المقالات

نهاية إسرائيل: جدلية الخطاب وحتمية الأسباب(عدنان أبو عامر)_1_

في الوقت الذي تبدو فيه إسرائيل وكأنها في تمدد جيوسياسي في المنطقة والعالم بانخراطها في الأحلاف والاتفاقيات السياسية والعسكرية والأمنية، فإن واقعها الداخلي لا يتوافق مع ذلك؛ حيث شهدت إسرائيل في الأشهر الأخيرة تزايدًا مطردًا في صدور تحذيرات من تفاقم المخاطر المحدقة بها، وبدا لافتًا استدعاء أحداث تاريخية قبل قرون، شهدت فيها سقوط “الممالك” اليهودية في حينها، والتحذير من تكررها. وقبل هذه التصريحات كان قد صدر، في مايو/أيار 2021، كتاب، للكاتب الإسرائيلي، آرييه شافيت، بعنوان “بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب”، يحلِّل فيه أوجه إخفاقات إسرائيل خلال أكثر من سبعين عامًا من إنشائها، ويبحث أهم تهديد وجودي لها ألا وهو مواجهة الصراعات والنزاعات الداخلية، وكيف يمكن إعادة جمع إسرائيل على رؤية واحدة، على اعتبار أنها الفرصة الأخيرة للشعب اليهودي.

تبحث الورقة في سبب استدعاء هذا الخطاب -حول الانهيار والزوال- في إسرائيل في الآونة الأخيرة للتحذير من نهاية “الدولة”، والذي جاء على ألسنة العديد من قادتها، وماذا يعني ذلك، لاسيما في هذا الوقت الذي اجتمعت تهديدات عدة على إسرائيل في آن واحد، وفي وقت بلغ فيه انقسام الدولة الداخلي مرحلة متقدمة، دون أن تستطيع الانتخابات المتكررة حسمه أو إنهاءه، بل ربما تسببت في مفاقمته.

تحذيرات ومخاوف

غصَّت وسائل الإعلام الإسرائيلية في فترة زمنية متقاربة بجملة تحذيرات صادرة عن أبرز قادة الدولة، من مختلف المستويات: السياسية والعسكرية والصحفية، وأجمعت على أنها تعيش لحظات حاسمة، وتوشك أن تصل لذات المصير الذي وصلته دول يهودية سابقة.

أكد رئيس الوزراء المستقيل، نفتالي بينيت، للإسرائيليين “أن الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، أو العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعًا لحظة مصيرية، فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق”. جاء حديث بينيت في 3 يونيو/حزيران 2022، عبر مناشدة من 27 صفحة، وجَّهها للمجتمع الإسرائيلي بمناسبة مرور عام على تشكيل حكومته، محذرًا أن الدولة تواجه خطر السقوط والانهيار بسبب عدم الانسجام بين مكوناتها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب جهود المعارضة اليمينية لإسقاط الحكومة.

وحذَّر وزير الدفاع، بيني غانتس، من أن “قلقًا يكتنف مستقبل إسرائيل بسبب فقدانها السيادة في النقب والجليل، وإمكانية خسارتهما في النهاية، بسبب تعاظم الثقل الديمغرافي للفلسطينيين، ومظاهر تشبثهم بالهوية الوطنية، وقد تتقلص جغرافيًّا لتصبح ممتدة فقط بين مدينتي الخضيرة جنوب حيفا، وغديرا جنوب تل أبيب”. وَرَدَ تحذير غانتس في جلسة مغلقة، أوائل مايو/أيار 2022، للكتلة البرلمانية لحزبه “أزرق-أبيض”، معزِّزًا المخاوف السائدة لدى صنَّاع القرار الإسرائيلي مما يعتبرونه التهديد الديمغرافي، بسبب تزايد أعداد فلسطينيي 48 التدريجي، وفقًا لدائرة الإحصاء الإسرائيلية التي كشفت أن عددهم بلغ مليونين حتى مايو/أيار 2022، بما يزيد عن خمس سكان إسرائيل البالغين 9 ملايين نسمة.

كما أن هؤلاء الفلسطينيين داخل إسرائيل لا يزالون يحتفظون بهويتهم الوطنية، وهو ما أثبتته هبَّة مايو/أيار 2021 المتزامنة مع أحداث المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وحرب غزة، حين اندلعت اشتباكات واسعة النطاق بين الفلسطينيين واليهود في عدد من المدن العربية الفلسطينية، أهمها مدينتا اللد وعكا، مما دفع بالشرطة والجيش الإسرائيليين لإجراء تدريب في مايو/أيار 2022 يحاكي وقوع مواجهات مماثلة مستقبلًا.

كما أبدى رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال صحفي مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها، لأن العصف يتملكنا، والتجاهل الفظ لتحذيرات التلمود”. وفق المعتقدات اليهودية، فقد قامت مملكتهم الأولى بين عامي 586-516 قبل الميلاد، أما حقبة الحشمونائيم فاستغرقت بين عامي 140-37 قبل الميلاد، وبالتالي فإن تجاوز إسرائيل للعقد الثامن يبدو مخالفًا لما درجت عليه سنن التاريخ اليهودي.

استحضر باراك في ذات المقال نماذج من شعوب العالم الذين أصابتهم “لعنة العقد الثامن”؛ فالولايات المتحدة نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية خلاله، وألمانيا أصبحت دولة نازية فيه ما تسبب بهزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفيتي وانهار.

أما تامير باردو، الرئيس السابق لجهاز الموساد، فأكد في محاضرة بكلية “نتانيا” أنه “بينما كثر الحديث عن التهديدات الكبيرة التي تحوم فوق إسرائيل، فإن التهديد الأكبر يتمثل بنا نحن الإسرائيليين، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تمامًا مثل أيام تدمير الهيكل الثاني، مما يستدعي منَّا وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة عدم العودة، لأن إسرائيل تنهار ذاتيًّا. صحيح أنها غنية وميسورة، لكنها ممزقة ونازفة، والمخاطر لا تنقضي، وبعد قليل ستعمل آلية الإبادة الذاتية المتمثلة في الكراهية المتبادلة”.

أما رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، فقد سبق كل هؤلاء، بقوله في 2017: إنني “سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة”.

يجمع هذه التصريحات والتحذيرات قاسم مشترك واحد: الخوف من سقوط إسرائيل، وانهيارها، وعدم وصولها لعامها الثمانين، سواء لأسباب داخلية ذاتية تتعلق بغياب الانسجام بين مكوناتها، وأدائها الحكومي السيء، وإمكانية تراجع الأغلبية اليهودية في الدولة، أو لعوامل خارجية متعلقة بتنامي المخاطر الأمنية والتهديدات العسكرية التي تحيط بالدولة من كل الجهات.

لم تعهد الساحة السياسية الإسرائيلية مثل هذه التحذيرات منذ عقود طويلة، بل اتسم نمطها السائد بالإشادة بقوة الدولة، ومناعتها، وحصانتها، وقدرتها على التغلب على مشاكلها الداخلية والخارجية، ما يطرح علامات استفهام حول صدورها تباعًا عن مختلف الأوساط السياسية والعسكرية، وبصورة متزامنة، وطبيعة دوافعها.

لقد لقيت هذه التصريحات الصادرة عن أقطاب الدولة صدى واسعًا لدى الإسرائيليين، لاسيما في الأوساط الصحفية والإعلامية، ومنهم من أبدى تأييده لهذه المخاوف، بل والمضي بعيدًا في تفسيرها، ومحاولة شرحها، حتى ذهب الكاتب، يغئال بن نون، إلى القول: إن “المزيد من الإسرائيليين تظهر عليهم علامات القلق الدالَّة على اليأس، ويتقدم الكثير منهم للحصول على الجنسية الأجنبية، حرصًا على مستقبل أطفالهم، لأن بعضهم يقول بصوت عالٍ: إن إسرائيل لن تكون موجودة لفترة طويلة، وإن إقامتها من الأساس كانت مغامرة فاشلة، ولذلك يعيشون حالة متشائمة، ويحثون أنفسهم وغيرهم على الهروب قبل وقوع الكارثة”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق