المقالات

موقع الخطاب الشرعي بين النظر المقاصدي والدلالة النصية. (محجوب بوسيف)

“دراسات مقاصدية”

يحتاج النظر في الخطاب الشرعي – مع الأخذ بالصيغ والألفاظ- إلى اعتبار المقاصد واستحضار المراد، ويفتقر – مع اعتماد الظواهر والمباني- إلى مراعاة الأسرار والمعاني، جلية كانت أم خفية، بل إن هذا هو الأصل وبه تكون العبرة في أدلة الشرع فقها وتنزيلا. يقول الإمام الشاطبي: “كل عاقل يعلم أن مقصود كل خطاب ليس التفقه في العبارة، بل التفقه في المعبر عنه وما المراد به”([1]). ويقول ابن القيم: “إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ؛ فإنه المقصود، واللفظ وسيلة”([2]).

إن مما اختصت به لغة العرب العارضة والبيان وقوة الكلام ووفرة الأصناف والألوان في الخطاب، والعرب لا تحتفل كثيرا بصيغ الخطاب إذا كان القصد مفهوما، و”لا تقصد التدقيقات في كلامها، ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة، فما وراء ذلك إذا كان مقصودا لها فبالقصد الثاني، ومن جهة ما هو معين على المقصود”([3]). لذلك كان أرباب العربية أبعد عن التكلف والتصنع في أساليبهم، “فقد كان الأصمعي([4])يعيب الحطيئة([5])، واعتذر عن ذلك بأن قال: “وجدت شعره كله جيدا، فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، وإنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه، جيده على رديئه”([6]). ويؤكد هذا المعنى الإمام ابن قتيبة في معرض توصيفه لأسلوب الخطيب العربي الأصيل إذ يقول: “…ثم لا يأتي بالكلام مهذبا كل التهذيب، ومصفى كل التصفية، بل تجده يمزج ويشوب، ليدل بالناقص على الوافر، وبالغث على السمين، ولو جعله كله بحرا واحدا لبخسه ماءه، وسلبه بهاءه”([7]). وما ذلك إلا لترجيحهم المقصود على الملفوظ والمعنى على المبنى؛ فإن المطابقة والمفارقة بين اللفظ والقصد في لسان العرب على وزان واحد. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها. وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره. وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعاما ظاهرا يراد به الخاص. وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أواخره.

“وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله.

“وتَكَلمُ بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها.

“وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة”([8]).

ونقل هذه المقالة([9]) الإمام الشاطبي في الموافقات([10])، ثم قال: “فإن كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب”([11]).

والذي قاله الشافعي والشاطبي هو الطريق المهيع، والسبيل المنتهج، فإنه لا مناص للباحث في القرآن والحديث فهما واستنباطا من مراعاة طريقة العرب في خطابها؛ فإن “لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع”([12])، ومن خصائصه أن يأتي فيه ظاهر الألفاظ مخالفا للمعنى المراد كإتيانه موافقا له. قال ابن فارس([13]): “فمن سنن العرب مخالفة اللفظ معناه، كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره! فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه”([14]). وساق الإمام السيوطي أمثلة لهذا من كتاب الله اقتطف منها ما يلي:

– خطاب العام والمراد به الخصوص، كقوله: )يا أيها الناس اتقوا ربكم(([15]) ولم يدخل فيه الأطفال والمجانين.

–  خطاب الخاص والمراد به العموم، كقوله: )يا أيها النبي إذا طلقتم( ([16])، افتتح الخطاب بالنبي، والمراد سائر من يملك الطلاق…

–  خطاب الجمع بلفظ الواحد كقوله: )يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم(([17]).

– خطاب الواحد بلفظ الجمع، نحو: )يا أيها الرسل كلوا من الطيبات…([18] إلى قوله: )فذرهم في غمرتهم حتى حين([19]. فهو خطاب له  وحده؛ إذ لا نبي معه ولا بعده؛ وكذا قوله: )وإن عاقبتم فعاقبوا…(([20])بدليل قوله: )واصبر وما صبرك إلا بالله..( ([21]) الآية…

–  خطاب الواحد بلفظ الإثنين: نحو (ألقيا في جهنم(([22])، والخطاب لمالك خازن النار، وقيل لخزنة جهنم والزبانية؛ فيكون من خطاب الجمع بلفظ الإثنين، وقيل للملكيين الموكلين به في قوله: )وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد(([23])، فيكون على الأصل…

– خطاب الاثنين بلفظ الواحد: كقوله: )فمن ربكما يا موسى؟(([24]) أي: ويا هارون…

– خطاب الاثنين بلفظ الجمع كقوله:)أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا،واجعلوا بيوتكم قبلة(([25])

– خطاب العين والمراد به الغير: نحو (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين(([26]) الخطاب له، والمراد أمته  ؛لأنه كان تقيا، وحاشاه  من طاعة الكفار؛ ومنه: )فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك([27]، والمراد بالخطاب التعريض بالكفار.

– خطاب الغير والمراد به العين: نحو: )لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم( [28][29].

وإن ثراء لسان العرب بالمجاز بشتى أنواعه ثراءه بسائر فنون البلاغة ليجعل المرء حذرا مشفقا من الجزم مطلقا بظواهر النصوص ورسومها. انظر مثلا إلى قوله تعالى: )حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود( [30]، فحقيقة معناه أبعد ما تكون عن ظاهر مبناه؛ فالخيط الأبيض”هو الصبح المصدق، والخيط الأسود هو الليل، والخيط هو اللون”[31]، ويقول عز وجل عن الحائط الذي أقامه الخضر: )يريد أن ينقض( [32]، “وليس للحائط إرادة ولا للموات، ولكنه إذا كان في هذه الحال من ربه فهو إرادته، وهذا قول العرب في غيره. قال الحارثي:

يـريـد صـدر بنـي براء       ويرغب عن دماء بني عقيل”[33].

ولولا الأخذ بالدلالة المجازية لقوله تعالى: )وغرتهم الحياة الدنيا([34] لفهم أن القوم برآء، وأن الدنيا هي التي اعتدت عليهم وتعرضت لهم بالتغرير، ولكنهم هم الذين استسلموا لخداعها وزخرفها وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها إن آمنوا؛ فهذه استعارة “لأنهم لما اغتروا بالحياة الدنيا حسن أن يقال إنها غرتهم، ولما كان فيها ما تميل إليه شهواتهم جاز أن يقال إنها استمالت شهواتهم”[35]. وعلى هذا المساق يجري قوله تعالى: )ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله([36]، “وهي استعارة، والسبل التي هي الطرق لا تتفرق، وإنما هم الذين يفارقون نهجها ويتبعون عوجها”[37].

ولولا اعتبار الدلالة المقاصدية المفهومية من سياق قوله عز وجل:  )فاعبدوا ما شئتم من دونه( [38] لأدى الأمر إلى الوقوع في الكفر والشرك؛ إذ هو المعنى المفهوم من ظاهر هذه الجملة وألفاظها. لكن المعنى هو النهي والوعيد.. وصدق الإمام الشافعي رحمه الله إذ قال: “لا يعلم جمل الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها[39].

والناظر إلى قوله  مثلا، فيما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه:”ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار”[40]، يتبادر له من ظاهره أن الأسفل من الإزار هو الذي يكون في النار، لكن المراد خلاف ذلك  كما يدل عليه مجموع الأحاديث في هذا الباب، ويشهد له لسان العرب. قال الإمام الخطابي: “يريد[أي النبي ] أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة، وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه، وتكون “مِنْ” بيانية، ويحتمل أن تكون سببية، ويكون المراد الشخص نفسه، أو المعنى ما أسفل من الكعبين من الذي يسامت الإزار في النار، أو التقدير لابس ما أسفل من الكعبين إلخ، أو التقدير أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار، أو فيه تقديم وتأخير، أي ما أسفل من الإزار من الكعبين في النار، وكل هذا استبعاد ممن قاله لوقوع الإزار حقيقة في النار، وأصله ما أخرج عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد “أن نافعا سُئِل عن ذلك فقال: وما ذنب الثياب ؟ بل هو من القدمين”[41]. ويظهر هذا التأويل واضحا من خلال ترجمة البخاري لهذا الباب وهو قوله: “باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار”[42].

وما أورده ابن حجر – لتجويز حمل حديث أبي هريرة على ظاهره- من حديث ابن عمر الذي أخرجه الطبراني وهو قوله  : “كل شيء يمس الأرض من الثياب في النار”[43]، لا يبعد أن يجري على أحد التأويلات التي ذكرها الخطابي في تفسير حديث أبي هريرة كقوله: “التقدير: لابس ما أسفل من الكعبين في النار” أو قوله: “التقدير أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار”.

والناظر إلى قوله : “يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء”[44]. يفهم من ظاهره، وجوب الزواج على كل من قدر على نفقاته، وإلا فهو عاصٍ آثم، إذ الأمر يفيد الوجوب؛ وهو قول الظاهرية وإحدى الروايات عن الإمام أحمد[45]. قال ابن حزم: “وفرض على كل قادر- إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى- أن يفعل أحدهما”[46].

وحكى الألوسي عن أهل الظاهر قولهم: “إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء”[47].

لكن عند التأمل في مجموع النصوص المتعلقة بباب النكاح، والقرائن المحتفة بها نلفي أن حكم الزواج في الأصل ليس الوجوب وإنما الندب، وهو قول عامة الفقهاء؛ وإنما يجب- كما قالوا- في حالة الخوف من الوقوع في المحظور[48]. ونقل الكاساني الاتفاق على وجوبه في حالة التوقان بحيث لا يمكنه الصبر عن النساء وهو قادر على المهر والنفقة[49]. ومن أدلتهم على عدم وجوبه في غير هذه الحالة أن “الله تعالى حين أمر به، علقه على الاستطابة بقوله:)فانكحوا ما طاب لكم من النساء([50]، والواجب لا يقف على الاستطابة. وقال:)مثنى وثلاث ورباع([51]، ولا يجب ذلك بالاتفاق”[52]. والنبي  نبه على علة الأمر بالنكاح بقوله: “فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج”. فهي حفظ البصر عن مفاتن النساء، وتحصين الفرج من الوقوع في الفاحشة، فمتى تحققت العلة ثبت حكم الوجوب، ومتى انتفت انتفى؛ إذ الأحكام دائرة مع عللها.

والناظر إلى قوله : “لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان”[53] قد يتوهم أن الصلاة عند حضور الطعام أو مدافعة الأخبثين غير صحيحة لكن من زاول الحديث النبوي في كلياته وتمرن في قواعد الشريعة وأصولها، وقف على المعنى الصحيح، وأدرك حقيقة المراد؛ وهو-كما قال جمهور الفقهاء- أن الصلاة تصح وتجزئ، لكن مع الكراهة؛ وقال أهل الظاهر ببطلانها[54].

إنما نهى النبي  عن الصلاة في هاتين الحالتين لذهاب كمال الخشوع عندهما، وهو غير واجب كما يدل على ذلك استقراء أدلة هذا الباب، ويدل عليه أصل رفع الحرج في الدين، فإن إلزام الخشوع الكامل في الصلوات لا حرج فوقه..

ومما لا يعزب عن بال من له دراية بلسان العرب أن الأساليب المجازية والطرائق التعبيرية الخفية أفصح وأبلغ – إن فهمت- من العبارات الظاهرية الجلية. قال الإمام عبد القاهر الجرجاني: “قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح؛ وأن للاستعارة مزية وفضلا، وأن المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة”[55].

وقال مالك بن أسماء:

منطقٌ صائب وتلْحنُ أحيانا            وخيرُ الحديث ما كان لحنا[56]

أي تعريضا وتشويقا من غير تصريح.

وعلى هذا المساق جرى كثير من كلام العرب إذ “قالوا: هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس. وكان ذلك عندهم أبلغ من قولهم: هذا الفرس سابق لهذا الفرس. وكذلك إذا قالوا: فلان يأسف بشم رائحة مطبخه. فإنه أفصح عندهم وأبلغ من قولهم: فلان لا يطعم ولا يسقي”[57]. ولهذا قال العلماء: “كلام العرب على الإطلاق لابد فيه من اعتبار المساق في دلالة الصيغ، وإلا صار ضحكـة وهزئه. ألا ترى إلى قولهم: فلان أسد، أو حمار، أو عظيم الرمـاد، أو جبان الكلب، أو فلانة بعيدة مهوى القرط[58]. وما لا ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معقول. فما ظنك بكلام الله وكلام رسول  الله “[59].

وقد عقد صاحب “تأويل مشكل القرآن” بابا لبيان مخالفة اللفظ ظاهر معناه، “من ذلك الدعاء لا يراد به الوقوع، كقول الله عز وجل:)قتل الخراصون([60]، و)قتل الإنسان ما أكفر([61]، و)قاتلهم الله أنى يؤفكون( [62]

“ومن ذلك الجزاء عن الفعل بمثل لفظه والمعنيان مختلفان، نحو قوله تعالى: )إنما نحن مستهزؤون. الله يستهزئ بهم([63] أي يجازيهم جزاء الاستهزاء؛ وكذلك)سخر الله منهم([64]، و)ومكروا ومكر الله([65]، و)وجزاء سيئة سيئة مثلها( [66]، هي من المبتدأ سيئة ومن الله عز وجل جزاء، وقوله: )فمن اعتدى عليكم فاعتـدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم([67]، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء، والجزاء لا يكون ظلما، وإن كان لفظه كلفظ الأول…

“ومنه أن يأتي الكلام على مذهب الاستفهام وهو تقرير كقوله سبحانه: )أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ ( [68]، )وما تلك بيمينك يا موسى ؟([69] ،  و)ماذا أجبتم المرسلين ؟([70]، و)قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ؟( [71].

“ومنه أن يأتي على مذهب الاستفهام وهو تعجب، كقوله: )عم يتساءلون !؟ عن النبإ العظيم([72]، كأنه قال: عم يتساءلون يا محمد !؟ ثم قال: عن النبإ العظيم يتساءلون، وقوله: )لأي يوم أجلت !؟ (  على التعجب، ثم قال: )ليوم الفصل([73].

“وأن يأتي على مذهب الاستفهام وهو توبيخ كقوله:)أتأتون الذكران من العالمين ؟([74].

“ومنه أن يأتي الكلام على لفظ الأمر وهو تهديد، كقوله: )اعملوا ما شئتم( [75].

“ويأتي على لفظ الأمر وهو تأديب، كقوله: )وأشهدوا ذوي عدل منكم)[76]،)واهجروهن في المضاجع واضربوهن([77]؛ وعلى لفظ الأمر وهو إباحة، كقوله: )فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا([78]، )فإذا قضيت الصلاة فانتشروا([79]؛ وعلى لفظ الأمر وهو فرض، كقوله: )واتقوا الله( [80] و)أقيموا الزكاة( [81]… ومنه أن يجتمع شيئان فيجعل الفعل لأحدهما وهو لهما، كقوله: )وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها( [82]، وقوله: )والله ورسوله أحق أن يرضوه([83]

“ومنه أن تخاطب الشاهد ثم تجعل الخطاب له على لفظ الغائب، كقوله عز وجل: )حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة( [84]

“ومنه أن يخاطب الرجل بشيء ثم يجعل الخطاب لغيره، كقوله: )فإن لم يستجيبوا لكم([85] الخطاب للنبي  ثم قال للكفار:)فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأن لا إله إلا هو([86]، يدلك على ذلك قوله: )فهل أنتم مسلمون؟( [87] …  إلى آخر ما قال[88] مما سبق إيراده في أمثلة السيوطي.

وأرى من المناسب في هذا المقام أن أسوق عبارة للإمام الرازي ذكر فيها أن الأصوليين نصوا على أن صيغة “افعل” مستعملة في خمسة عشر وجها: “*الأول: الإيجاب، كقوله تعالى: )أقيموا الصلاة([89] *الثاني: الندب، كقوله تعالى: )فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا( [90]

*الثالث: الإرشاد، كقوله تعالى: )واستشهدوا شهيدين([91])فاكتبوه([92]*الرابع: الإباحة، كقوله تعالى:)كلوا واشربوا([93] *الخامس: التهديد، كقوله تعالى:)اعملوا ما  شئتم( [94]…ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى: )قل تمتعوا( [95]…  *السادس: الامتنان )فكلوا مما رزقكم الله( [96]  *السابع: الإكرام )ادخلوها بسلام آمن [97](*الثامن: التسخير كقوله تعالى: )كونوا قردة( [98] *التاسع: التعجيز )فأتوا بسورة( [99]  *العاشر: الإهانة )ذق إنك أنت العزيز الكريم( [100] *الحادي عشر: التسوية )فاصبروا أو لا تصبروا([101] *الثاني عشر: الدعاء )رب اغفر لي( [102] *الثالث عشر: التمني، كقول الشاعر:

 “ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي            بصبح وما الإصباح منك بأمثل”

 *الرابع عشر: الاحتقار، كقوله: )ألقوا ما أنتم ملقون([103] *الخامس عشر: التكوين، كقوله:

 )كن فيكون( [104]. إذا عرفت هذا فنقول: اتفقوا على أن صيغة “افعل” ليست حقيقة في جميع الوجوه”[105]..

فأنت ترى من خلال هذه النقول، أن منهج الفهم الصحيح للخطاب الشرعي مناف للوقوف أبدا مع حرفية الألفاظ وظواهر الصيغ، فإنما الألفاظ أسباب إلى درك مقصود الخطاب، لا ذرائع مانعة منه. قال شيخ الإسلام في فتاويه: “المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين”([106]).

 وقال تلميذه ابن القيم: “الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم”([107]). وقال أيضا: “اللفظ دليل على القصد فاعتبر لدلالته عليه، فإذا علمنا يقينا خلاف المدلول لم يجز أن نجعله دليلا على ما تيقنا خلافه”([108]).

وذكر الشاطبي أن تجريد الاتباع للظواهر مؤد إلى التعارض والاختلاف، “ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال بظواهر الأدلة”([109]). ومنهم من يرد الجم الغفير من الأحاديث الصحيحة الصريحة لمخالفتها ما فهموه -أو بالأحرى ما وهموه- من ظاهر آية أو آيتين، فقد “ردت الجهمية ما شاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله: )ليس كمثله شيء(([110])، وردت الخوارج ما شاء الله من الأحاديث الدالة على الشفاعة وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن، وردت الجهمية أحاديث الرؤية – مع كثرتها وصحتها- بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله: )لا تدركه  الأبصار(([111])، وردت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن، وردت كل طائفة ما ردته بما فهموه من ظاهر القرآن”([112]).

وبذلك؛ فوت كثير منهم، ما اكتنفته نصوص الشرع من أسرار ودلالات وأحكام؛ إذ حصروا فيض المباني، وضيقوا عظيم المعاني، مما هو مركوز ابتداء في أصل الاستخدام اللغوي، ومما هو حجة قائمة على الناس إلى يوم البعث، بتجدد دلالاته وعطائه، وثبات مقاصده وغاياته. والحمد لله رب العالمين.


[1]   – الموافقات : 3/410.

[2]   – إعلام الموقعين : 3/74.

[3] – الموافقات : 3/410.

[4]    – هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي الأصمعي الباهلي العلامة الحافظ حجة الأدب ولسان العرب. كان إماما في اللغة والأخبار والنوادر والملح. قال الإمام الشافعي : “ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي”. وتصانيف الأصمعي ونوادره كثيرة وأكثر تواليفه مختصرات وقد فقد أكثرها. توفي سنة 215هـ. وقيل أقل بسنة وقيل أكثر بسنة.. ينظر : وفيات الأعيان : 3/170، وسير أعلام النبلاء : 10/175، والأعلام (الزركلي) : 4/162.

[5]   – هو أبو مليكة جرول بن أوس بن مالك العبسي شاعر مخضرم، كان هجاء عنيفا. اضطرب نسبه.فأنكره أقاربه، وتشرد متقلبا من قبيلة إلى قبيلة، ومن نسب إلى آخر، يمدح من أعطاه ويهجو من رده إلى أن توفي سنة 679هـ. له ديوان شعر فيه مدح وهجاء وفخر ونسب. ينظر : الأعلام (الزركلي) : 2/218، وتاريخ الأدب العربي (حنا الفاخوري) : 194.

[6] – الموافقات : 2/84-85.

[7] – تأويل مشكل القرآن : 11.

[8] – الرسالة : 51-52.

[9] – مع اختلاف يسير جدا في العبارة.

[10] – الموافقات : 2/65-66.

[11] –  نفسه : 2/65-66.

[12] – الموافقات : 4/324.

[13] – هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء بن محمد بن حبيب الرازي اللغوي. كان إماما في علوم شتى وخصوصا اللغة، فإنه أتقنها، من مؤلفاته : كتاب “المجمل في اللغة”، وكتاب “حلية الفقهاء”، وله رسائل أنيقة. توفي سنة 390هـ. ينظر : وفيات الأعيان : 1/118. والأعلام: 1/193.

[14] – المزهر (السيوطي) : 1/331.

[15] – النساء : 1.

[16] – الطلاق : 1.

[17] – الانفطار : 6.

[18] – المؤمنون : 51.

[19] – المؤمنون : 54.

[20] – النحل : 126.

[21] – النحل : 127.

[22] –  ق : 24.

[23] –  ق : 21.

[24] –  طه : 49.

[25] –  يونس : 87.

[26] – الأحزاب : 1.

[27] –  يونس : 94.

[28] – الأنبياء : 10.

[29] –  معترك الأقران في إعجاز القرآن (السيوطي) : 1/231، وما بعدها.

[30] – البقرة : 187.

[31] – مجاز القرآن (أبو عبيدة) : 68.

[32] – الكهف : 77.

[33] –  مجاز القرآن (أبو عبيدة) : 68.

[34] – الأنعام : 70.

[35] – تلخيص البيان (الشريف الرضي) : 140.

[36] – الأنعام : 153.

[37] – تلخيص البيان : 140.

[38] – الزمر : 15.

[39] – الرسالة : 50.

[40] – الحديث أخرجه البخاري – كتاب اللباس- باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار : 5450.

[41] – فتح الباري : 10/315.

[42] – نفسه : 10/315.

[43] – نفسه : 10/315-316.

 [44] – الحديث أخرجه البخاري – كتاب النكاح- باب من لم يستطع الباءة فليصم – 4779.

[45] – ينظر : المغني : 7/3، ونيل الأوطار : 6/230، وسبل السلام : 3/212. قال في فتح الباري : (9/137) : “والمشهور عن أحمد أنه لا يجب على القادر التائق إلا إذا خشي العنت”.

[46] – المحلى : 9/440.

[47] – روح المعاني : 4/194.

[48] – ينظر : بداية المجتهد : 1/7، والمغني : 7/3، وفتح الباري : 9/137، وسبل السلام : 3/212.

[49] – بدائع الصنائع : 2/228.

[50] – النساء : 3.

[51] – النساء : 3.

[52] – المغني : 7/4.

[53] – الحديث أخرجه مسلم – كتاب المساجد ومواضع الصلاة- باب كراهة الصلاة بحضرة  طعام.. – 560.

[54] – ينظر : شرح النووي على صحيح مسلم : 5/46، ونيل الأوطار : 1/406، وسبل السلام : 1/288.

[55] – كتاب دلائل الإعجاز : 55-56، والإتقان : 2/97.

[56] – لسان العرب : 13/381، وشرح تنقيح الفصول (القرافي) : 54.

[57] – ينظر : الإحكام في أصول الأحكام (الآمدي) : 3/76.

[58] – كناية عن لازمه وهو طول الجيد.

[59] – الموافقات : 3/153.

[60] – الذاريات : 10.

[61] – عبس : 17.

[62] – التوبة : 30.

[63] – البقرة : 14-15.

[64] – التوبة : 79.

[65] – آل عمران : 54.

[66] – الشورى : 40.

[67] – البقرة : 194.

[68] – المائدة : 116.

[69] – طه : 117.

[70] – القصص : 65.

[71] – الأنبياء : 42.

[72] – النبإ : 1.

[73] – المرسلات : 13.

[74] – الشعراء : 165.

[75] – فصلت : 40.

[76] – الطلاق : 2.

[77] – النساء : 34.

[78] – النور : 33.

[79] – الجمعة : 10.

[80] – البقرة : 189.

[81] -كذا في المطبوعة وفي الآية تصحيف،ولعل الأصل:”وآتوا الزكاة”البقرة:4،أو”أقيموا الصلاة”الأنعام : 72.

[82] – الجمعة : 11.

[83] – التوبة : 62.

[84] – يونس : 22.

[85] – هود : 14.

[86] – نفس الآية.

[87] – نفس الآية.

[88] – تأويل مشكل القرآن : 213 وما بعدها.

[89] – الأنعام : 72.

[90] – النور : 33.

[91] – البقرة : 282.

[92] – نفس الآية .

[93] – البقرة : 60.

[94] – فصلت : 40.

[95] – إبراهيم : 30.

[96] – النحل : 114.

[97]  –  الحجر : 46.

[98] – البقرة : 65.

[99] – البقرة : 23.

[100] – الدخان : 49.

[101] – الطور : 16.

[102] – الأعراف : 151.

[103] – الشعراء : 43.

[104] – البقرة : 117.

[105] – المحصول : 2/57 وما بعدها.

[106] – مجموع الفتاوى : 31/47.

[107] – إعلام الموقعين : 1/218.

[108] – نفسه : 4/85.

[109] – الموافقات : 3/76.

[110] – الشورى : 11.

[111] – الأنعام : 103.

[112] – الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (ابن القيم) : 56.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق