشر – ريغان) الذي سيعرف الغرب (لا بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية فقط ) معه  تحولات  جذرية، بل  انقلابا  عما  ألفه  لعقود،  أو  إنها  البنيات الاجتماعية للمجتمعات الغربية و قد أفرزت في حال محدد من أحوال تغيرها، مثل هذا الثنائي الذي لم يكن و صوله إلى أعلى مراكز القرار و السلطة، سوى انعكاس لما آل إليه حال “الاجتماعي” بالغرب، في كل أبعاده السياسية و الاقتصادية و الثقافية…، و ديناميكية القوى الفاعلة فيه أو نكوصها، و في علاقته بالعوامل الخارجية.

  إنها الشروط المواتية لهجوم مارغريت تاتشر على الطبقة العاملة، بتحطيم نقاباتها و إغلاق المصانع و تحجيم “وعود” “الدولة”، بما يخدم محتكري الخيرات و الموارد. و دعم الأفكار الرجعية / المحافظة في كل الميادين، و الذهاب حدّ القول أن “ليس هناك شيء اسمه المجتمع، كل ما هناك، رجال و نساء و عائلاتهم” . و “كما كان علينا أن نحارب العدو في الخارج بالَمالُوين ( كانت تقصد حربها الاستعمارية ضد الأرجنتين المطالبة باسترجاع جزرها المحتلّة)، فإن علينا أن نكون منتبهين دائما إلى عدو الداخل” ( و هي كانت تقصد عمال المناجم الذين كانوا يخوضون إضرابا ضد إغلاق مصادر رزقهم، و الطبقة العاملة عموما).

  هو انقلاب عنيف على النموذج الاجتماعي الغربي السائد منذ عقود، و الصامد حتى النصف الثاني من عقد السبعينات من القرن الماضي. أليست النقابات هياكل أساسية في هذا النموذج؟ و “وُعُود” الدولة التي تحجّمها تاتشر اليوم، أليست هي “روح”  هذا النموذج؟ ألم تكن مما يفاخر به الممسكون بزمام السلطة بهذا النموذج، بهما معا؟ (بالدولة و بوعودها). ألم يشكل منظّرو و إيديولوجيو أولئك الممسكين بالسلطة بالمجتمعات الغربية “معجما” كاملا من “المفاهيم” و “المصطلحات” في تمجيد تلك الدولة و وعودها (دولة الحق! ، دولة القانون !، دولة الرفاه! دولة التنظيمات الوسيطة بين الحاكمين و المحكومين!…).

   و لم يقتصر هجوم تاتشر المدمّر على الطبقة العاملة فيما سبق،بل انتقلت إلى نقل المعامل و المصانع إلى “العالم الثالث”،حيث انتقل “الإنتاج” إلى حيث يمكن أن يتم في ظروف الاستعباد بدون مشاكل، كما أغلقت المناجم، و دفعت باتجاه تحول العواصم

الغربية (لا بريطانيا وحدها) إلى التخصص في التكنولوجيات الدقيقة و المضاربات المالية، و أعطت الحرية لأرباب العمل لتسريح “مستخدميهم”… إنه المسّ، بل الإجهاز على كل ما تحقق للطبقة العاملة على مدى عقود  من  القتال،  من  مزايا اجتماعية، دأب النموذج الاجتماعي القائم على تقديمها باعتبارها “مسلّمات”، و أن “الوساطة”(الحديثة و الحداثية!) جارية على الأكثر منها!!(وطبعا، انطلت الخديعة على الغالبية الساحقة من “المواطنين” الغربيين)، خصوصا و أن الثقل الذي كان لتلك الطبقة العاملة، على المستويين الاجتماعي و الثقافي، لم يكن نتاج انتصار للفكرة الماركسية كما حصل في “المعسكر الاشتراكي”، بل محاصيل ما اشتهر ب”دولة الرعاية و الرفاه” و “الليبرالية الراسخة” و “الديمقراطية” و “المواطنة و مقتضياتها”…، كيف لا و تلك الطبقة (العاملة) مدعومة بمثقفين ثوريين، كانوا يجدون في التحالف بين الأنتلجنسيا و العمال، الوضع الطبيعي، بل لم يكن أمام الطبقات الوسطى إلا أن تجد ذاتها ضمن تلك الحركية (الوحدة) الشاملة، و لا ترى مصيرا لها بعيدا عنها. و هو ما يتم تدميره اليوم على يد تاتشر بشكل مكثف.

  و كما أشرنا إلى ذلك سابقا، لم يكن القادم الجديد إلى البيت الأبيض، أقل تدميرا لمنجزات النموذج الاجتماعي الغربي، فهو المشهور بواحد من “نجوم” المحافظين، الذي واجه النقابات بحدة لا تمت بصلة ل “تقاليد” النموذج الاجتماعي المعلن،”الراسخة”!! وأجهز على مكتسباته الاجتماعية… و شكل إلى جانب تاتشر ما بات يعرف في أدبيات السوسيولوجيا و الاقتصاد و سوسيو- تاريخية السياسي على الخصوص ب”الريغانية – التاتشرية”، إشارة إلى “الانحراف” الذي عرفه النموذج الاجتماعي الغربي، عن مساره الذي اشتهر به على امتداد عقود، انحراف عن الديمقراطية و الحرية الفردية، وعن الحقوق و الحريات، تملّص للطبقة السائدة  بالغرب  ( البورجوازية )  من  “عقلانيتها” و”ديمقراطيتها”، أو هي “الحضارة البورجوازية” بكل منظومة قيمها، التي اشتهرت بها، و قارعت عدوّها بها، تترك المكان لشيء آخر مختلف، يتناقض مع كل ما كان يمارس الإغراء و الإغواء و السحر، في الأصلي.

     يسمّي  علماء الاقتصاد هذا  الوضع الجديد  بأسماء و  نعوت متعددة،  من  “الرأسمالية  المتوحشة ” إلى ” الرأسمالية الشائخة “،  إلى ”  العودة  القوية  للتفاوتات الاقتصادية أو الفوارق الطبقية”…، و يرى فيه علماء السياسة “انحرافا للدولة” أو “انحسارا لدولة الرفاه و الرعاية” أو “اختلالا للتوازن الأجمل”!، أو “الديمقراطية التي باتت في حاجة إلى إعادة صياغة”… .

   و بالنسبة لقلة من المفكرين و العلماء، فإن الأمر أكبر و أعمق من كل ما سبق بكثير (سواء عند علماء الاقتصاد أو علماء السياسة)، فهذا Emanuel Todd في تحليله لما لا يتردد في نعته ب “تفكك الديمقراطيات”، ينتهي إلى أن حقيقة هذه المرحلة، ليست في أن الدولة عاجزة، و لكن في كونها في خدمة “الأوليغارشية” (لننتبه إلى فداحة “المفهوم” (أوليغارشية) المستعمل، بالقياس إلى شعارات النموذج الاجتماعي القائم (البورجوازي)، فالأوليغارشية تحيل إلى الماضي، إلى المنبوذ المفترض تجاوزه بكثير، و منذ زمن بعيد!، فهي حكم الأقلية، أو شكل الحكم (التقليدي) حيث السلطة السياسية محصورة بيد أقلية قليلة، تستمد سلطتها من احتكارها للثروات أو من نسبها، أو حتى من سلطتها العسكرية.

و هذا Zigmunt Bauman، عالم الاجتماع البريطاني – البولندي، المشهور اليوم، بنحته لمفاهيم جديدة، و هو يكشف “الوظائف” في  منطق/ لا منطق اشتغال المجتمع المعاصر بالغرب، يذهب إلى القول بأن من أبرز المعضلات السياسية الحديثة في وقتنا الراهن، عدم قدرة مؤسسات الدولة الحديثة على فرض السيطرة الديمقراطية الحقيقية على مراكز القوة الاجتماعية و الاقتصادية، لأن تلك المراكز صارت متعالية عليها و ذات نطاق عالمي يفوق النطاق المحلي، و يضيف أن الأمر بات يتعلق برأسمالية احتكارات الأقلية أو الاحتكارات المطلقة، و ب”أعلى درجة دخل احتكاري” بدل “أقصى درجات الربح” ، و بكون الرأسمالية ولجت مرحلة الشيخوخة .

   و بالمضي بالتحليل السوسيولوجي إلى حدوده القصوى، و بالحرص على الإمساك ب”الاجتماعي” في الاقتصادي و تفاعلاته و مسار تغيره، ينفضح كون ”    الأوليغارشية التي باتت الدولة في خدمتها”  عندTodd Emanuel، و أن ” مراكز القوة الاجتماعية ” التي باتت مؤسسات الدولة الحديثة في حالة عجز عن فرض السيطرة الديمقراطية عليها”،عند Zigmunt Bauman، إن هي إلا عودة لنبلاء جُدُد إلى النسيج الاجتماعي للمجتمعات الغربية، في غفلة من شعوبها التي حرفت انتباهها شعارات النموذج الاجتماعي الأصلي (البورجوازي)، و آليات إقناعه السرية في المدرسة و الإعلام و الحزب و النقابة…، و أَلْهَتْها إنجازاته و مكتسباته التي كان من الصعب إنكارها طيلة عقود. فالتاريخ – كما أشرنا إلى ذلك سابقا- ليس خطّيا أبدا، و القديم، حين ينسحب أو يجبر على الانسحاب لا يموت إلى الأبد، بل قد يعود في أشكال مختلفة أو مقنّعة، و أحيانا حيث لا يمكن تصور عودته.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق