الــشــيـخ ماء العــيـنــيـن رجل بـأمّـة (أمينة مزيغة )
تقديم
من سنة الله في خلقه أن جعل للعلماء الربانيين النافعين الصادقين الصالحين المصلحين، منزلة في قلوب الناس يحبونهم أحياء وبعد الممات، فكثيرة هي الأقلام التي كانت لها بَصَماتٌ في الساحة الفكرية المغربية، أقلام من ذهب، ذهَب أصحابها، وظل نِتاجُها وما خَطّته باقيًا، يُضافُ و ينضاف إلى رصيد حسناتهم وصدقة جارية بعد رحيلهم هم علماؤنا الأكياس فرسان كل ميدان، من أمثال الشيخ ماء العينين رحمه الله وجعل الجنان مثواه، اللذين حملوا أمانة أقلامهم، وأحسنوا استخدامَها، فكتبوا بها الخير، وحذروا مِن الشَّر، وابتعدوا بها عن الفِتَن، وثبتوا بها المُسلمين وقتَ المِحَن، إن الحديث عن علماء وفضلاء هذه الأمة هو إحياء لأصاحبها يقول صاحب صفوة من انتشر من صلحاء القرن الحادي عشر: “لعمري إن الاعتناء بفضلاء هذه الأمة المحمدية شيء مؤكد وواجب على الخلف فهم سلفنا في الدين والتاريخ والأحداث والوقائع التي لا علم لنا بها إلا بمراجعة آثارهم التي خلفوها مسطورة في كتبهم ولذا ورد أن من أرخ عالما أو غيره فكأنما أحياه لأن همم عظماء الرجال تتجلى في آثارهم وتتبين من إخلاصهم في عملهم”.
ونحن عندما نريد الحديث عن رواد القرن العشرين من علمائنا الصالحين المصلحين، تتزاحم عدة أسماء نقشت ذكرها في تاريخ المغرب لحين من الدهر ليس باليسير، نظرا لما عُرفت به من علم وصلاح، ولما قدمته من أياد بيضاء للمغرب امتد أثرها سنين عديدة، ولعل علماء القرويين وحدها كجامعة استقطبت واستقبلت علماء كُثر من مختلف أنحاء البلاد أكثر من أن تعد أو تحصى فمنهم الفاسي والمكناسي و الرباطي و السوسي والمراكشي و الطنجي وغيرهم … وحري بنا كذلك القول أن الأقاليم الصحراوية كانت ولازالت تعج بالعلماء والأولياء أقل ما يمكن وصفهم به أنهم قامات، بل قمم شامخة في العلم والصلاح والإصلاح، من أمثال العالم المربي العارف بالله المجاهد الشيخ ماء العينين دفين مدينة تزنيت و مؤسس مدينة السمارة، وتسليط الضوء على مشروعه الإصلاحي الذي يقوم على مبدأ توحيد المجتمع بمختلف أطيافه، لتجتمع الأمة وتنصهر في إطار مرجعي متين وثوابت موحدة، وتجتمع مع هذه الوحدة الروحية جميع الاعتبارات العرقية والقبلية والطبقية والطائفية.
فحول كل ذلك إذن وحول الرصيد العلمي والمعرفي للشيخ، وما خلفه من مؤلفات ومصنفات نفيسة شملت علوم وفنون عدة، وكذا عن جهوده الإصلاحية ومقاومته للمستعمر سيكون الحديث في هذا البحث.
أولا- نُبَذ عن حياة الشيخ ماء العينين:
العالم العلامة الهمام المشارك الأفضل العارف بالله محمد المصطفى الشيخ ماء العينين بن الشيخ فاضل بن مامين ينتهي نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أمه “منَّ” بنت المعلوم من أسرة علم وصلاح، ولد رحمه الله في أقصى بلاد الجنوب المغربي بعاصمة الحوض من بلاد شنقيط وذلك يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر شعبان الأبرك عام ستة وأربعين بعد المائتين والألف، ولم یولد لوالده المتعـدد الأزواج فـي ذلك العام غیره من الأولاد الذكور، نشأ الشيخ ماء العينين وتربى في حضن والديه وبين أخوته ووسط عشيرته في رحاب بيت اشتهر بالعلم والصلاح والورع، من أسرة فاضلة ذات مآثر جليلة ومزايا جمة إذ أنجبت نخبة من العلماء والنجباء، فوالده الشيخ محمد فاضل كان إماما من أئمة المسلمين، وعلما من العلماء العاملين، محل تقدير عند العامة و الخاصة، وكان من أقطاب الصوفية في زمنه، وإليه تنسب الطريقة الفاضلية في موريتانيا و المغرب والسنغال وغيرها.
حضي الشيخ ماء العينين برعاية خاصة من والده الذي كان يحرص على تربية أبنائه تربية صارمة فلم يكن يتساهل مع أحدهم في البرنامج الدراسي والعلمي الذي يخطه له، ومن ثمرات تلك الرعاية والعناية أن الشيخ ماء العينين ما إن بلغ سن الرشد حتى أصبح متضلعا في شتى المعارف والعلوم، مؤهلا للإفتاء متصدرا للدرس، وهذا ما ينم عن نبوغ علمي قل نظيره وعز مثيله، فأصبح من كبار الشیوخ البارزین الذین عرفتهم الصحراء المغربیة في أوساط القرن الثالث عشر هجري و بالضبط في أوائل سنة 1270 هـ، وسارت بذكره الركبان في كل مكان حل به أو نزله في طول البلاد و عرضها، فبلغت شهرته الآفاق وسمع بذكره الداني والقاصي و الحاضر والبادي على السواء، فتألق اسمه في سماء العلوم والمعرفة بین الناس كشیخ و عالم و فقیه و محدث وأدیب و متصوف وقائد في میدان الحرب ومجاهد علـى رأس المجاهدین في سـاحة القتال.
أما وفاته فقد تحدث عنها ابنه الشيخ مربيه ربه وذكر في وثيقة بخط يده: “أنه لم يكن به مرض قليل ولا كثير، وصلى أوقاته على عادته في المسجد، وما وقع له في هذا الأسبوع من الانبساط والانشراح والصحة والبشاشة والإقبال على قراءة القرآن، والاشتغال به لا يوصف، لاسيما في هذه الليلة ولبث في المسجد ما شاء الله. ولما دخل بيته باسط أولاده وأهله، وأطال الحديث، ونام قليلا، واستيقظ وقال: أنتم سالمون، لابأس عليكم؟ قالوا له: نعم. قال: الحمد لله، واشتغل بورده وصلاته ما شاء الله إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو في وضعية سجود”.
وذكر الشيخ مربيه ربه في كتابه “قرة العينين”، أن وفاته كانت منتصف ليلة الثلاثاء، الحادي والعشرين من شهر شوال، عام ثمانية وعشرين بعد ثلاثمائة وألف للهجرة الثامن و العشرين أكتوبر 1910م، وعاش اثنين وثمانين عاما وشهرا وثلاثة وعشرين يوما ونصف ليلة ودفن في مكان عبادته بمدينة “تيزنيت”، “وقد كانت وفاته رحمه الله خسارة عظمى تركت وقعها الأليم وأثرها الحزين على النفوس في كافة أرجاء المملكة عموما وفي الأقاليم الجنوبية خصوصا وقد رثاه أكثر من خمسمائة راث، مثاله رثاء أحد أبناء الجنوب وهو الشيخ الإفراني الذي يقول في مطلع مرثية رثى بها الشيخ:
قل للعفاة أولي الحوائج مات ركــ ن الدين ماء العينين فبكوا وأنحبوا
مــات الإمــام المستــضاء بنــوره مهما دجا ليل الضـلال المـكـرب
مــات الــذي أمـواله وعـــلـومه لذوي الخصاصة والجهالة توهـب
عـجـبا لقبر ضـم ســودده وقـــد ضـاق الـفـضاء به وضاق السبـب
أيـضم شبـر القـبـر بـحــــرا ما له حـد يـقـدر أن ذاك لمـعــجـــب
رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح الجنان مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”.
ثانيا- لوامع تآليف الشيخ ماء العينين وإنتاجاته الفكرية:
قضى الشيخ ماء العينين رحمه الله حیاته في الأخذ و التلقي بین أهله وذويه، و في النظر و المطالعة لمختلف الكتب والمصنفات مع التدریس و التألیف، فكان عصامیا نابغا في معظم فنون العلم التي التفت إلیها، فأدرك منها ما لم یدركه غیره في عصره ولا بعده، مخلفا رحمة الله عليه كتبا ومصنفات فریدة في نوعهــا وكمها أثــرت الخزائن الإسلامیة المغربیة والعربیة بتنوع مصدرها ومحتواها ومواضیعها، في الفقـه والأصول والتوحید، والنصائح، والسیر والنحو، والصرف والبیان، والعروض، فالذين عايشوه وكتبوا عن الشيخ ماء العينين اتفقوا على أنه لم يبق فن إلا وألف فيه، يقول ابنه مربيه ربه: “وقد ألف كثيرا من الكتب في ريعان شبابه وأثناء جولانه، وربما بقي بعضها في المكان الذي ألفت فيه، وبعضها يأخذه بعض من رافقه من تلاميذه فكان من بين الأسباب التي ضاع عن طريقها جل تآليفه”.
وقال الشيخ المعاقب بن مايابا في كتابه “مجمع البحرين في مناقب الشيخ ماء العينين”: “وكان شيخنا رضي الله عنه مع ما أعطاه الله من الحفظ والتفنن في العلوم، متعلق الخاطر بالكتب باحثا عنها، ساعيا في جمعها يشتري منها الأحمال الكثيرة، حتى جمع من صحاح الكتب مالا يكاد يحويه أحد في ملكه حتى ملكه، ولا يدخل مدينة ولا قرية إلا وجمع ما فيها من الكتب”، ثم قال: “لم يترك فنا من سائر فنون العلم إلا وألف فيه تأليفا كافيا وقد طبع منها الكثير في المطبعة الحجرية بفاس وبعضها طبع بمصر حياة المؤلف نفسه”.
ومن تآليفه الحسان رحمه الله تعالى ما يأتي: “اللؤلؤ المحوز الجامع ما في الجامع الصغير والراموز”، منظومة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة بناته، منظومة في أسمائه صلى الله عليه وسلم، ومنها في التوحيد والأصول والفقه، منظومة في العقائد الست والستين الواجبة، منظومة اختصر فيها كتاب الموافقات للشاطبي في علم الأصول، “المرافق على الموافق” وهو شرح فيه نظمه المرافق في الأصول، “تنوير السعيد” لخص فيه كثيرا أيضا من علم الأصول، “نظم في اللغز الفقهية” جمع فيه كثيرا من المشكلات التي عرفت عبر التاريخ والأجوبة الصائبة التي أعطيت لها سماه” تبيان الحق الذي للباطل سحق”، ” ثمار المزهر” نظم ضمنه كثيرا من قواعد المزهر مبينا فيه كثيرا من أوزان العربية، “شفاء الأنفاس فيما ينفع الأضراس”، “منتخب التصوف” اشتمل على موقفه من التصوف والطرق وما إلى ذلك، “مفيد الراوي” على شرح نظمه أني مخاوي، “سهل المرتقي في الحث على التقى”، مزيل النكد فيمن لا يحب الحسد”، “المقاصد النورانية في ذكر من ذاته وصفاته متعالية”، “دليل الرِّفاق على شمس الاتفاق”، وهو شرح لمنظومته فيما اتفق عليه من الأحكام على طريقة ابن رشد في البداية، “إبراز اللآلئ المكنونات من الأسماء الظاهرات والمضمرات”، “إظهار الطريق المشتهر على السمع ولا تغترر” وبهامشه “قرة العينين في الكلام على الرؤية في الدارين”، “الأقدس على الأنفس”، وهو نظم ورقات الحرمين وشرحه، طبع على الحجر بفاس بمطبعة العربي الأزرق، وبهامشه “نظم العيد” وشرحه “تنوير السعيد”، “تبيين الغموض على نعت العروض” في علم العروض، طبع على الحجر بالمطبعة الفاسية، وبهامشه “مفيد النساء والرجال في بيان بعض ما جاز من الإبدال”، “تنوير الزهر”، وهو نظم المزهر للسيوطي، “الخلاص في حقيقة الإخلاص”، “معجم الدرر في التوسل بالأسماء والآيات والسور”، “مبصر المتشوف على منتخب التصوف”، طبع على الحجر في جزئين.
تلك كانت بعض من المؤلفات التي خطها قلم الشيخ ماء العينين وغيرها كثير والتي شملت الكثير من العلوم والفنون.
ثالثا: الشيخ ماء العينين بين مُجَايليه ومريديه، وتلامذته ومحبيه:
عرف الشيخ ماء العينين بطيب أخلاقه وسلوكه القويم وتواضعه، وعلمه وفضله أقبل عليه وقد تتلمذ على یده رحمه الله عدد كبیر من فطاحل الصوفیة في الجنوب من طلاب العلم والمعرفة، والمريدین الذین یعدون بعشرات الآلاف و تخرج على یده كلا الصنفین عـدد كبيرمن أكابر العلماء فـي الشریعة و الحقیقة، وكانت حلقات التدریس و التربیة و الوعظ عنده عامرة طوال السنة تؤمها جموع الوافدین من مختلف طلاب العلم الآتيین إلیها من كل حدب و صوب، عبر مسالك الصحراء الوعرة لا فرق في ذلك بین بـدوي و حضـري، یقطعـون إلیها مسـافات الشاسعة، مقبلين على حلقات الـعلم والذكر التي یملأ صداها الحافظین و یعم سماءها لیل نهار، مما لم يكـن يتعب الشیخ من جراء هـذه الكثرة التي كانت تأتیه من شتى القبائل المحسوبة علیـه و المعبرة إیاه زعیمها الدیني و الدنیوي”.
ونذكر من تلاميذه بمختلف مناطق الصحراء على سبيل المثال لا الحصر:
1- إبراهيم بن محمد الفوتي.
2- سيدي بن مختارنا القناني.
3- عبد القادر بن أحمد بن الطلبَه السمسدي.
4- حسنَّا بن إبراهيم الدليمي.
5- الشبيه بن اليدالي.
6- محمد ولد مسعود المعدري.
7- سيدي عبد الله اليعقوبي.
8- حبيب الله بن محمد حرمه.
9- الحسن بن محمذن الحسني.
10- عبد الله الانزاضي البعقيلي.
11- محمد بابا الصَّحْراوي.
12- الحاج بن أبكْ.
13- الحضرمي بن الشيخ محمد الأمين السباعي.
14- سيدي أحمد بن عيده.
15- سيدي هيبة.
16- الحاج بلقاسم الزاوي الإلغي.
17- سيدي محمد بن مبارك بن البصير الرقيبي.
18- سيدي اعلي بن الشيخ محمد فاضل.
19- محمد سالم الصحراوي.
20- عَيْلالْ بن محمد بن علال اليموتي.
21- الطالب اعمر اللمتوني.
22- الشيخ سيديا الصحراوي.
23- الحسين بن محمد العروسي التكني الزرقي.
24- خطاري بن إبراهيم بن أمبارك الزرقي.
25- حبيب الله بن محمد أهل بارك الله.
26– حبيب الله بن الشيخ محمدُ الحسني.
27- حبيبْ بن اعْلي المشظوفي.
28– الحسن بن الزبير الزفاطي.
29- حسنَّا بن الشيخ المامي بن البخاري القرعي.
وغيرهم كثير
رابعا: معالم من شخصية الشيخ ماء العينين الإصلاحية:
جمع الشیخ ماء العینـین الصفات الحمیدة و الأخلاق العالیة، حتى غذا من كبار الشیوخ البارزین الـذین عـرفتهم الصحراء المغربیـة في أواسط القرن الثالث عشر الهجري و بالضبط في أوائل سـنة سبعين ومائتين وألف للهجرة كما أنه كان علـى رأس المجاهدین في ساحة القتال ، رائد إسـلامي لا یشق له غبار في حیاة العلم و المعرفة و فوق منابر الخطابة و التوجیه وفي مواجهة المحتل.
أ- لمح من مواجهة الشيخ ماء العينين للاحتلال الفرنسي:
لم يقتصر نبوغ الشيخ ماء العينين على الجانب الفكري والعلمي فقط، بل كانت حياته رحمه الله كلها جهاد وأسفار ورحلات إلى الملوك قصد المشاورات ومناقشة المستجدات حسب ما يعيشه، وحسب مشاهداته اليومية واحتكاكه مع المحتل وما يسفر عن كل ذلك من اقتراحات لتنظيم وترشيد خطط المقاومة والحد من توغل المستعمر في الصحراء فقد “أخذ الشيخ ماء العينين على نفسه عبء الجهاد ضد الفرنسين الذين احتلو مناطق عديدة من جنوب المغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر”، ورد هذا العدوان الذي كان يتربص بالمغرب محققا التواصل السياسي والفكري في المنطقة كلها بتنقلاته المستمرة من الجنوب إلى الشمال وبزياراته العديدة لفاس ومراكش واتصالاته الوثيقة ومراسلاته مع ملوك الدولة العلوية والتي تعبر عن مقدار الروابط المتينة بينه وبينهم.
وقد كان “نشاطه وتحركه هذا في أكثر من اتجاه لا يمكن أن يحققه إلا جيش من الأكفاء المخلصين و حققه هو منفردا بسبب ضبط الوقت ودقة البرنامج وعدم التساهل في تطبيقه سواء كان مقيما أو مسافرا … وقد شكل غياب السلطة السياسية في بلاد شنقيط حيزا مهما من مشاغل الشيخ ماء العينين وقد ساعدته مكانته الاجتماعية والروحية وعطاؤه الفكري في ملء هذا الفراغ واستعانة المخزن به، والاعتماد على خبراته العديدة وتجاربه الكثيرة باعتباره ابن المنطقة وعارفا بدواخلها ومسالكها وطبيعتها وكل متعلقاتها، ويمكن إجمال بعض الجوانب التي تم التنسيق فيها بين المخزن والشيخ ماء العينين في مايلي:
– العمل على مناقشة كل المستجدات الطارئة في الصحراء المغربية مع السلطات المركزية، ومثال ذلك محاولة البريطانيين توسيع منشآت مركزهم الذي كان قائما بساحل طرفاية لتسهيل عملياتهم التجارية.
– حراسة السواحل الصحراوية ومراقبتها وإمداد المخزن القبائل بكل ما يلزم من عتاد ومساعدات لمقاومة الأجنبي وأنهم بذلك يدافعون عن ملتهم وعن دينهم ويحفظون مكانتهم.
– فض النزاعات القبلية اعتبارا لمكانة الشيخ ماء العينين الرمزية المتميزة بالصلاح وكذا لمرتبته العلمية الرفيعة مما أكسبه احترام القبائل وكبارها وسهل عليه فض النزاعات بينها وإصلاح ذات البين بينها مما سهل على المخزن عملية ضبطها واحتوائها.
– تعبئة القبائل لمواجهة الاستعمار ومصاحبتها لتجديد الولاء والبيعة للسلطان، وحث المخزن على الضغط دبلوماسيا على اسبانيا وفرنسا للكف عن اقتطاع أجزاء من التراب المغربي ويطلب منه المزيد من العتاد والأسلحة لتقوية الآلة الجهادية للقبائل الصحرواية.
لقد كان جهاد الشيخ ماء العينين إعلاء لكلمة الله ودفاعا عن الوطن ومواجهة للاستعمار بمختلف أشكاله وأنواعه وبعثاته النتصيريه فحشد ووحد صفوف القبائل الصحراوية، وطاف عليها الواحدة تلو الأخرى وهو يقول: “الجهاد الجهاد أيها المسلمون ضد أعداء الله ورسوله وأعداء الإسلام الذين يتربصون بكم وبوطنكم، فاجتمعت حوله الجموع المستنفرة والتفت حوله تحت رايته للجهاد قبائل لا تعد ولا تحصى معروفة بشجاعتها وبسالتها وغيرتها عن الإسلام … وتنافسها على طلب الشهادة في سبيل الله ومن أجل الدين والوطن، فخاضت تحت إمرة الشيخ حروبا شرسة مع الاستعمار مكبدة إياه في معارك متعددة أفدح الخسائر وأبشع الهزائم في الرجال والعتاد والمال”.
هكذا حاول الشیخ ماء العینین قيد حياته القضاء على الاستعمار إلى أن وافته المنیة تاركا وصیة لأبنائه بالجهاد ، فواصل ابنه الشیخ أحمد الهیبة الجهاد بعد وفاة أبیه من أجل القضاء على الاستعمار الفرنسي، ووقعت أكبر معركة في شمال مراكش، وهي معركة سیدي بوعثمان الشهیرة التي تركت بصمتها في تاریخ المغرب نتیجة ضعف التخطیط في المعركة.
ب- تحقيق الأخوة الدينية كان من موجبات الإصلاح عند الشيخ ماء العينين
عمل الشيخ ماء العينين على الموالفة والمؤاخاة بين مختلف الطوائف والطرق الصوفية، وعلى أن تتوحد مشربا وتوجها ومصدرا ومعينا داخل نسيج موحد، ولم يفرق بينها مادامت تنهج نهج الرسول الكريم وتهتدي بهديه صلى الله عليه وسلم، وقد نظم منظومته الشهيرة التي جاءت معبرة عن رؤيته وهدفه الرامي إلى توحيد جميع الطوائف الصوفية حول طريقة واحدة جاء فيها:
إني مخــــاو لجميع الطـــرق أخوة الإيمـــان عنـــد المـــتقي
ولا أفـــــرق لــــلأولـــياء كمــن يفـــــرق للأنبيــــــاء
قال تعالى المؤمنون إخــــوة وعــدم التفريق فيـه إســــــوة
وانظر لمـبـدأ طرق والمنتهــى تعلـــم لما قلت بما قد يشتهـــي
وذاك كلهم لــــــك يقـول عليـك باتباع فعل ذا الـرســول
عليه أفضل الصلاة والسلام وهكـــذا تتبع منـــه للكــلام
ومستحيل أن يقــــول اتبعا طريقــــة النــبي وحـده ثقــا
وغيرها ليست طريقـا وثـق إنــي مخـــاو لجميع الطـــرق
فبين من خلالها أن الطرق ما كان منها على حق فسيكون مصدره واحدا وغايته واحدة، واتحاد المصدر والغاية كفيل بتوحيد الهدف والمصير فكان مبدأ الأخوة المنطلق والأرضية لأي إصلاح.
وهكذا اعتبر الشيخ ماء العينين رابطة الدين أقوى روابط الأخوة، فكان الرجل حريصا على توحيد الطرق الصوفية من خلال نبذ الخلاف والتعصب، والتفريق بين الظاهر والباطن، وأنه لا فرق بين الأوراد والمشايخ، كما أنه لا فرق بين الأولياء، ولا فرق بين الأنبياء، وأنه لابد لإدراك مستوى الأخوة الحقيقي من الإخلاص وترك الاعتراض والأدب وعدم الإنكار إلا بدليل شرعي مركزا على قوله تعالى: ﴿إنما المومنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون﴾، واعتبر هذه القاعدة ميثاقا ومصدرا مهما لخلق الانسجام والتقدم الإنساني الذي يتجاوز الجنس واللغة والحدود والمصلحة الفردية إلى روابط أعمق وأنبل، وقد جاءت إشارات الشيخ في هذه الآية متميزة في العرض والفهم والإدراك الذوقي، وقد ذكر شروط صحة الأخوة وجعلها من أخلاق المخلصين وهو بذلك يتفق مع أغلب المقعدين للتصوف من ذلك شرط الوفاء في الأخوة وترك معاداة الناس وكثرة مداراتهم وغير ذلك.”.
منظومة الشيخ ماء العينين تلك كانت “رسالة إلى مختلف الطرق لتلاق بنّاء وتواص بالحق، أي تداع إلى عبادة الله وحده بالوقوف عند أمره، على لسان رسوله الصادق عليه الصلاة والسلام ﴿وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”، والتزام بآداب الطريق الموصلة لذلك في عملية الفعل والانفعال بسالكيه المختلفين في تناسق اختلافا يشي بحتمية التكامل لا التنافر و التعاضد لا التخاذل اختلافا أغنى على مر العصور ويغنى العقل المسلم بخصوبة راي وأكسبه ويكسبه بعدا في النظر ودقة في التمحيص أضحت هذه الرسالة منطلقا فكريا وفيّا للمبادئ والمرتكزات شفع بتدابير محكمة وممارسات جريئة جرت على المستعمر مآس وويلات “.
لقد أراد الشيخ ماء العينين تحقيق الوحدة بتوحيد الخالق، وإفراده بالعبادة والاقتداء بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾، مما استتبع توحد الغاية والهدف والمنهج وأن يظل التلاقي في الحق كلمة سواء، سمة أفرادها ومنهج الوحدات المؤلفة لنسيجها والتجسيد الصادق الأمين لشعورها بأن عليها مسؤولية قيادة البشرية تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونو شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾، والاستعداد الدائم لتحمل الأمانة بعيدا عن الوهن والضعف والخلاف المفضي إلى الفرقة والشقاق والابتعاد عن هدي النبوة ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء﴾”.
لقد قامت حركة الشيخ ماء العينين على أسس اصلاحية نظرا لما وجد عليه الطرق الصوفية في مغرب القرن الثالث عشر هجري بعد استقراره بلاد تيرس والساقية الحمراء وخلال رحلاته المتواصلة بين الحوض وتحكانت وطرفاية والصويرة وآسفي ومراكش والرباط وسلا ومكناس وطنجة لتجديد البيعة لملوك الدولة العلوية واطلاعهم على أحوال الصحراء لما وجده من تناحر واختلاف، وما كان يبثه بعض المتشبهين بالعلماء من روح تواكلية واعتقادات خرافية”، “وكان العلماء شيوخ الطرق أولى الناس بإصلاح هذا الفساد وتغيير هذه المناكر باعتبارهم ورثة الأنبياء، وحماة الدين غير أنهم كانوا منشغلين عن كل ذلك يتهافتون على جمع الأموال ويدبرون لبعضهم المكائد والمؤامرات فأهملت طريق العلم وبارت سوقه، فعقد العزم على الإسهام في الإصلاح بما يفرضه واجب الدين ومسؤولية الانتماء إلى الوطن فأسس زاويته بالسمارة وفتح لها فروعا في مخلف الحواضر المغربية وانطلق منها لتنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي ركز فيه على مجموعة من جوانب منها: توحيد الطرق الصوفية فقد جند نفسه للقضاء على كل أسباب الخلاف التي كانت تمزق الطرق والطوائف الصوفية وتعرقل ائتلافها ودعا إلى توحيدها والمؤاخاة بينها لأن جميع الطرق تتصل في سندها برسول الله صلى الله عليه وسلم وتسعى إلى غاية واحدة هي “الفناء في مشاهدة الله والنظر إليه عن كل ما سواه”… ومن يدع غير ذلك فهو مفتر عاص لان الولاية لا تكون إلا بالطاعة و”الطاعة لا تكون إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ولأن الولي من والى الطاعات ولم يخللها بمعصية”، كما لم ينكر الشيخ ماء العينين فضل ومكانة باقي الطرق الصوفية ” ولا يفرض على اتباعه لزوم نوع واحد من الطاعات أو العبادات أو الأذكار وترك ماعدا هاو بالذكر على كيفية معلومة وصيغة معروفة يمتاز بها أتباعه من غيرهم بل يأمرهم بما أمرهم الله ورسوله به من أنواع الطاعات جميعا ويحثهم عليها بحسب استطاعتهم وإدامة ذكر الله تعالى كيفما لاق لهم والإكثار به بالقلب واللسان بإخلاص”، كما ركز على توحيد الجنوب المغربي، إذ بعد استقراره بالمنطقة الشمالية من الصحراء أزعجه ما وجد عليه قبائلها من تمزق واختلاف وما يهدد أمنها من أخطار فوجه جهوده الأولى نحو إعادة بنائها وتوفير الأمن والطمأنينة لأهلها …، كما حاول استقطاب سائر القبائل السوسية والحوزية والتفافها حوله مما أعطى لحركته قوة جديدة أسهمت في إرهاب الاستعمار وفي الحد من أطماعه التوسعية في الصحراء المغربية.
من فضل الله ومَنّه على بلاد المغرب أن قيَّد لها رجالات علم وفضل وجهاد ممن دافعو عن حوزته هم جهابذة نبهاء، وعلماء نبغاء في مختلف العلوم والفنون، ومن مختلف الأقطار والأمصار، وذلك لِما وصفوا به على مر العصور من كفاءة وذكاء، وحذاقة، يُعلم ذلك من خلال جهودهم التي بذلوها في التأليف، والتصنيف، والتدريس، والنظر، مسخرين في ذلك كل ما يمكن أن يُسهم في خدمة العلم وأهله، لقد كان الشیخ ماء العینین واحدا من أولئك اللذين لعبوا دورا بالغ الأهمیة في عدة جوانب ویتضح ذلك من خلال اهتمامه بالجانب السیاسي و العسكري والاقتصادي والثقافي، حتى إنه ترك وصیته لأبنائه لمواصلة رایة الجهاد من بعده. لقد كان رحمه الله من أبرز الشخصیات التي كان لها دور بارز في تاریخ جنوب موریتانیا وجنوب المغرب الأقصى وذلك لكونه مرشدا ومصلحا ومربيا و معلما ومجاهدا في آن واحد، ولتمسكه الشدید بدینه، و إصلاحاته الجهادیة من أجل القضاء على الاستعمار الفرنسي في أرضه.
لقد استطاع بقوة شخصیته و شجاعته و إخلاصه لوطنه و ذكائه وصرامته ونفسه الطويل من مواجهة الاستعمار الفرنسي وتحقيق عدة انتصارات وإلحاق الهزائم بالعدو ومحاولة إفشال عملیاته العسكریة، والتصدي لكل التهدیدات التي تلقاها من طرف المستعمر، كما قام بدور هام في إرشاد ونصح القبائل وقیامهم بالتفاف حوله، مما ساعده على الانتصار، وحثهم على مواجهة العدو وضرورة القضاء علیه وتحقیق الحریة والاستقلال والحفاظ على حوزة الوطن.
مصادر ومراجع للتوسع
– الأشغال الكاملة للملتقى الدولي الأول للفكر الصوفي عند الشيخ ماء العينين، أكادير تزنيت 16-17 رجب 1435، الموافق ل 16-17 ماي 2014، مداخلة ذ. أحمد الشيخ سعد بوه ول الشيخ التراد” الشيخ ماء العنين فيض تسامح وإخاء يخمد نار الفرقة ويذكي جذوة الجهاد”.
– إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع بن سودة عبد السلام بن عبد القادر، 1417-1997 دار الغرب الإسلامي. تحقيق: محمد حجي.
– أشغال ندوة الشيخ ماء العينين فكر وجهاد، تقديم د يزيد الراضي و تنسيق النعمة علي ماء العينين “الجمع بين الطرق في فكر الشيخ ماء العينين، ” بحث ذ خديجة كماسين مطبعة النجاح الجديدة البيضاء.
– الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام للشيخ الفقيه القاضي السملالي العباس بن إبراهيم المغربي المالكي ت 1378 هـ، طبع في المطبعة الملكية الرباط راجعه عبد الواهب بن منصور، الطبعة الثانية 1413 هـ.
– الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين خير الدين الزركلي بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الدمشقي، المتوفى: 1396هـ، دار العلم للملايين الطبعة: الخامسة عشر – مايو 2002 م.
– الشیخ ماء العینین علماء و أمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي، الشیخ طالب أخيار بن الشیخ مامین.
– الوسیط في تراجم أدباء شنقیط الشنقیطي أحمد الأمین، المطبعة المالیة تجارة الروع سلطنة الثري، بمصر.
– دليل الرفاق على شمس الاتفاق للشيخ ماء العينين تحقيق البلغمثي أحمد يكن، مقدمة المحقق مطابع فضالة المحمدية المغرب 1982.
– دور الشيخ محمد ماء العينين في مواجهة الاستعمار الفرنسي في منطقة جنوب موريتانيا خلال القرن 19م من 1900الى 1916، حليمة بوعلام، فتيحة برقوق، السنة الجامعية 2014- 2015.