المقالات

مَن كان الغنيمةَ حقا يا كاتب ياسين؟(عبد العلي الودغيري)_2_

كان ياسين يقول عن نفسه إنه استطاع أن يركب ظهر الفرنسية ويجعل منها ʺغنيمةَ حربʺ، لكن الحقيقة أن الفرنسية (أو قل: فرنسا على الاًصح) هي التي ركبت ظهره وجعلت منه مَطيّة وغنيمةَ حرب. والدليل هو هذا الكُدْس الهائل من رُكام الاستلاب والألْيَنة الذي رزَح تحته ولم يكن قادرًا على زحزحته والتخلّص منه، وهذا الخط ʺالنضاليّʺ الأعمى الذي انخرَط فيه باندفاع شديد ونفَس طويل، بعد رجوعه إلى الجزائر، من بداية السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات، فقضى ثلثَ عُمره الأخير مرابطًا في جبهة الحرب على العربية والوجود العربي الإسلامي، وإحياء روح العنصرية وتمزيق اللُّحمة التي طالما عملت القيمُ الإسلامية على تقويتها بين العرب والأمازيغ في المنطقة المغاربية. وذلك غاية ما كانت تقوم عليه روحُ السياسة الكولونيالية والفرنكفونية وتسعى إليه. هل كان يُراد منه أكثر من التنكّر لعمقه الحضاري والثقافي الذي لم يكن واعيًا بأهميته، والمضيّ في هذا الاجترار الببَّغاوي للمقولات الاستعمارية المعادية لوحدة الأمة الإسلامية وتلاحُم مكّوناتها؟ من كان، إذن، يصحّ أن يُعدَّ غنيمةَ حربٍ، يا كاتب ياسين، أنتَ أم اللغة الأجنبية التي قلتَ إنك منفيُّ بداخلها؟ وهل استطعتَ تحريرَ وعيِك وعقلك وفكرك وثقافتك مِن هذا المنفى السحيق؟ قلتَ أيضًا إنك تكتب بهذه اللغة لتشوّهها وتحارب فرنسا الاستعمارية من خلالها. لكن، مَن الذي استطاع في النهاية أن يشوّه الآخر حقّا، ويخترقه عقلاً وروحًا، وينخره داخليّا وخارجيّا، ويُمزّقه نفسيّا وهُوِيًّا، أنت أم الفرنسية أم فرنسا الاستعمارية؟ قل لي بربك ولا تُكابِرْ: ما هي اللغة التي كانت تستحق أن تعدّها غنيمة وذُخرًا في حياتك؟ هل هي لغةُ أمَّتك وحضارتك الإسلامية التي نبَتَت فيها جذورُك، وتغذَت عليها عُروقُك، سواء كنت عربيا / أمازيغيّا أو مزيجًا منهما (فحضارتنا الإسلامية واحدة)، أم اللغة التي حوّلتك إلى أسير أبديّ مقطوعِ اللسان، مقصوص الجناح، منزوع المخالب، مسلوب الفكر والوعي؟ هل هي اللغة الضاربة في أعماق حضارتك وتاريخك، وقد خُنتَها وخَسِرتَها، وفرَّطتَ فيها، وتأفَّفت منها، وتعاليتَ عليها، أم اللغة اتي فرضَتها أحذيةُ الاحتلال السوداء، فاستعبَدَتك وسخَّرَتك لتكون شَماسًا على أبوابها وقِنّا من أقنانها، وصنَعَت منك عدوًّا تحارب بشوكتها شعبَك وأمتَك دفاعًا عنها، وتطعن في أمجاد آبائك وأجدادك طمعًا في نيل رضاها؟ قد يجوز لفرد من أفراد قبيلة نتصوّرها (مجرد تصوّر) مُوغلةً في التخلف والتوحُّش والانعزال إلى حد بعيد، لا شيء لها من تجاعيد النبوغ والذكاء، وليس لها ما تستعمله للتفاهم بين أفرادها إلا كلماتٍ شفوية تحاكي أصوات الطبيعة والحيوان، وإشارات قليلة عابرة، وإيماءات باليد أو بقية الجوارح، أن يقول عن الفرنسية، أو أية لغة أجنبية أخرى جاءت لتمنحه وسكانَ قبيلته لغةً ناضجة تُخرجهم من كهوف ما قبل التاريخ إلى نور العلم والكتابة والتدوين والتعليم، والتعبير والتفكير والوقوف على عتبة التمدّن والحضارة، إنها غنيمة حربٍ حصل عليها سكانُ تلك القبيلة في مقابل تسليم أنفسهم وأرضهم والقبول بهزيمتهم والتنازل لمحتلّيهم، باعتبار أنهم لم تكن لديهم لغةُ علمٍ ومعرفةٍ وتواصل تساويها قيمةً وأهميّةً في تاريخ وجودهم. لكن، هل كان الوضع الحضاري والثقافي والمعرفي لمنطقتنا المغاربية يُماثل وضع تلك القبيلة الموغلة في تخلفها وجهلها وافتقارها إلى أية لغة صالحة لتأدية وظائف التعليم والتفكير والتواصل المشترك وغيرها من بقية الوظائف الكبيرة الأخرى؟ قد يكون القول بفكرة اللغة الغنيمة مُستساغًا أيضًا، لو أن اللغة الأجنبية ذاتُ القدرة على الاحتواء الثقافي والعلمي والحضاري، قد ظهرت في منطقة ليس فيها إلا عشرات اللهجات واللُّغَيّات الشفوية الضعيفة المتنازِعة والموزَّعة بين قبائل شتى، وليس لواحدة منها شُفُوفٌ ولا ظهور على الأخرى، أو رصيدٌ من الكتابة والتدوين، ولا تاريخ يستحق الذكر في العلم والفكر والتعليم، فتقوم هذه اللغة الأجنبية، بحكم الواقع اللغوي المُتشرذِم، بوظيفة التواصل الجماعي المشترَك بين السكان من ذوي اللهجات الضعيفة المختلفة، إلى جانب التعليم وتسيير الإدارة ونحو ذلك، لعدم توفّر الأهلية الكافية في أية لُغيّة أو لهجة محلّية للقيام بشيء من تلك الوظائف الكبيرة. فهل كانت هذه الأوصاف والأحوال التي تخيّلناها، لتنطبق بأي شكل من الأشكال على حال منطقتنا المغاربية، لا من حيث مستواها الحضاري والثقافي والعلمي، ولا من حيث وضعها اللغوي؟ نعم، كانت في المنطقة، وما تزال، لهجات محلّية شفوية كثيرة عربية وأمازيغية، لها وظائفُها التواصلية والاجتماعية المختلفة وغيرها، ولكن، بإزاء هذا، كانت هناك لغة عالِمة جامعة مشتركة تُسنَد إليها الوظائف الكبرى على مستوى الدولة والمجتمع كله، في التواصل المشترك الداخلي والخارجي، وفي مجالات الدين والعلم والتعليم والبحث والتنظير والتأليف والقضاء والتجارة والاقتصاد والمراسلات وغير ذلك من الأمور.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق