المقالات

مبدأ المناصفة بين سؤال المرجعية وتحدي التفعيل والتنزيل على الواقع(بقلم وفاء توفيق)

تتعالى أصوات هنا وهناك، مرة تلو أخرى، تنتقد واقع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، وتنتقد وأوضاعها البئيسة… وتدعو إلى “إنصافها” من مختلف ما تعانيه.

وفي إطار رفع المظلومية عن المرأة المسلمة، سطرت بعض الحركات النسوية العديد من المطالب ولعل من أبرزها المناداة بتحقيق المناصفة بين المرأة والرجل في كل المجالات، مما يستدعي منا الوقوف عند هذا المطلب ليس ردا أو تعقيبا بقدر ما هو تأصيلا وتسديدا.

وتجدر الإشارة أنه لأجل بلورة رؤية تأصيلية شرعية لأي مسألة ومنها مبدأ المناصفة، لا بد إضافة إلى جرد وتتبع أقوال الوحي في الموضوع ناهيك عن الإحاطة بالسياق وبالواقع المرتبطين بهذا المطلب.

ما المقصود بالمناصفة؟

من معاني المناصفة في قواميس اللغة الإنصاف، كما تعني أخذ نصف الشيء…

فالمعنى الأول الذي هو الإنصاف والعدل ورفع الظلم وضمان الحقوق هو عين ما جاءت شريعة الإسلام لتحقيقه، واعتبرت كل تلك المكاسب مطالب شرعية حث الإسلام على طلبها والعمل على تحقيقها من الرجل والمرأة على السواء ولا يجادل في ذلك اثنان…

وغني عن التذكير بالنصوص الشرعية المشرعة لهذه المبادئ والمنافحة عنها: المساواة في حق الحياة- المساواة في التكاليف الشرعية إلا ما استثني لخصوصية- المساواة في الجزاء المقابل للعمل- المساواة في مبدأ استحقاق الإرث- المساواة في الحقوق المقابلة للواجبات….

أما المعنى الثاني للمناصفة والذي يعني أخذ النصف، فهو المعنى الذي يدندن حوله القوم ويريدونه ويقصدونه؛ من خلال المطالبة بنسب متساوية بين النساء والرجال في كافة مراكز القرار السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والقضائي، والإداري، على الصعيد الوطني كما الجهوي والمحلي، ودسترة التدابير الإيجابية لنفاذ النساء مناصفة مع الرجال في كل مواقع القرارات السابقة وغيرها ضمانا لحقوق المرأة ورفعا للظلم والبؤس والتهميش الذي يطال واقع حياتها.

لنتأمل الواقع:

لا أحد ينكر مظلومية المرأة من حيث معاناتها ظلمين: أحدهما تقتسمه والرجل من حيث شظف العيش والأمية والجهل والمرض والبؤس الاجتماعي و… والثاني يتكبده جنس الإناث جراء تسلط جنس الذكور عليهن، ولعل من صوره وتجلياته العنف الأسري والطلاق التعسفي والتعدد الجائر و….

بناء على ما سبق، نجد إلزامية طرح الأسئلة الآتية:

هل وجود نسبة من النساء متساوية مع نسبة الرجال في مؤسسات القرار هو الضامن لإنصاف النساء وتحقيق مطالبهن؟

هل مبدأ المناصفة هو صمام الأمان والشرط الحاسم لتحقيق ما سبق؟

هل؟ وهل؟ وهل؟…

أم هي الكفاءة والقدرة والاستحقاق في ظل إرادة سياسية منصفة؟

إن الواقع بل التاريخ يؤكدان أن الإرادة المستقلة الحرة النزيهة هي المعول عليها في التغيير نحو الأفضل. لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[1]؛ أي إن الاقتناع بأهمية المطلب بل بوجوب تحققه يعد محفزا لطلب التغيير والسعي إلى حصوله، كما أن توفر المرأة على الكفاءة والقدرة والاستحقاق… يعتبر ضامنا لحصول التغيير من حيث شيوع العدل وضمان الحقوق…

إن مطالبة الحركات النسائية ومختلف مكونات المجتمع المدني بوجوب تحقيق العدل والعمل على شيوعه وتمكين كل من الرجل والمرأة على السواء من حقوقهما، والاجتهاد في توفير سبل وإمكانيات ذلك، وخلق وتهيئ سبل المنافسة بين الرجال وبين النساء وبين بعضهما البعض لأجل التنافس في الترقي، أمر محمود طيب نعده من صميم الدين ومطلب من أهم مطالبه. لكن أن يقيد ما سبق بشرط المناصفة بين الذكور والإناث فهو ما نضع عليه علامة الاستفهام؛ لأن المهم هو أن يتحقق العدل لكل أطياف المجتمع وتكتسب الحقوق لجميع أفراده، سواء بالمناصفة أو بزيادة نسبة الرجال أو بزيادة نسبة النساء حسب ما تفرزه القدرات والكفاءات التي يتطلبها هذا المجال أو ذاك. أما في غياب الإرادة الحقيقية للتغيير، أو عند انعدام الكفاءة والقدرة والاستحقاق المطلوب تحققهم فيمن يتصدر مراكز القرار، فمهما ارتفعت النسب والتمثيليات سواء للإناث أو للذكور فلا شيء يتحقق. 

نظريا لا نجد غضاضة أن نصل إلى المناصفة أو نفوق ذلك إلى تحقيق الريادة، لكن أن نتعسف للوصول إلى ذلك بفرض هذا المبدأ، ففيه إضرار بالمجتمع وبأفراده ذكورا وإناثا، وهذا أمر لن يقبله العقلاء. حيث لو عملنا بمبدأ المناصفة بغض النظر عن شرط الكفاءة والقدرة والاستحقاق لدى النساء، ما هي النتيجة المتوقعة؟

– قد يسند الأمر إلى غير أهله- التزاما بمبدإ المناصفة- لنقص محتمل في القدرات والكفاءات النسائية في مجال ما، مما سينجم عنه فساد وخلل وتراجع يجتر على إثره كل المجتمع مآسيه وويلاته. 

– قد يحرم المجتمع من كفاءات وطاقات ومهارات من الجنسين عملا بمبدإ المناصفة؛ إذ كيف يعقل أن نقنع بتمثيلية النساء مناصفة في مجال حتى وإن وجدنا أضعافا منهن أرقى وأجود وأكفأ في ذلك الشأن من الذكور؟ كما كيف يعقل أن نفرض    -عملا بمبدأ المناصفة الميكانيكية- نصف المسؤولين إناثا حتى وإن كان إلى جنبهم أضعافا من الرجال لهم من الكفاءة والقدرات ما يفوق هؤلاء النسوة؟ لنخلص إلى أن المصلحة العامة للمجتمع ولأفراده ذكورا وإناثا تستلزم محددات أساسية للتمثيلية في مراكز القرار – بغض النظر عن نوع الجنس- وهي القدرة والكفاءة والاستحقاق ضمانا للتغيير الفاعل وتحقيقا للعدل المنشود.

كان ما سبق مرتبطا بالمناصفة كمفهوم ومبدأ، أما ما يخص ملابسات طرحه فنلامسه من خلال النقطة الموالية: 

ما هي المرجعية التي تقف خلف مطلب المناصفة؟ وما هو السياق الدولي والمحلي الذي يروج فيه لهذا المطلب؟ وما هي خلفياته؟ وما هي مراميه وأبعاده؟

إن المطالبين بالمناصفة يعتمدون على الفصل 19 من دستور 2011 الذي ينص على أنه “يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية”، كما يعتمدون على بعض بنود المواثيق الدولية التي وقع عليها المغرب؛ ولعل أهمها مؤتمر “سيداو” الذي يدعو الدول الموقعة عليه إلى محاربة والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة مهما كان سببه… لنعتبره نحن دعوة صريحة للقضاء على جميع الاعتبارات التي تحافظ على هوية الأمة وخصوصيات الشعوب، بل إنه يسعى إلى تمكين المرأة من “التحرر” و”التخلص” من كل ما قد يعرقل حرية تصرفها بجسدها كأنثى… وإن لنا في منظمة العفو الدولية المعروفة اختصارا بـ “أمنيستي” خير دليل؛ حيث أعلنت مساهمتها في التعبئة للمسيرة الوطنية التي دعا لها “ائتلاف المساواة والديمقراطية”، داعية إلى التحرك من أجل حماية الحقوق الجنسية والإنجابية للمرأة…”. ناهيك عن أن نفس المنظمة أطلقت بداية سنة 2014 حملة عالمية تحت عنوان “جسدي حقوقي”، تعتبر فيها “الحقوق الجنسية والإنجابية هي ركيزة الحقوق الأساسية للمرأة، فيما سجلت تحديات تتعلق “بحق كل فتاة وامرأة في اتخاذ قرارات مستنيرة خاصة بجسدها…” إلى جانب “حقها في المشاركة بوضع القوانين والسياسات والبرامج التي لها تأثيرات مباشرة على حياتها”.

إن سهر المجتمع الدولي على المناداة بمثل هذه المطالب وحماسه في إثارتها وسط الشعوب المسلمة وكذا المستضعفة لا نعده أمرا عاديا ولا موضوعيا باعتبار أن للعالم الإسلامي وللدول المستضعفة أوليات مستعجلة أكثر من تلك المطالب من جهة[2]، ومن جهة أخرى كون العديد من الدول في المنظومة الدولية ما زالت تعاني الأمرين جراء غياب تلك المطالب من واقعها؛ ففيما يخص المطالبة بمبدأ المناصفة مثلا نجد أن الاتحاد الأوروبي قد منح للمغرب غلافا ماليا بأكثر من أربعمائة وسبعة وتسعين مليون درهم لتمويل برنامج “الخطة الحكومية للمساواة في أفق المناصفة”، في حين أن ذات المبدأ غائب بنسب متفاوتة في مجموع دول الاتحاد الأوروبي[3].      

4. خلاصة جامعة

تأسيسا على ما سبق، نؤكد أن الشرع والواقع لا يعتبران المناصفة شرطا حاسما وقطعيا لإنصاف المرأة، كما أن جوهر ديننا الحنيف لا يرفض المناصفة بل ولا حتى ريادة المرأة في حالة تفوقها من حيث القدرة والكفاءة على الرجل بشروط  تعد ضوابط لما سبق ولعل من أهمها: 

عدم إخراج المرأة عن طبيعتها الوظيفية.

عدم العود على وظيفتها التربوية في الأسرة بالخرم والإبطال. 

عدم خدش عرضها.

عدم تحميل قدرتها الجسمية والعصبية فوق ما تحتمل في الأصل والعادة. 

أما ما يخص مجال شؤون وقضايا المرأة تحديدا، فلا نخفي أهمية ووجوب تأهيل المرأة لتتمكن من اكتساب آليات وشروط شرعية وكونية تخول لها درجة الاجتهاد للتصدي لهذا الشأن، فتكون في الطليعة والريادة تنتزع حقوقها التي كفلها لها الشرع. فهذا المجال قد لا تكفي فيه المناصفة، بل قد يحتاج إلى إعداد وتكوين نسبة من النساء تفوق نظيرتها من الرجال لإحقاق الحقوق لبنات آدم وحواء بشروط موضوعية من مثل:

– عدم مخالفة النص القطعي. 

– التحرر من ضغوط المنظمات الدولية وهيمنة العولمة.

– التحرر من سيطرة الأعراف المخالفة لروح الشرع وجوهر الدين. 

– العمل على أسلمة الواقع، وليس الاجتهاد على لي أعناق النصوص وتحميلها ما لا تحتمل لتوافق الواقع المنحرف.

– العمل على تجديد الرؤية الشرعية للعديد من قضايا المرأة والأسرة. 

– وقبل ذلك وأثناءه وبعده، لا بد من:

– تحرير إرادات الرجال والنساء على السواء لتكون مستقلة صادقة في طلبها التغيير لأجل إنصاف المرأة والرجل والمجتمع على السواء. 

– العمل الجاد والدؤوب لتحقيق العديد من أسس وركائز التغيير من مثل: العدل والكرامة والحرية والديمقراطية والشورى وغيرها من الأقطاب المعول عليها في أي تغيير جاد.

– الاجتهاد في تكوين الفرد لتحصيل مختلف العلوم الكونية التي تمكنه من الاجتهاد في وسائل التغيير، وتكسبه آلياته. 

– وجوب رفع الفقر والجهل والأمية والمرض والتهميش وغير ذلك من الأدواء عن المرأة، حتى تتمكن من أداء المهام والوظائف المنوطة بها.

– التركيز على تربية الفرد الإنسان تربية تعصمه عموما من الظلم والأنانية والجشع… وتشجعه على العطاء وخدمة الإنسان وأنسنته… في أفق تحقيق كمال وتمام العبودية لله تعالى.

[1]- الرعد:11

[2] – مثل الاستغلال الجنسي، والعمل غير القانوني، والعمل بساعات تفوق الساعات القانونية المحددة، وارتفاع الطلاق، وانخفاض الزواج، والعلاقات الأسرية المرتبكة…

[3] – إن نسبة تمثيلية النساء في البرلمانات الأوروبية تتراوح بين 47% و9% على الشكل الآتي: السويد: 47%، فنلندا: 42%، هولندا:39%، الدانمارك:37%، اسبانيا:36%، بلجيكا:35%، النمسا وألمانيا: 32%، التشيك وإيرلندا وقبرص والمجر ورومانيا:13.5%. أما المعدل المتوسطي لتمثيلية النساء في برلمان الاتحاد الأوروبي هو 24%. أيضا وحسب معطيات مكتب الإحصاء الأوروبي، فإن النساء في الاتحاد الأوروبي يحصلن على رواتب تقل بمقدار 15% عن الرواتب التي يحصل عليها الرجال. أما المناصب الإدارية العليا في الشركات فيرتفع فيها الفرق بين الرجال والنساء في الرواتب ليصل إلى 30% رغم امتلاك الطرفين نفس الكفاءة والخبرة. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق