المقالات

الدراسات القرآنية، حقيقتها وأصالة القرآن الكريم (بو يعرب المرزوقي)

أردت أن أسائل دعوى حداثة هذه الطريقة ودلالتها الإيديولوجية والابستمولوجية. والأولى بقية من مواقف القرون الوسطى المشككة في اصالة القرآن.
لم أطل فيها لئلا يظن بي أني اتهم النوايا فادعي أن المتكلمين يشككون في اصالة القرآن وفي كون الإسلام دينا فريد نوعه لا انتحال لما تقدم عليه.
فاكتفيت بالإشارة الملمحة لبيان أمرين:1-بيان أن هذه الدراسات أكثر تخلفا من التفسير بالأثر2-وتنافيها مع الفكر الحديث يغفلها عن حقيقة القرآن.
كيف ذلك؟ أولا: ما العائق الابستيمولوجي الذي يحول دون هذه الدراسات والانتساب إلى الفكر الحديث؟ ظن أصحابها أن الفكر مرآة عاكسة لما يسمونه الواقع.
وعكس الفكر “الواقع” يفترض وهمين لم يعد الفكر الحديث يقول بهما: 1-أن العلم حصيلة تلقي العقل لما يأتيه من الخارج أو ما يسمونه واقعا بصنفيه.
وصنفاه هما الظرف التاريخي الثقافي والنصوص المتقدمة عليه والتي تعالج نفس القضايا أو ما يماثلها للاشتراك في اسم النصوص الدينية في هذا الظرف.
وعكس الفكر لما يأتيه من خارج يكون علما بالمنعكس على مرآة الفكر عندما يكون ما في الذهن مطابقا لما في العين وهو ما يسمونه “الواقع” وثنهم البدائي.
والعائق الابستيمولوجي مضاعف: 1-الطابع السحري لتأثير الظرف والنصوص السابقة 2-ونظرية المعرفة العملية بالمطابقة بين ما في الذهن وما في العين.
وهذا هو ما اعتبرته تخلفا ابستمولوجيا بالقياس إلى نظرية العلم الحديثة وبالقياس إلى علاقة الإبداع بما يسمونه الواقع هي انفعال به أو فعل له.
مدار بحثي الموجب الآن هو بيان أصالة القرآن التي لم يروها بسبب هذا العائق الابستيمولوجي والعائق الأيديولوجي موقف كنسي متخف بحداثة زائفة.
وإثبات ذلك يتطلب خطوتين: 1-كيف يتحرر الفكر المبدع من سياق الظرف التاريخي الثقافي ومن سياق التناص المزعومين؟ والجواب نموذجان: علمي وفني.
فلا إبداع في العلم من دون البناء الأكسيومي الذي يتخلص من “الواقع” الخارجي ويبدع واقعه فيحدد “الواقع” العلمي المختلف عما في ظاهر الأعيان.
ولا أبداع فني (في الفنون الجميلة) إلا بإبداع موضوع الفن نفسه وأسلوب العبارة عنه وهذا أهم مميز للفنون وخاصة للشعر. كلاهما يبدع “واقعه”.
وإذا حضر الواقع الذي في الأعيان فحضوره يكون بمعايير هذا الواقع الذي يبدعانه لأنه يصبح أحد عناصر ما ابدعاه من موضوع وأسلوب علاج علمي أو فني.
حضور الظرف التاريخي والثقافي والسوابق النصية في العلم وفي الفن فهو استدعاء منهما لما يجعله منفعلا بهما وليس فاعلا فيهما: تلك أصالة القرآن.
لكن ادعياء القراءة الحديثة للقرآن بسياقه التاريخي والثقافي وبالتناص عكس لعلاقة الإبداع القرآني بهما باستعمال أسلوب الإبداع العلمي والفني.
وأسلوب الإبداع العلمي في القرآن يعتمد على الحجاج العقلي بمنظومة المفاهيم التي هي الواقع الفاعل وبه يحلل ينقد به واقعهم الذي يصبح منفعلا.
وأسلوب الإبداع الفني في القرآن هو إبداع الأماثيل وبها يعبر القرآن بمشاهد شبه “مسرحية” تشخص المعاني في سلوك الشخوص: مثال مشهد استخلاف آدم.
فما هو الواقع الحق الذي يبدعه القرآن فيكون فاعلا بنموذجي الإبداع العلمي والإبداع الفني فيدرس به الواقع الزائف المنفعل؟ تلك هي أصالة القرآن.
نعم نصوص الأديان المتقدمة والظرف التاريخي حاضران في القرآن ولكن ليس بوصفهما فاعلين فيه بل منفعلان به: هو جعلها موضوع درسه بمعايير ما أبدعه.
وهو صريح في هذا القصد بدليل المنهج الذي طبقه في هذا الاستحضار: فهو يعيرها بمنهج التصديق والهيمنة. أي إنه يمتحنها ليبقي الصادق ويبطل الكاذب.
وما يبطله من طبيعتين: تحريف النص وتحريف ما يترتب عليه من سلوك ديني ببعديه الخلقي والسياسي فيكون التحريف خلطا بين الديني وتوظيفه السياسي.
وقد حصر التحريف الخالط بين الديني-جوهر الإسلام وعين الفطرة-في خمسة أشكال تاريخية في الحج 17: اليهودية والمسيحية والصابئية والمجوسية والشرك.
فحضورها في القرآن ليست تناصا ولا انتحالا بل هو قصدي وهدفه العرض التفكيكي والنقدي لما يطرأ على الديني من حيث مرجعياته وتوظيفاته من تحريف.
والأهم من ذلك كله هو أن القرآن ينبني هذين الابداعين المحررين من “الواقع” الموجود والساميين إلى الواقع المنشود على علم رئيس ما بعد الأخلاق.
ونسبة هذا العلم الرئيس-الأرشيتاكتونيك-إلى العلوم الدينية وأهمها الدراسات القرآنية ورأسها التفسير هي عين نسبة الميتافيزيقا للعلوم الفلسفية.
القرآن ميتاأخلاق ولهذه العلة فالرسول يقول إنه متمم الأخلاق. والأخلاق هنا لا تعني الأحكام الخلقية الذاتية في ذهن الفرد بل الأخلاق الموضوعية.
والأخلاق الموضوعية هي جوهر السياسة أو التربية والحكم. فالتربية هي التي تغذي الضمير بالتعين التاريخي للقيم والحكم يحقق آثارها في حياة البشر.
فالديني هو فلسفة العقائد وفلسفة الشرائع والأولى هي معرفة الحقيقة والسلوك بمقتضاها والثانية هي النظام الذي يحقق شروط وصول الإنسان إليها.
فدرس تحريف الديني في كل دين هو موضوع القسم النقدي من الإبداع القرآني حجاجيا وأمثوليا والقسم الثاني هو مشروع التربية والحكم لتجنب التحريف.
وبهذا المعنى يكون القرآن فلسفة دين وفلسفة تاريخ. والأولى أصلها العقيدة أو علم الديني عند الله -الإسلام-والثانية أصلها الشريعة أو العمل به.
ما الحديث في هذا التفسير؟ الحديث ابستمولوجي وأكسيولوجي. فهنا العقل يبدع واقعه وأسلوب علاجه عند المؤمن بإلهية مصدر القرآن أو عند نافيها.
والمؤمن أكثر تناسقا من النافي: ذلك أنه لا يتناقض عندما يعتقد أن العقائد والشرائع ذا مصدر متعال يبدعها بحق فيعتبرها من ثم متعالية على عقله
لكن غير المؤمن مضطر لأن ينسب إلى عقل الإنسان هذه الإبداع. لذلك فجل الملحدين قد ينفون المصدر الإلهي لكنهم لا يستطيعون أن ينفوا ما تحقق لمحمد.
وحتى لا يتناقضوا يطلبون ما يثبت أن محمدا انتحل علمه من نصوص يهودية ومسيحية والقرآن تلفيق ليس فيه أصالة ولا يرون طبيعة حضور ما تصوروه مسروقا.
صحيح أن اليهودية والمسيحية والصابئية والمجوسية والشرك كلها من موضوعات القرآن لكنها وردت لتدرس بمعيار: مصدق لما بين يديه ومهيمن عليه.
وهذا هو جوهر الدرس الحديث لكل “واقع”. فهو ظاهر من الواقع يعرض على حقيقة الواقع التي هي ليست ما في الأعيان ولا ما في الأذهان بل هي المثال.
القرآن فلسفة مثالية ذات فرعين: فرع فلسفة الدين وفرع فلسفة التاريخ والفرعان هما ما أقصده بالميتاأخلاق فهو إبداع لما بعد العلم وما بعد الفن.
وهذا الإبداع ليس نسخة من واقع متقدم عليه بل هو خلق لواقع متعال على الموجود بمعيار المنشود المكتوب في فطرة الإنسان بوصفه أهلا للاستخلاف.
وقد ضربت لهم مثال سورة هود: ففيها كلام يجمع بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ من خلال البنية الأمثولية القصصية لسبعة رسل والخطاب موجه لثامن.
فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وبين الثلاثة الأول والثلاثة الأواخر نجد ابراهيم ثم المخاطب بالسورة محمد رسولا للبشرية كلها.
فإذا اضفنا صورتي آدم الأول والأخير أي آدم وعيسى (لأن القرآن قاسه عليه) وجدنا عشر رسالات، ستة منها تعالج كل التحريفات الممكنة للأولى والأخيرة.
أي للآدمية ولنوعي العلاقة بالله: بدايتها آدم وغايتها عيسى. ثم اثنتان للحنيفية الأصلية (ابراهيم) والحنيفية المحدثة (محمد)وهو المبشر به في هود.
فالبشرى تتوجه لشيخ وعجوز وصلت سن اليأس، لكن الملكين بشراهما بابن وهو في الحقيقة محمد أو الرسالة الأخيرة التي ستحررنا من علل التحريف.
وعلل التحريف علاجها بالتحرر من طغيان الطبيعية وإعادة تكوينها على عين الله بعد نهاية الطوفان(نوح) ثم التحدي الاقتصادي (هود) ثم صالح وتحدي مصدر الحياة الأول (توزيع الماء)، ثم لوط وتحدي المثلية، ثم ما ينتج عن التحدي الاقتصادي من تشعيب وصراع بين البشر (شعيب).
والتحدي الأخير هو تحدي العبودية الناتجة عن الاستعباد السياسي (موسى). وتلك هي مضامين الرسالة الإسلامية ومهمة الحنيفية المحدثة.
وهنا يأتي دور آدم وعيسى. فالتحريف العقدي الأساسي الذي يفسد فلسفة الدين فيرتب عليها افساد فلسفة التاريخ هو تأويل عصيان آدم وحواء في المسيحية.
فهذا التأويل مناف للحياة ولدلالة الاستخلاف والاستعمار في الأرض: فالإنزال ليس عقابا لخطأ يتعلق بالجنس بل لأن آدم تلقى كلمات فتاب واجتباه ربه.
ثورة الإسلام الأساسية هي تأويل الدين بصورة لا تجعله منافيا للحياة وشروطها: الدنيا هي الحياة الأولى التي تتحقق فيها أهلية الإنسانية للاستخلاف.
وهذه الأهلية تتحقق إذا عملت الإنسانية بما سعى إليه نوح (العلاقة بالطبيعة) وما سعى إليه هود (الاقتصاد) وما سعى إليه صالح (توزيع الماء) وما سعى إليه لوط (الجنس السوي) وما سعى إليه شعيب (العدل في المعاملات الاقتصادية) وما سعى إليه موسى (الاستبداد والتحرر من العبودية).
لكن ذلك كله مرهون بالوحدانية الإبراهيمية التي هي بالأساس التحرر من عبادة الطبيعة والتعالي لعبادة الواحد الأحد. اية محمد ابراهيم الثاني.
ولهذه العلة يمكن اعتبار سورة هود (من هاد واهتدى) هي العرض النسقي لفلسفة الدين ولفلسفة التاريخ اللتين تمثلان مضمون القرآن الجوهري.
وهذا المضمون هوما بعد الأخلاق علما رئيسا نسبته إلى الفلسفتين الدينية والتاريخية تناظر نسبة ما بعد الطبيعة في الفلسفة القديمة والوسطية.
أما الفلسفة الحديثة فهي قد تخلت عن الميتافيزيقا وتبنت ما بعد الأخلاق. ومن لم يفهم ذلك لا يدرك الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لثورة الإسلام.
وإذا كنت أفخر بشيء، فهو بيان ذلك في أعمالي الأكاديمية، لا تبدو ذات صلة بالقرآن عندما ننظر إليها قبل الجلي في التفسير، لكنها بعده ترد إليه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق