المقالات

مراجعة كتاب: الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي للكاتب: فرانسيس فوكوياما (إبراهيم بايزو)

صدرت الطبعة الأولى من الترجمة العربية لكتاب فرانسيس فوكوياما “الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي” عن منتدى العلاقات العربية والدولية سنة 2015. وقد شارك في ترجمة الكتاب الذي صدر في طبعته الأولى باللغة الإنجليزية سنة 1995 كل من معين الإمام ومجاب الإمام. يقع الكتاب في 639 صفحة من الحجم المتوسط. وتتوزع فصوله الواحد والثلاثون على خمسة أجزاء بالإضافة إلى توطئة ومقدمة وثبت للمراجع.    

في هذا العمل يناقش المؤلف ذو الخلفية السوسيولوجية الثقة باعتبارها مفهوما جامعا للفضائل الاجتماعية ودورها في تحقيق الرخاء الاجتماعي. وإذا كان الكتاب لا ينقض نظرية الرجل التي دافع عنها في “نهاية التاريخ والانسان الأخير” ، فإنه يتميز عنه من حيث إنه محاولة أكثر إنسانية من داخلها تروم إثبات أطروحة مركزية مفادها أن الرأسمالية الاقتصادية باعتبارها لازمة وأساسا للديمقراطية الليبرالية -حاضرا ومستقبلا- في حاجة إلى الاستثمار في رأس المال الاجتماعي أكثر من حاجتها إلى الاستثمار المالي والبشري من أجل الحفاظ على الرخاء الاقتصادي في ظل تعذر إدخال مزيد من التحسينات على المجتمعات ما بعد الصناعية عبر مشاريع الهندسة الاجتماعية الطموحة كما تؤكد ذلك قناعة المؤلف في أطروحته حول نهاية التاريخ.

في هذه المراجعة للكتاب، سوف نعيد توزيع قضاياه بشكل يظهر منهجيتنا في القراءة حيث نضم الجزء الثالث والرابع في محور واحد بينما نخصص لكل جزء من الأجزاء الثلاثة الأخرى محورا خاصا. وهكذا، يصير عدد محاور هذه المراجعة أربعة: يتناول أولها أطروحة الكتاب وما يتفرع عنها من مقولات. وبينما نخصص المحور الثاني لبيان كيفية تعامل الكاتب مع التحديات التي جسدتها حالات دول صنفها ضمن مجتمعات الثقة المتدنية لكنها تتميز بنمو اقتصادي لم يستطع الكاتب تجاهله، فإننا سوف نخصص المحور الثالث لتوضيح منهجية المؤلف في تحليل حالة اليابان وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها حالات لمجتمعات الثقة العالية التي يستند اليها في تأكيد صحة أطروحته.

وفي المحور الرابع سوف نبين كيف عاد المؤلف لتأكيد أطروحته وصلاحيتها المستقبلية عبر الإجابة عن بعض التحديات التي فرضتها التأويلات المنافسة والتحولات المرتقبة. وسوف نختم هذه المراجعة -كما هو منتظر من كل مراجعة- بتعقيب على أطروحة الكتاب مركزين على مفاهيمها وبعض خلاصاتها.      

  1. أطروحة الكتاب: فكرة الثقة وأهميتها للرخاء الاقتصادي:

انطلق المؤلف في التأسيس لأطروحته من الحالة الأمريكية. فبعد أن كشف عن فشل المجتمع الاقتصادي الأمريكي في فهم واستيعاب الجذور التاريخية للتوجهات الاجتماعية المتأصلة في هذا المجتمع وإبراز عجز عدد من المفكرين المعاصرين عن إدراك أهمية البعد الثقافي في مجمل الحياة الاقتصادية، انتقل فوكوياما لتعريف كل من الثقافة والثقة ورأس المال الاجتماعي وكيف ارتبطت الثقة بالبنية الاقتصادية وأثرت على الرخاء الاقتصادي.

عندما يتحدث فوكوياما عن المشكلة الأمريكية في هذا الكتاب فإنه يقصد بذلك عجز النقاش بين الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد والميركانتيليين الجدد حول واجب الدولة وحدود تدخلها في الاقتصاد عن الاهتداء إلى القضية المركزية التي تفسر الحياة الاقتصادية،  وهي المشكلة التي جعلت الكاتب يحذر من مغبة تعميم النتائج والحلول التي توصل إليها الفريقان. وفي هذا الصدد، يؤكد المؤلف أن المتغير المهم الذي لم يتم الانتباه إليه في خضم هذا النقاش يبقى هو الثقافة لا السياسة الصناعية والاقتصادية بحد ذاتهما.

اقتناعا منه بأن المستقبل سوف يفرض تغييرات مهمة على المؤسسات الصناعية التراتبية كبيرة الحجم باعتبارها تجسيدا للرخاء الاقتصادي، ينتقل المؤلف مباشرة لطرح السؤال التالي:  في سياق الثورة المعلوماتية المفتوحة، هل تتكفل ثورة المعلومات بالقضاء على المؤسسات الصناعية التراتبية الكبرى لتصبح من مخلفات التاريخ أم تكون التجمعات العفوية هي النتيجة الحتمية لانهيار هذه المؤسسات وتصدع أركانها؟ 

في نظر فوكوياما، ونظرا لاعتماد هذه التجمعات على الثقة باعتبارها قيمة ثقافية، سوف تتباين التجمعات التلقائية في درجة ظهورها بتباين الثقافات المتعددة. أي أن قدرة الشركات على التحول من مؤسسات تراتبية كبرى إلى شبكات من الشركات الصغرى المرنة والقابلة للتكيف يتوقف على درجة الثقة وتوافر رأس المال الاجتماعي في المجتمع الأوسع.

يوظف المؤلف في هذا الكتاب ثلاث مفاهيم مركزية:

  • الثقة، وتعني تلك العلاقة الأخلاقية المتبادلة بين أفراد مجتمع يتميز سلوك أعضائه بالنزاهة والانتظام والتعاون اعتمادا على مجموعة من المعايير المشتركة التي يؤمنون بها.
  • ورأس المال الاجتماعي الذي لا يعدو أن يكون قدرة تنبثق جراء تغلغل الثقة في المجتمع، أو في بعض قطاعاته على أقل تقدير بدءا من العائلة إلى الأمة مرورا بالمؤسسات الوسيطة بينهما. 
  • ومفهوم النزعة الاجتماعية العفوية (التلقائية)، ويشير بها إلى مجموعة من القيم الفرعية للرأسمال الاجتماعي التي تتجسد في المقدرة على تشكيل جمعيات جديدة وسيطة غير تقليدية والتعاون ضمن الأطر المرجعية التي تحددها اعتمادا على القيم المشتركة أكثر من اعتمادها على العقود الرسمية. 

ويمكن تلخيص أطروحة فوكوياما في هذا الكتاب كما يلي:

  • يؤثر رأس المال الاجتماعي إيجابا على طبيعة الاقتصاد الصناعي الذي سيتمكن المجتمع من إقامته، وكلما انتشرت الثقة بين القائمين على المشروع التجاري نتيجة اشتغالهم وفق مجموعة مشتركة من المعايير الأخلاقية كلما انخفضت تكاليف ممارسة الأنشطة الاقتصادية انخفاضا ملحوظا، وتحسنت قدرة المجتمع على ابتكار أشكال تنظيمية جديدة لأن المستوى المرتفع من الثقة سيسمح بظهور مجموعة واسعة ومتنوعة من العلاقات الاجتماعية. وبالمقابل، سيؤدي فقدان الثقة في المجتمعات إلى توسل الوظيفة الإكراهية القسرية للقواعد الرسمية والجهاز القانوني الذي يعمل بديلا عن الثقة؛ وهو ما يستتبع ما يسميه الاقتصاديون “تكاليف المعاملات التجارية” وهي ضريبة تعفى من دفعها مجتمعات الثقة العالية.

عن هذه الأطروحة المركزية، تتفرع مقولات فرعية نصوغها كما يلي:استنادا إلى مفهوم الرأسمال الاجتماعي أي درجة انتشار الثقة في المجتمع، تتميز المجتمعات إلى قائمة على مركزية العائلة وصلات القرابة؛ وهي عادة ما تتسم بضعف المؤسسات الطوعية ودرجة الثقة بين أفرادها، وأخرى تتسم بقوة المؤسسات الطوعية التي تجذب الأفراد خارج حدود العائلة والقرابة نظرا لتغلغل الثقة فيها بدرجة عالية ما يعزز لديها النزعة العفوية نحو التواصل الاجتماعي. وهذا ما يفسر الاختلافات المرتبطة بإقامة الشركات الخاصة ذات الحجم الكبير بين نمطي المجتمع وارتباط إقامة الشركات والمشاريع الكبرى على تدخل الدولة في كل من فرنسا وإيطاليا والصين.  

وبحسب النزعة الاجتماعية، تتميز المجتمعات المتسمة بالتقدير التقليدي المتوارث لأهمية الطاعة والخضوع للسلطة بنزعة اجتماعية واضحة تتجلى في النزوع نحو تشكيل الجماعات (اليابان وألمانيا)، بينما يضعف مستوى المسارعة التلقائية للعمل الجماعي في المجتمعات الفردانية (أمريكا وبريطانيا).

إذا كانت النظرية الكلاسيكية تؤكد على أهمية توافر رأس المال، والقوى العاملة، والموارد الطبيعية في التقسيم العالمي للعمل، فإن الطفرات التكنولوجية الحديثة تستدعي من الشركات الاستثمار في الثقة ورأس المال الاجتماعي والنزعة الجماعية من أجل تعزيز كفاءتها وقدرتها على التكيف.

يعتمد رأس المال الاجتماعي باعتباره بوتقة نمو الثقة، وعامل عافية الاقتصاد الحاسم، على الأسس الثقافية للمجتمع عميقة الجذور وما توفره لها من فضائل اجتماعية تعزز أو تعيق النزعة الاجتماعية. وإذا كان الاقتصاديون الكلاسيكيون يؤكدون على مبدأ العقلانية القائمة على المنفعة، فإن الثقة يتأثر مداها وتوسعها في المجتمع بالثقافة التي تفرض عقلانيتها الخاصة على السلوك الاقتصادي.

كلما ارتفعت درجة الثقة في المجتمع كلما كانت المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التي تنشأ وتنمو فيها قادرة على التوسع من حيث الحجم وأكثر استدامة وأقدر على تبني الشكل المؤسسي.

مفارقات المجتمعات الأسروية بين الثقة المتدنية والنمو الاقتصادي:

يصنف فوكوياما المجتمعات حسب النزعة إلى التواصل الاجتماعي إلى مجتمعات أسروية تشكل فيها العائلة أساس التواصل الاجتماعي، وأخرى تتسم بنمو الجمعيات الطوعية خارج نطاق القرابة، ويؤكد أن الثقافات التي تشكل فيها القرابة أساس التواصل الاجتماعي، والتي سماها بالمجتمعات الأسروية، عادة ما تتوقف إقامة المؤسسات الاقتصادية الكبيرة والمستدامة فيها على تدخل الدولة بينما تستطيع الثقافات التي يجنح الأفراد فيها نحو إقامة الجمعيات الطوعية إلى القيام بذلك بشكل تلقائي.

هذا التصنيف، فرض على الكاتب معالجة مفارقة تأثير القيم العائلية في الحياة الاقتصادية في المجتمعات الأسروية كالمجتمعات الصينية وفرنسا وإيطاليا. فكيف تناول الكاتب دور العائلة والقرابة في تشكيل المؤسسات الاقتصادية في المجتمعات الصينية؟ وما الذي يفسر تطور بنيات صناعية كبيرة الحجم في كل من فرنسا وإيطاليا؟

  • دور الثقافة الكونفوشيوسية في حجم الشركات الصينية:

يعتقد الكاتب أن فهم دور العائلة في الثقافة الصينية -حيث تخضع التعاليم الأخلاقية الكونفوشيوسية الممجدة للعائلة (جيا) جميع العلاقات الأخرى- يشكل مدخلا رئيسيا لفهم طبيعة الاقتصاد في مجتمعات هذه الثقافة (الصين، تايوان، وهونغ كونغ) التي تعد مثالا فريدا للمجتمعات الأسروية. وفي هذا السياق، يؤكد أنه إذا كانت هذه الأسروية تحول دون تشكيل الجماعات والمنظمات خارج إطار العائلة فإن النتيجة المباشرة لذلك هي ارتهان الشركات الصينية لعملية مستمرة من التشكل والانطلاق ثم التفكك في نهاية المطاف، وصغر حجم المشروعات التجارية بسبب عدم قدرتها على الارتقاء من البنية العائلية إلى البنية الإدارية المحترفة باعتبارها خطوة ضرورية للمشروع التجاري ليأخذ شكلا مؤسسيا قادرا على الاستقرار.

وإذا استطاع الكاتب أن يبرهن على العلاقة بين الثقافة الصينية لا سيما مركزية العائلة فيها باعتبارها أساس التواصل الاجتماعي والتنظيم الاقتصادي، فإنه لا ينفي فائدة الحجم الصغير والإدارة العائلية للشركات الصينية في الأسواق المتسمة بارتفاع كثافة العمل أو بالتخصص وسرعة التبدل والتغير. ولعل هذا ما يفسر صمود العائلة الصينية أمام التحولات السياسية والاقتصادية بما في ذلك صمودها أمام رأسمالية الدولة الشيوعية التي تحولت إصلاحاتها السياسية والاقتصادية إلى مجرد حركة إحيائية للعلاقات الاجتماعية الصينية القديمة.

  • النموذج الإيطالي وتأكيد أهمية الثقة للمشروع الاقتصادي:

لتأكيد  هذا المنحى التحليلي، يستثمر فوكوياما مفارقات وتنوعات النموذج الإيطالي لتأكيد أن المجتمعات الأسروية تتسم على المستوى الاجتماعي والسياسي بضعف انتشار المؤسسات والروابط المستقلة التي لا تعتمد على صلات القرابة والجمعيات المدنية والنوادي الثقافية، وعلى المستوى الاقتصادي بانحسار البنية الصناعية في شبكة من المؤسسات التجارية العائلية تتسم بصغر حجمها نسبيا وببساطة بنى صناعة القرار داخلها، وبالتالي ارتباط أي نمط تنظيمي للحياة الاجتماعية (وإقامة المشاريع الاقتصادية الأكبر حجما) في إيطاليا الجنوبية خصوصا بمبادرة مصدرين خارجيين هما الكنيسة والدولة.

في نظر الكاتب، يلتقي المجتمع الإيطالي مع الثقافة الكونفوشيوسية في هونغ كونغ وتايوان في تشابه طبيعة رأس المال الاجتماعي فيهما في بعض النواحي، وبالضبط في جنوح الروابط العائلية في المجتمعات الصينية وبعض المناطق الإيطالية لأن تكون أكثر قوة ومتانة من الروابط الاجتماعية الأخرى غير القرابية حيث تظل قوة وأعداد الجمعيات الوسيطة ما بين الفرد والدولة في مستوى منخفض نسبيا؛ وهو ما يعبر في نظر الكاتب عن شعور سائد بفقدان الثقة بين الناس خارج إطار العائلة في هذه المجتمعات. وفي هذا الإطار، يخلص الكاتب استنادا لدارستين لكل من ادوارد بانفيلد و روبرت بوتنام إلى أن الأسروية اللاأخلاقية التي تطبع الجنوب الإيطالي بعواقبها السياسية ونتائجها الاقتصادية  هي ما يفسر ظهور وانتشار الشركات الكبرى في الشمال الإيطالي وانحسارها في إطار العائلة في الجنوب الإيطالي حيث تعكس المنافسة الشديدة بين العائلات الشعور بعدم الثقة داخل المجتمع بعيدا عن الروابط العائلية،  كما تفسر انتشار الشركات العائلية في “لا تيريزا إيطاليا” رغم تميزها بمستويات أرفع من رأس المال الاجتماعي مقارنة بجميع المناطق الإيطالية حيث إن العائلة في وسط إيطاليا تتجه نحو الامتداد أكثر على نمط العائلة الصينية  وهو ما شكل دعما للمؤسسة العائلية الحديثة في إيطاليا.

ومع استدعاء المؤلف تأكيد عدد من المراقبين بأن المؤسسات الإنتاجية الصغيرة الحجم التي تعتمد على العائلات تمثل انعطافة مثيرة وتجسد احتمالا مستقبليا للنمو الاقتصادي في عدد من البلدان من بينها إيطاليا يمكن عبره تجنب أسوأ المظاهر التي يفرزها تحويل ملكية الشركات إلى نموذج الإنتاج بالجملة الواسع النطاق، فإنه ما فتئ يؤكد -استنادا لمجموعة من الممارسات التي تطبع التجربة الإيطالية بسبب افتقارها للثقة المتبادلة لا سيما علاقات الشركة العائلية مع موظفيها وشركات التوريد التابعة لها وتفشي السلوكات السلبية وحتى غير الشرعية- على أن  شبكات المؤسسات التي انتشرت وشملت الشركات العائلية في إيطاليا لا تمثل موجة المستقبل بقدر ما هي مجرد تعبير عن العجز عن التطور والنمو للوصول إلى الفعالية والكفاءة، أو تبني الشكل الاندماجي العمودي.

  • المفارقة الفرنسية:

مما يثير انتباه القارئ لكتاب فوكوياما موضوع مراجعتنا، وربما استغرابه أيضا، تصنيف الكاتب لفرنسا ضمن المجتمعات متدنية الثقة وتوظيفه لمصطلح الأسروية الفرنسية لفهم وتفسير السمات المميزة للاقتصاد الفرنسي. فرغم اعترافه بأن الأسروية الفرنسية لا تتمتع بقوة رسوخ مثيلتها في الصين، ولا حتى بقوة الأسروية في مناطق وسط إيطاليا، ومع تأكيده على أن الرأي السائد بين الفرنسيين يربط الدولة بالشمولية والاستبداد المطلق، فإنه -ومن خلال استدعاء تأكيدات كل من ألكسي دو توكفيل ومشيل كروزييه- يرجع الحضور القوي للدولة في السياسة والبنية الصناعيتين خلافا لما هو الأمر في كل من إنجلترا وألمانيا من جهة، وبطء المؤسسات التجارية العائلية في فرنسا في عبور المرحلة الانتقالية إلى نظام الإدارة الاحترافية والبنية التضامنية الحديثة من جهة ثانية إلى ما اعتبره تدنيا لمستوى الثقة بين الفرنسيين وإلى الصعوبات التي تعترض النزعة نحو التواصل الاجتماعي العفوي بين الجماعات. بل إنه – أكثر من ذلك- يذهب إلى أن المشاعر المحافظة والمعادية للرأسمالية التي ميزت فرنسا القرن التاسع عشر قد استبدلت في فرنسا القرن العشرين بمشاعر مماثلة من العداء لازمت الطليعة المثقفة الماركسية الفرنسية؛ وهو ما مارس – في نظره-تأثيرا ذا دلالة في نظرة رجل الأعمال الفرنسي نحو مشروعية مهنته ذاتها.

لإثبات نظريته في السياق الفرنسي، استدعى الكاتب تاريخ تدخل الدولة في الاقتصاد منذ أن انتصرت الملكية على الارستقراطية في القرن السادس عشر والقمع والإخضاع اللذين مارستهما بشكل منهجي ضد مراكز القوى البديلة ليبين كيف أدى تدني مستوى الثقة الذي تولد عن ذلك إلى ضعف نزعة الحياة المشتركة، والذي تجلى اجتماعيا في ضعف البنيات الوسيطة حجما ووظائف وارتهانها لتدخل الدولة المركزي، واقتصاديا في أربعة مظاهر هي:

  • ضعف القطاع الخاص الفرنسي وعدم مقدرته على خلق مشاريع خاصة ذات حجم كبير وقادرة على المنافسة،
  • اتكالية المؤسسات التجارية الخاصة واعتمادها على حماية الدولة ودعمها ورعايتها، 
  • اضطرار الدولة للتدخل المستمر في الاقتصاد ورعاية الصناعات الكبرى وتأميم بعضها،
  • تفوق موهبة ومقدرة البيروقراطية العمومية. ولعل هذا المظهر الأخير كان سر نجاح الدولة في تحديث فرنسا وجعلها قوة تكنولوجية متقدمة ورئيسية.

وإذا لم يكن بإمكان الكاتب تجاهل الإمكان الذي أتاحه هذا الوضع للدولة المركزية في الدفع بالتغيير الثقافي والذي تجلى في تمكن الإدارة الاحترافية وتغلغلها في القطاع الخاص الفرنسي، فإنه يؤكد -في المقابل- أن بطء التحولات الثقافية لا زال يلقي بضلاله على ضعف النزعة الاجتماعية في السياق الفرنكفوني عموما. وفي هذا السياق، نتساءل عم يمكن قوله عن السياق المغربي الذي يعتبر في كثير من جوانبه امتدادا للثقافة الفرنكوفونية؟

  • تحدي المفارقة الكورية:

إحدى أبرز التحديات التي واجهتها أطروحة فوكوياما تجسدها المفارقة الكورية. فإذا كانت المقولة المركزية للمؤلف تدفع بأن أي مجتمع تضعف فيه المؤسسات الوسيطة ويتدنى فيه مستوى الثقة بين أفراده خارج العائلة، سوف تجنح شركاته للتوزع بشكل مشابه داخل قطاعاته الاقتصادية، فإن تشابه الثقافة الكورية مع نظيرتها الصينية من حيث أهمية وأدوار العائلة مقارنة بنظيرتها في اليابان وغياب آليات محددة في الثقافة الكورية يتم بها جلب الغرباء على الطريقة اليابانية إلى داخل الجماعات العائلية يستلزم أن يؤدي إلى قيام مؤسسات تجارية عائلية صغيرة الحجم، وإلى صعوبات تعترض وصول الشركات الكورية إلى الشكل المؤسساتي التضامني. فلم يحدث العكس؟ وكيف استطاعت شركات كورية مثل سامسونغ وهيونداي أن تتجاوز قدرات العائلات لتتحول إلى شركات كبيرة ذات إدارة عالية الاحترافية من خارج العائلات المؤسسة؟

بعيدا عن التفاصيل، يكمن السر -في نظر الكاتب- في الدور الذي لعبته الدولة الكورية حيث تدخلت عمدا- في عهد الرئيس بارك تشونغ هي- لتشجيع التكتلات الاقتصادية العملاقة الخاصة (وليس العمومية كما هو حال فرنسا) في إطار الاستراتيجية التنموية التي اتبعتها في الستينات والسبعينات. ويؤكد الكاتب أن هذا ما جعل كوريا تتغلب على النزوع الثقافي نحو إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم حسب النموذج التايواني. ولقد كان من النتائج الاجتماعية لهذه المركزية -ثانيا- أن أدى ازدياد عدد سكان المدن في البلاد إلى تسلل الضعف إلى العائلة الكورية التقليدية وما تفرزه من روابط وصلات إلى حد ما.

وإلى جانب هذا المعطى ذي الطبيعة السياسية، يذكر المؤلف معابر أخرى قوت من النزعة الاجتماعية ومكنت الكوريين من الانفلات من قيود الأسروية. وهذه المعابر هي: سلالات النسب الممتدة، والمناطقية، وطبقة خريجي الجامعات، والجيش، وأخيرا الثقافة المدنية لكوريا المعاصرة التي ساهمت في نشوء جمعيات الدراسات والهوايات القائمة على الاهتمام المشترك. وإلى ذلك، يضيف مسألة التأثير المسيحي في التطور الاقتصادي الكوري باعتبار أن كوريا هي الدولة الوحيدة إلى جانب الفلبين في شرق آسيا التي تضم نسبة مهمة من السكان المسيحيين رغم غياب دليل واضح يثبت أن الكوريين المسيحيين قد لعبوا دورا يفوق حجمهم في التشجيع على التنمية الاقتصادية السريعة في كوريا.

  1. اليابان وألمانيا وتحدى الحالة الأمريكية:

بعد فك لغز المفارقات التي تقدمها المجتمعات متدنية الثقة، انتقل المؤلف لتأكيد أطروحته من خلال تحليل اقتصاديات البلدان عالية الثقة. ويتعلق الأمر بكل من اليابان وألمانيا باعتبارهما مجتمعين تتجلى مستوى الثقة فيهما بوضوح بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي سعى جاهدا لإبراز انتمائها لهذا الصنف من المجتمعات رغم ما يبدو من فردانيتها.

اليابان: 

تتسم البنية الاقتصادية اليابانية كما يراها فرانسيس فوكوياما بميزتين أساسيتين ترتبطان فيما بينهما؛ أولاهما: هيمنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى رغم وجود شبكة مهمة من الشركات التجارية الصغيرة، وثانيهما هو استبدال الإدارة العائلية بأخرى احترافية في مرحلة مبكرة من مراحل التطور الاقتصادي الياباني. فهل الحجم الاقتصادي الكبير للصناعة اليابانية نتيجة لتدخل الدولة كما هو الحال في كل من كوريا وفرنسا، أم أنه نشأ بسبب العوامل والمقومات الثقافية؟

رغم اعترافه بوجود تدخل محدود وموجه للدولة في دعمها، يرى فوكوياما أن حجم الشركات اليابانية كان سينمو على أي حال لدرجة كبيرة حتى في غياب هذا الدور، بل إن عددا من هذه الشركات قد تمكنت من النمو في وقت مبكر متجاوزة أطر المؤسسة العائلية. ويرى أن السبب في ذلك يعود لاختلاف العائلة اليابانية عن نظيرتها الصينية. وهكذا يبرهن أن الدعم الحكومي العارض الذي تلقته الصناعات الكبرى لا يعدو أن يكون عاملا مساهما شجع نزعة موجودة أصلا لدى القطاع الخاص الياباني.

لدعم هذا التفسير، يستدعي المؤلف عناصر ترتبط بمستويات ثلاث للثقافة اليابانية. فعلى مستوى الثقافة   الاجتماعية، توقف عند الفوارق التي تميز بنية ووظيفة العائلة في المجتمعين الياباني والصيني حيث ركز على التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لظاهرتي نووية الأسرة اليابانية وتسامح اليابانيين مع شرط القرابة الدموية لضم الأفراد للعائلة، ومؤسسة البكورة الذي تفضي من جهة إلى تلاشي قوة صلات القرابة لصالح روابط أخرى مثلما هو الأمر في جماعات “إيموتو”، وتركيز الثروة في يد فئات أفراد محددين داخل العائلة الواحدة من جهة ثانية.

وعلى مستوى الثقافة السياسية، ركز الباحث عن آثار الفصل بين الحاكم الفعلي والحاكم الشكلي وما وفره ذلك من إسهام في ترسيخ المرونة في العلاقات التجارية اليابانية على مسألة الخلافة في المؤسسات السياسية والاقتصادية على حد سواء. كما لم يفت الكاتب أن يشير-ولو بشكل مقتضب- للطبيعة الخاصة للبوذية اليابانية التي جعل منها نسخة يابانية للمبادئ البروتستانتية المتعلقة بأخلاقيات العمل. فكيف تجلت هذه العناصر الثقافية في عالم التجارة والأعمال في اليابان المعاصرة؟

يرصد الكاتب آثار هذه العناصر الثقافية في البنية الاقتصادية اليابانية ويجملها في ثلاث معالم هي:

  • قدرة نظام الاستخدام مدى الحياة على الاستمرار في السياق الياباني كالتزام أخلاقي قائم على تبادل متين وقوي لمشاعر الالتزام والثقة بين العمال ومشغليهم دونما حاجة للعقود القانونية ودون أن يدمر القدرة الإنتاجية ولا أخلاقيات العمل في اليابان؛
  • المستوى الرفيع من التضامن الاجتماعي داخل الشركات اليابانية، والذي يتجلى في تحول العلاقات داخل المؤسسات الاقتصادية إلى قوة مؤثرة أكثر من العلاقات القائمة على أساس القرابة؛
  • ثبات العلاقات البعيدة المدى بين الشركات المختلفة التي تنتمي إلى نفس شبكة “الكريتسو”، أي شبكة الشركات التجارية التي ترتبط فيما بينها بعلاقات وطيدة مبنية على درجة عالية من الثقة المتبادلة.
  • ألمانيا: 

خلافا لبلدان أوربية أخرى، يتميز الاقتصاد الألماني بعدد من الميزات التي تميز مجتمعات الثقة العالية؛ فمن جهة تتسم البنية الصناعية الألمانية بوجود أعداد كبيرة من الشركات العملاقة تؤكد قدرة الألمان على الانتقال بسرعة من الشركات العائلية إلى الصيغة العقلانية للشركة الحديثة بهيكلتها التراتبية المنظمة وجهازها الإداري المتخصص، وهو السبب ذاته الذي أدى إلى قيام مؤسسات راسخة ومتينة وقادرة على البقاء مدة طويلة في كل من اليابان والولايات المتحدة الأمريكية حسب المؤلف. ومن جهة ثانية، توجد في ألمانيا الكثير من المؤسسات الاقتصادية الجماعية كالتجمعات الصناعية التي تتمحور حول مؤسسة مصرفية كبيرة، والكارتيلات الصناعية التي لا تكثر إلا في اليابان. أما السمة الثالثة فتتمثل في وجود شبكة من العلاقات المعقدة التي تجمع بين الإدارة والعمال والتي صاغها لودفيغ إرهارد تحت مسمى اقتصاد السوق الاجتماعي.

وإذا كانت هيمنة الشركات العملاقة على مجمل الاقتصاد الألماني لا تنفي وجود قطاع كبير وحيوي تحتله الشركات الألمانية الصغيرة التي تديرها العائلات أو ما يسمى بالطبقة المتوسطة، فإن مما لا ينبغي تجاهله – حسب الكاتب- هو حقيقة أن هذه العائلات لم تتدخل لمنع قيام شركات كبيرة كما حدث في حالة الصين وإيطاليا وفرنسا وحتى في بريطانيا. واستنادا لهذا يؤكد المؤلف أن ما يميز الحالة الألمانية عن غيرها لا يجد تفسيره في القوانين وحدها ولا في تبني نظريات الإدارة العلمية التيلورية الفوردية، ولا في منافع البيروقراطية الحديثة الفيبرية، وإنما في الطبيعة الجمعية لعلاقات العمل في المصنع الألماني، والتي تنبع بعفوية من الحياة اليومية للشعب الألماني وترتبط ارتباطا وثيقا بنظام التدريب والتأهيل المهني.

السؤال الذي يطرحه هذا التوصيف على الأطروحة المركزية لفوكوياما هو: إذا كان حجم الشركات مرتبطا بالنزعة الاجتماعية وارتفاع مستوى الثقة في المجتمع فأي دور لنظام التدريب والتأهيل المهني الألماني في كل هذا؟

للجواب عن هذا السؤال، يركز كاتبنا على طبيعة ومميزات نظام التدريب والتأهيل المهنيين في ألمانيا وارتباطه تاريخيا بنقابات الحرف ليؤكد على إسهام هذا النظام في تعزيز الثقة الذاتية لدى العامل الألماني وبالتالي زيادة حجم المسؤولية التي يضطلع بها العمال العاديون وصغار الموظفين والمشرفين على سير العمل في المصنع الألماني بحيث يؤدي إلى تعزيز ثقة المديرين الألمان بالعامل العادي واستعدادهم لتحميله أكبر قدر من المسؤولية من جهة؛ وتركيز هذا النظام على إشاعة جو اجتماعي بين الشباب وتعويدهم على إيقاع الحياة العملية ومتطلباتها بما في ذلك تمكينهم من شواهد رسمية معترف بها في كافة أنحاء البلاد تؤهلهم فعليا لممارسة الحرف من جهة ثانية. وهكذا يؤدي النظام في النهاية إلى تعزيز المسؤولية الاجتماعية للشركات بالإضافة إلى مساهمته في تعزيز خبرات العمال وتسهيل حصولهم على عمل. باختصار فإن الذي يؤكد أهمية نظام التأهيل المهني لا يتعلق بكونه المؤسسة المناسبة لتدريب العمال بل حقيقة كونه صلة وصل مهمة وجسرا رئيسيا للحفاظ على قيم الود والتواصل الاجتماعي في المعمل الألماني بحيث لا يصبح العمل مجرد عبء أو مجرد سلعة تجري مقايضتها بالأجر، بل تتحول أرض المعمل ذاتها إلى مركز للحياة الاجتماعية ومكان حميمي لا يشعر فيه العامل بالعزلة والاغتراب

تحدي الحالة الأمريكية:

كان أكبر تحد لأطروحة فوكوياما حول علاقة الثقة باعتبارها فضيلة اجتماعية بنمو البنية الاقتصادية مجسدا -في نظري- في الحالة الأمريكية. ولعل هذا ما جعل الكاتب يخصص لها جزءا كاملا من أربعة فصول بينما تناول مجتمعات الثقة المتدنية مجتمعة في جزء واحد فقط. ويتمثل تحدي هذه الحالة لتماسك الأطروحة في الحاجة لفك الإشكال الذي يجسده إقرار المؤلف -رغم كل المراوغات- بالطبيعة الفردانية للمجتمع الأمريكي وتفسيره في الوقت ذاته لحجم الشركات الأمريكية من خلال التأكيد على ارتفاع مستوى الثقة في هذا المجتمع في الوقت ذاته. فكيف عمل الكاتب على فك هذا الإشكال؟

لتأكيد صوابية أطروحته لم يجد الكاتب – وهو الذي انطلق من مثالية العالم الأمريكي كما تصورها لبناء نظريته في نهاية التاريخ- بدا من أن يبرهن على رسوخ النزعة الجماعية في الثقافة الأمريكية. ولهذا الغرض اضطر للعودة إلى بدايات نشأة المجتمع الأمريكي وبشكل خاص إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما توسل بتحليلات كتاب بارزين كألكسي دو توكفيل ووليام ورايت وديفيد رايزمان؛ وذلك ليؤكد أن المجتمع الأمريكي كان في الأصل مجتمعا يستم بالنزعة الاجتماعية وأنه قد بنا اقتصاده الضخم في بداية القرن التاسع عشر بالاستناد إلى رأس المال الاجتماعي القائم على الثقة قبل أن تقوده مجموعة من التحولات نحو مزيد من الفردانية التي تجلت في المعاداة المتأصلة لسلطة الدولة وعكسها الدستور الأمريكي. 

رغم تأكيده أن الآسيويين والأمريكيين على حد سواء مجمعون على أن الولايات المتحدة تعتبر حالة متطرفة في فردانيتها، فقد اجتهد المؤلف في حشد الأدلة على ما سماه ازدواجية الإرث الأمريكي حيث إنه إلى جانب النزعة الفردية التي تعزل الأمريكيين عن بعضهم البعض كان هناك دائما -في المجتمع الأمريكي- ميل ثقافي واضح لتشكيل الجمعيات والمشاركة في الفعاليات الاجتماعية. وعليه إذا كانت التقاليد الفردية قد سادت الحياة الأمريكية على مر العصور، فإن التقاليد الجماعية كانت موجودة أيضا كقوة عملت على الدوام على التخفيف من حدة هذه النزعة ومنعها من الوصول إلى نتيجتها المنطقية. وفي التفاعل الخلاق بين هاتين النزعتين يكمن سر نجاح الديمقراطية والاقتصاد الأمريكيين على حد سواء.

وفي الجانب الاقتصادي تحديدا، يعتبر المؤلف ظهور الشركات المتحدة في أمريكا القرن التاسع عشر دليلا واضحا على الآثار الاقتصادية التي ترتبت على عمليات التفاعل الاجتماعي التلقائي في أمريكا. أما مصادر هذه النزعة الجماعية التاريخية للمجتمع الأمريكي فيحددها في اثنين: الطائفية البروتستانتية صاغت النزعة للاجتماع عند الأمريكيين البيض، والفئوية الإثنية التي مكنت الأمريكيين من ذوي الأصول الأسيوية (اليابانيين والصينيين) من تعزيز مواقعهم في النسيج الاقتصادي الأمريكي.

  1. عود على بدء أو في سبيل الدفاع عن صلاحية الأطروحة:

الجزء الخامس والأخير من الكتاب يمكن اعتباره مرافعة لإثبات الصلاحية المستقبلية لأطروحته حاولت تقديم دفوعاتها في مواجهة التحديات التي تفرضها عليها التفسيرات المنافسة من جهة، وتمسك المؤلف بكون الأطروحة امتدادا بل تأكيدا لنظريته حول نهاية التاريخ من جهة ثانية. وفي هذا السياق، وبالرغم من تحذيره من مغبة إطلاق الأحكام على دور الثقافة في البناء الاقتصادي للمجتمعات فإنه يؤكد أن التأويلات الخمسة البديلة لتعليل صغر الحجم النسبي للشركات الخاصة في تايوان وهونغ وإيطاليا وفرنسا مقارنة بنظيرتها الأكثر حجما في اليابان وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعزوه إما:لحجم الأسواق الاقتصادية القومية.

أو لمستوى التطور الاقتصادي في عموم المجتمع.

أو للتطور الاقتصادي المتأخر.

أو لنقص المؤسسات القانونية والتجارية والمصرفية الضرورية لدعم وتمويل المنظمات الاقتصادية الكبيرة.

أو حتى لسلوك الحكومة وتحكمها في السياسة الاقتصادية.

لا تصمد كلها أمام الانتقادات النابعة من واقع الاقتصاديات المدروسة ولا تتمتع بالتماسك الذي يتوفر لأطروحة العوامل الثقافية وخاصة الثقة ورأس المال الاجتماعي التي يتبناها.

وفي معرض هذا الدفاع، يشير المؤلف إلى مخاطر كل من تدخل الدولة والاستثمارات الخارجية باعتبارهما مدخلين آخرين من شأنهما أن يدفعا بأهمية الثقة والنزعة الاجتماعية التلقائية في إقامة مؤسسات اقتصادية كبيرة الحجم إلى الهامش على المدى البعيد؛ فالشركات التي تديرها الدولة تواجه -في نظره- خطر قلة الكفاءة ومحدودية خياراتها أمام الدينامية الاقتصادية بسبب الارتهان للحسابات السياسية. أما آفة الاستثمارات الأجنبية المباشرة فتتمثل فيما يصاحبها من إعاقة لتطور البنية التحتية والقدرات التعليمية الضرورية لتأهيل كوادر محلية من المهندسين والمديرين ورجال الأعمال كما أنها غالبا ما تخلق جوا من العداء والكراهية قد تنتقل آثاره إلى المجالات السياسية.

وبناء عليه، يؤكد المؤلف أهمية وتأثير النزعة الاجتماعية العفوية على مجمل الحياة الاقتصادية في المستقبل وذلك استنادا لتنبؤه بأن الصيغة الأمثل للتنظيم الاقتصادي والصناعي في المستقبل سوف لن تكون على شكل شركات كبيرة أو صغيرة الحجم وإنما على شكل شبكة شركات تستغل إيجابيات كل منهما.               

  • تعقيب:

أثناء قراءتي للكتاب، استوقفتني ثلاث قضايا أساسية لم أستطع المرور عليها دون تعقيب. تتعلق المسألة الأولى بمفاهيم المؤلف ودلالاتها، والثانية بالنطاق الجيو-ثقافي للدراسة إن صح هذا التعبير. أما القضية الثالثة فترتبط بمضمون الأطروحة. وفيما يلي تعقيب على هذه القضايا.

على المستوى المفهومي، استرعى انتباهي تحاشي المؤلف إعطاء تعريف محدد للرخاء الاقتصادي باعتباره مفهوما مركزيا في الجزء الأول من الكتاب إلى جانب مفاهيم الثقة ورأس المال الاجتماعي والنزعة الاجتماعية. ورغم أنه لم يكن من العسير على أي قارئ أن يستنتج أن الكاتب يتناول المفهوم من خلال معيار حجم الشركات والقدرة على بناء شبكات صناعية تراتبية تعتمد على الإدارة الاحترافية فإنني أعتقد أن تصرف الكاتب في هذا الإطار لا يخلو من دلالات. ولعله بذلك يوحي للقارئ أن المعيار الذي يحدده لقياس الرخاء الاقتصادي مسلم به بل مجمع عليه وبالتالي لا يحتاج إلى إبرازه باعتباره فهما خاصا بالمؤلف. 

وإذ أؤكد أن اختيار هذه المعايير (حجم الشركات وطبيعتها الاتحادية، والعلاقات التعاونية بينها) دون غيرها لا توحي بحقيقة المفهوم حيث إنها تتجاهل مؤشرات أكثر دلالة من قبيل مستوى الدخل الفردي ودرجة توزيع المنافع ودرجة استفادة مختلف الفئات من حجم الاقتصاد وخيراته، فإنني أرى هذا الحصر محكوما بخلفيات نظرية وربما أيديولوجية أهمها رغبة الكاتب في تأكيد أن الرأسمالية في طبعتها النيو-ليبرالية هي النموذج الأمثل والنهائي للتنظيم الاقتصادي.

وارتباطا بالمستوى المفهومي أيضا، سجلت ارتباكا لدى الكاتب -وربما تغليطا مقصودا- في تعاطيه مع مفهوم الثقة بين المستويين النظري والتطبيقي. فبينما يعرف الثقة نظريا باعتبارها مجموع العلاقات القائمة على التعاون بين الأفراد في المجتمع فإنه على المستوى العملي يعمد لتحديد مستوى سريان هذه الفضيلة في المجتمعات من خلال ربطه بدرجة انتشار الروابط غير القائمة على القرابة حصرا بينما يذهب إلى حد اتهام المجتمعات التي تقوم علاقات التعاون بين أفردها على أساس القرابة بالتذرير.  وإذ يعكس هذا التناقض الخلفية النظرية للكاتب التي تبناها في أطروحة نهاية التاريخ والتي دافع فيها على القيم اللبرالية فإنني أتساءل عن موضوعية وحيادية مفاهيم المؤلف وبالتالي مصداقية الاستنتاجات التي توصل إليها عبر هذه المقاربة المنحازة للأيديولوجية الليبرالية.

هذا التعليق على تعاطي المؤلف مع مفهوم الثقة يقف بنا عند القضية الثانية لهذا التعقيب، أي النطاق الجيو-ثقافي للدراسة. وارتباطا بهذه النقطة نتساءل: لماذا يتجاهل المؤلف كليا تناول ثقافة طالما اعتبرت في الدراسات المقارنة إحدى أكثر النماذج الحضارية تحديا للنموذج الغربي الذي يدافع عنه؟ ولعل ما يزيد من أهمية هذه القضية أنه بينما يعتبر باحثون كبار من أمثال مواطنه صامويل هنتنغتون الثقافة الإسلامية من أكبر الثقافات العالمية التي تتحدى النموذج الحضاري الغربي ويتوقع أن تتصادم مع هذا النموذج الأخير للإنسان الذي تمثله الحضارة الغربية كما يدعي ذلك كاتبنا، وربما دخلت فعلا في طور هذا الصدام على الأقل في العقل الاستراتيجي الغربي، فإن صاحبنا يتجنب وبشكل يبدو متعمدا مناقشة الثقة في المجتمعات الإسلامية بما فيها تلك المجتمعات الواقعة في شرق آسيا كماليزيا وأندونيسيا فضلا عن مجتمعات ما اصطلح عليه بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فهل يمكن منهجيا تبرير تجاهل كل هذه المجتمعات ذات الأهمية الجيو-اقتصادية في كتاب مرجعي بهذا الحجم من الضخامة وبهذه الأهمية النظرية التي تريد بناء إطار تحليلي شامل لبنية الاقتصاد العالمي؟!

تذهب الأطروحة المركزية للكتاب إلى أن مستوى الرخاء الاقتصادي يتوقف على مستوى تعزيز ثقافة المجتمع المعني لفضيلة الثقة وأساس بناء هذه الثقة. وإذ نؤكد ما أثرناه أعلاه من اعتراض على تعريف المؤلف لمفهومي الثقة والرخاء الاقتصادي فإننا نؤكد في مستوى آخر من النقاش أن تجاهل المؤلف التعاطي الجدي مع الظواهر المصاحبة لانحسار التعاون في كل من الثقافة الألمانية واليابانية في النطاق الوطني والتي تجعل من هذا التعاون قائما على نوع من القومية المعادية للأجانب غير مبرر لا سيما إذا سايرنا المؤلف في مفهومه للرخاء الاقتصادي وأكدنا -تبعا لذلك- على هيمنة الشركات العابرة للقوميات على الاقتصاد العالمي. ألا يعتبر هذا النمط من الوطنية نوعا من الأسروية التي تمجد الأصل المشترك كل قومية وصفاءها العرقي وربما أيضا تميزها الإثني؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك في النهاية إلى إعاقة تعميم الرخاء الاقتصادي على المستوى العالمي أو أن يتطور إلى تقزيم نطاق الثقة إلى المستوى المناطقي لا سيما وقد أشار المؤلف إلى أن هذه المناطقية لا تزال مؤثرة في كل من كوريا (مجتمع متدني الثقة) واليابان (مجتمع عالي الثقة) ؟.  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق