المقالات

الدولة وجائحة كورونا(إبراهيم بايزو)

قد لا تكون أوقات الأزمات مناسبة لمساءلة السلوك السياسي للحكومات وتقييم أداء مختلف المؤسسات الدولتية في نظر البعض. وإذ لا نجادل في أهمية وأولوية حفظ أرواح الناس والحد من انتشار الوباء، وبالتالي أهمية التعاون على إنجاح إجراءات العزل المنزلي، فإننا في المقابل على يقين من فائدة وأهمية التحليل السوسيولوجي للخلفيات المؤطرة لأداء أجهزة الدولة في الأزمات. وعليه، وبما أنه لا يمكن الدفع بأية تأثيرات سلبية لهكذا تحليل في جهود مكافحة وباء كورونا المستجد، فإن من شأنه -والحالة هاته- أن يساهم في بناء وعي مجتمعي من شأنه أن يساعد في ترشيد أداء السلطات العمومية، وبالتالي يحمي المجتمع من توظيف الإجماع الوطني من أجل إحياء ثقافة سياسية كلف تجاوزها المغاربة أكثر من نصف قرن من النضالات السياسية بآلامها ومعاناتها التي باتت معلومة لدى القاصي والداني.

وإذا كانت سرعة استجابة الحكومات إزاء الأزمات يعد مؤشرا -من بين مؤشرات أخرى- على مستوى كفاءتها في الاستشراف ودليلا على مستوى المسؤولية السياسية لديها، فإن استراتيجياتها وتدخلاتها التي تتبناها في ذلك تحمل مؤشرات على الثقافة السياسية الثاوية خلفها. وإذا كان السلوك السياسي والأداء الإداري للدول فرعا من ثقافتها السياسية وتصورها لطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين أجهزتها من جهة والمجتمع وقواه وهيئاته من جهة ثانية، فإن الأنظمة التي تضطر لتقديم تنازلات في سياقات تاريخية محددة عادة ما تنتهز الظروف المصاحبة للأزمات لاستعادة ما اضطرت للتنازل عنه مرحليا تحت ضغط التحولات المجتمعية. وهو سياق تزداد فعاليته كلما ترافقت هذه الأزمات بنوع من الخوف المعمم لدرجة تجعل كثيرا من النخب الفكرية والسياسية- فضلا عن العامة- في حيرة من أمرها لا ترى من هول ما يتبدى أمامها إلا لحظتها. ولا شك أن هذا واقع الحال في زمن اجتياح وباء كرونا للعالم.

 تأسيسا على ما سبق، نشدد على أن سرعة تفاعل الحكومة المغربية مع أزمة وباء كرونا من خلال اتخاذ سلسلة من الإجراءات السريعة تؤكد على مستوى من اليقظة والمسؤولية السياسيتين قد استطاعت بدون شك أن تبطئ من سرعة تفشي الوباء وحالت دون تفاقم أعطاب المنظومة الوطنية للصحة التي تدرك الحكومة قبل غيرها مدى هشاشتها. وإذ ننوه بما توحي به هذه الإجراءات من يقظة وحرص نثمنهما، فإن كيفية تدبيرها للأزمة والحيثيات المصاحبة لتنزيل الإجراءات العلاجية ينبئان عن الثقافة السياسية لمنظري مخطط مواجهة الوباء وتصورهم لطبيعة علاقة الأجهزة السيادية للدولة من جهة والمجتمع وهيئاته وقواه بما فيها تلك التي هي جزء من النسق السياسي. فما الذي يميز أداء الدولة المغربية في تدبير أزمة كرونا المستجد؟ وما الذي ينبئ به ذلك؟

إن أول ما يستوقف المراقب لخطة الحكومة المغربية لمواجهة جائحة كورونا المستجد هو التضخيم المبالغ فيه لأدوار الأجهزة ذات الطبيعة الأمنية التي تحولت إلى فاعل مركزي في أزمة هي ذات طبيعة صحية بأبعاد اقتصادية واجتماعية بالأساس. وإذا كان هذا يؤشر على قوة الأجهزة الأمنية وعلى اعتماد الدولة الاستراتيجي على الوظائف الضبطية للإدارة الترابية في تدبير الأزمات، وهو ما لا يثير إشكالا في حد ذاته، فإن التهميش الممنهج للهيئات المنتخبة في جهود مواجهة الوباء يدفعنا للتساؤل عن الأسباب التي تقف وراء هذا الإبعاد في الخلفية التصورية لمخطط مواجهة الوباء؛ فهل المسالة مرتبطة بضعف كفاءة هذه المؤسسات ما يجعل التعويل عليها في المهمات الصعبة متعذرا؟ وفي هذه الحالة، يحق لنا أن نتساءل عن الأسباب التي حالت دون تأهيلها رغم مرور أزيد من نصف قرن منذ نشأتها؟ وإذا كان الأمر عكس ذلك، فهل نحن إزاء إرادة تسعى لاستثمار الفرصة لتسريع وثيرة إحياء تقاليد سياسية لم يتم التخلي عنها قوامها إضعاف البنيات الوسيطة المرتبطة بالمشروعية الانتخابية لصالح الشبكة الإدارية القائمة على مشروعية التعيين؟ ألا يوحي كل هذا على أن النظام السياسي المغربي لم يتحرر بعد من الثقافة المخزنية القديمة القائمة على تجريد المؤسسات المنتخبة من أي قدرة تتيح لها تعزيز وظائفها التمثيلية وقصر أدوارها في التبشير بسياسة الدولة وشرعنتها في مقابل حفظ الطابع الاستراتيجي للجهاز الإداري الموازي الذي يجسد الدولة الحقيقية؟

علاوة على الحضور القوي للجهاز الأمني، يلاحظ المراقب للخطة الحكومية المغربية لمواجهة الوباء تركيزا على الاهتمام بإنجاح مظاهر الانضباط من خلال إلزام المواطنين بالتقيد بإجراء العزل المنزلي، وذلك في مقابل نوع من التباطؤ في معالجة الجوانب الاجتماعية للأزمة رغم توفر مقومات ودواعي التدخل السريع لمعالجة أوضاع الفئات الهشة. ومما يؤكد ضعف الاهتمام بالمواكبة الاجتماعية – وربما استهتارا بخطورة عدم الاهتمام بها- مسارعة رئيس الحكومة في خطوة غير مفهومة لتوقيف مباريات التوظيف في المجالات الاجتماعية وتعليق الترقيات. ولعل ما تناقلته وسائل الإعلام من مشاهد لتجاوزات لبعض رجال السلطة أثناء مراقبتهم للالتزام بالعزل المنزلي وإحجام السلطات الوصية عن استهجانها -على الأقل- يوحي بأن هؤلاء المسؤولون يشعرون بنوع من الحماية من المحاسبة وبأن الأولوية للانضباط وليس للكرامة الآدمية.

 ومما يؤكد أولوية الاعتبارات الأمنية في المخطط الحكومي ما نشاهده من ضعف بين في الاهتمام بالجوانب اللوجيستيكية للمستشفيات وبالجوانب الاجتماعية والمهنية للأطقم الصحية التي تعمل تحت ضغوط نفسية هائلة جراء ظروف الاشتغال التي لا توفر لهم الحماية الضرورية ضد الإصابة بالفيروس. وفي هذا السياق، لا أخال أحدا يجادل في انعكاسات قلة المراكز المؤهلة لتشخيص حالات الإصابة على الكشف السريع للمصابين وبالتالي على الحد من سرعة انتشار الوباء من جهة، وخفض نسب الوفيات في صفوف المصابين من جهة ثانية. وإذا أضفنا إلى كل هذا ضعف المواكبة الإعلامية لجهود الأطباء والأطقم الصحية في مواجهة الوباء مقارنة بالمساحة المخصصة لنشاطات رجال السلطة فإن الأمر يزداد وضوحا وتجليا.

ثالث سمة ذات دلالة للخطة الحكومية تتمثل في علاقة السلطة التنفيذية بنظيرتها التشريعية؛ تلك العلاقة التي يبرزها بقوة شروع الحكومة في تفعيل إجراءات حالة الطوارئ الصحية قبل إقرارها برلمانيا من طرف اللجنتين المختصتين، وهما اللجنتان اللتان لم تسائلا -في استبطان بين للوظائف التي أريد للمؤسسة التشريعية أن تقوم بها ربما- الحكومة عن تجاهلها للبرلمان حتى. وإذا استحضرنا سياق إنتاج النص الدستوري وحداثة التجربة المغربية في تمكين المؤسسة التشريعية من المساهمة في اتخاذ القرارات ذات التأثيرات الاستراتيجية كتلك التي يمثلها إعلان حالة الطوارئ، فإن المراقب لا يسعه أن يشك في نية الحكومة، وأن ينظر بالتالي لسلوكها باعتبارها مؤشرا على مصادرة الحقوق الدستورية لمؤسسة البرلمان ورغبة منها في إضعافها.

السمة الرابعة التي تستوقف المراقب لكيفية تعامل الحكومة المغربية مع تداعيات الجائحة العالمية تتمثل في تهميش المجتمع المدني وتعطيل أدواره في المجال الاجتماعي والاستحضار غير البريء -والمتخيل ربما- لهواجس التوظيف الانتخابي للأعمال الاجتماعية الذي لا يمكن يبرره ذلك باقتراب الاستحقاقات الانتخابية؛ وهو أمر غير أخلاقي يحرم المجتمع من قوته الذاتية في أوقات الأزمات، ولا يخلو من توظيف سياسي لصالح إرادة التحكم.

قد لا تكون السمات الأربع كافية في نظر البعض للحكم على الخلفية التي تؤطر أداء الدولة في هذا الظرف العصيب، لكن استحضار وقائع من التاريخ السياسي القريب كالمعركة  التي سميت حينها بالتنزيل الديمقراطي للدستور، والتعطيل الحكومي والاحتفاء بوظائف وإنجازات المؤسسات الاستشارية المعينة على حساب المؤسسات المنتخبة … كل هذا يجعلنا ندفع بالقول إن النظام السياسي المغربي لم يقطع بعد مع تقاليده السياسية التي ورثها عن سنوات الحماية وما بعيد الاستقلال، تلك التقاليد التي تراهن على ضعف وإضعاف المؤسسات الوسيطة التي تستمد شرعيتها- مهما ضعفت- من القواعد الشعبية. وإذا كان هذا كافيا لتنبيه القوى التواقة لإقامة مجتمع ديموقراطي تكون فيه السيادة للشعب، فإنه أيضا يعتبر كافيا لدفع الباحث للتساؤل عما إذا كانت هذه السمات مؤشرات على إحياء ثقافة سياسية للنظام ظن الكثيرون أنها أصبحت جزءا من التاريخ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق