المقالات

بين الغزالي وألبير كامو: الحيرة مثمرة وقاتلة (عبد الهادي المهادي)

“إذا لم يكن الله موجوداً فكل شيء مباح”

                                                                        إيفان كارامازوف

مدخل

لا يملك الإنسان السَّويُّ إلا أن يتعاطف ـ إلى حد البكاء ـ مع كلّ إنسان تهمّم بـ “سؤال المعنى” وشمَّر بحثا عن مشروع إجابات تشفي الغليل، لكنه ـ لأسباب ذاتية أو موضوعية أو هما معا ـ أخطأ الطريق، فقادته تأملاته إلى الجحود أو العدمية… وبمعنى من المعاني إلى “اللامعنى”.

لماذا التعاطف معه… وإلى حد البكاء؟

لسبب بسيط، وفي نفس الوقت مركب؛ لأن الرحمة القلبية تحتم على المرء أن يحزن للمصير المأساوي الذي ينتظر شخصا عاش حائرا قلقا ورحل عن دنيانا الفانية دون أن يجيب عن السؤال.

منذ أن وُجد الإنسان على هذه البسيطة وهو منشغل دائما بالبحث في القضايا الجوهرية التي يثيرها الوجود، والتي يصيغها عماد الدين خليل في كتابه “فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر” على شاكلة الأسئلة التالية: “ما الهدف من خلق الوجود؟ وما المصير الذي سيؤول إليه؟ وما طبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان والعالم الذي يضطرب فيه؟ وما الحكمة العليا من تشكيل الكون بهذا الشكل ؟ ومن وضع الإنسان فيه بهذا الوضع؟”

وقد تفرقت بالإنسانية المسالك الفكرية والتأملاتية فاختلفت ـ بالتبع ـ الإجابات، ولكنها كانت كلها تنبئه أن ثمة “قوة” فوق عقلية وخارجية تتحكم في هذا الكون وتفصيلاته الدقيقة، قوة قريبة وغريبة وغامضة، علمية ومستعصية على التفسير في نفس الوقت، “قد يكون هو الله” كما صرح بشكل محتشم؛ بل خائف، الفيلسوف جون جيتون في محاوراته مع عالميْ الفيزياء بوغدانوف والمجموعة في كتاب “الله والعلم”.

أما نحن فيهمنا كثيرا ـ بالإضافة إلى ذلك ـ أن نشكل رؤية مقارنة حول تأملات وإنتاجات من كانت طريقه سالكة، وفي نفس الوقت من أدت به الحيرة إلى التيه ثم الظلال. ونطرح من ثَم سؤالا مفاده: كيف يستوي من أضنى نفسه بالبحث والتفتيش فلم يوفق إلى “الوصول” مع من قنع بالمعطى والجاهز من الأجوبة؟ و كيف نفسر تلك الأجوبة الحزينة والسالبة التي قدمها بعض هؤلاء الباحثين المجدين؟

الحيرة: عقلية وقلبية

على مستوى المنهج نحن نفرق بين نوعين من “الحيرة”؛ كلاهما ينطلقان من الشك في ما بين يدي الإنسان من معارف وحقائق، لكن الأولى قلبية بالأساس، تنطلق في بحثها عن المعنى مع الاحتفاظ بـ “نقطة ارتكاز” خفية حتى على صاحبها، وهي بمثابة “مرجعية نهائية” لا يمكن مطلقا الشك فيها، لنسمها بلغة القرآن “الفطرة”، وهنا نستحضر تجربة أبي حامد. وهي هنا تفيد القلق والتردد والاضطراب والارتباك، وهي وإن تجاوزت ذلك عميقا حسب تجربة كل إنسان فلا تصل إلى درجة التيه والظلال وعدم الاهتداء للصَّواب، وعدم الإيمان بـ” العودة والرجوع” إلى حيث البعث والحساب؛ وذلك في مثل قوله تعالى”إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ “، وهذا المعنى هو الذي نجده في الحيرة بمعناها الثاني، والتي تأخذ طابعا عقليا محضا؛ والتي يعمل خلالها الفيلسوف ـ غالبا ـ على “مسح سبورة عقله”، أو هكذا يخيل له، ويشرع في التفتيش دون سند يتكئ عليه أو مرجع يؤوب إليه، وهنا تبرز تجربة ألبير كامو الذي قهره من كان في صراع دائم معه؛ القدر، والذي كان يقول دائما: “إن ما يهمني الآن هو أن أفلت مما هو ميكانيكي، أن أعرف هل يمكن أن يكون ثمة مخرج لما لا مفر منه”، لقد كان يرى في القدر تحديا حقيقيا؛ وليس هناك من حل معه إلا في اتجاهين:إما الإيمان به كما هو، أو رفضه؛ ورفضه لا يكون سوى بالانتحار.

هل يمكن “مسح سبورة العقل” ؟

والسؤال هنا؛ إلى أي حدِّ يستطيع المفكر المتأمل أن يقوم بشكل واع بما سميناه “مسح سبورة العقل”؟

في الحقيقة، ومن خلال استقراء للعديد من نصوص من كان يدعي الإلحاد، نكتشف أن أثر الفطرة والمعتقد الديني للمحيط يبقى أثرهما في عقل الإنسان وقلبه تماما كما يبقى أثر الطبشور على السبورة، وتأتي بعض لحظات الصفاء حيث يبرزان إلى السطح، ولو بشكل طفيف، وهذا ما جعل فيلسوفا ،مثل سارتر، قضى عمرا في محاربة الدين والوحي والتهكم على الثابت والمركزي، أن يعترف في آخر أيامه قائلا :”لقد قادتني فلسفتي إلى هزيمة نكراء”، حسب ما حكى المفكر رشدي فكّار ـ رحمه الله ـ في إحدى حواراته. وعند موته يطلب ـ وبشكل لا يصدق ـ أن يأتوه بقسّ ليعترف له ! وحينما سمعت صديقته سيمون دى بوفوار أنه طلب كاهنًا قالت: “لقد جُنَّ، إنه بهذا يهدم كل فلسفته التي بناها”.

هل يستطيع أحد أن ينكر أن أشد المفكرين إلحادا وإنكارا لوجود الله، لم يخل فكرهم من الإيحاء ـ البعيد أو القريب ـ بوجود “قوة” لا يراها أحد هي التي تحدد مصائر الخلق، وبلغة أدبهم “تعبث بوجودهم”؟

الغربة بين الدين والعدمية

“عند العدمية وعند الدين الإنسان غريب في هذا العالم؛ ففي العدمية هو غريب ضائع بلا أمل، وأما في الدين فهناك أمل في الخلاص” كما يقول علي عزت بيجوفيتش.

بلا أمل، لكونه نتيجة صيرورة فلسفية جعلت منه في النهاية ذا بعد واحد، فهو بهذا المعنى إنسان طبيعي بسيط يعيش داخل نطاق الطبيعة ولا يستطيع تجاوزها ـ كما يحب أن يقول المسيري ـ يسري عليه ما يسري عليها من قوانين. وهو أيضا إنسان وظيفي يُعرَّف في ضوء وظيفته.

غريب إلى حد الضياع، لأنه يعتقد أن “كل شيء جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت” كما قال ألبير كامو مؤكدا كلام “إيفان كارامازوف” الذي صرخ قائلا: “إذا لم يكن الله موجوداً فكل شيء مباح”.

وفي الدين غريب ولكن بأمل في الخلاص، لأن الدين ينظر إليه باعتباره مخلوقا مركبا محفوفا بالأسرار، وأنه ـ نعم ـ جزء من الطبيعة، ولكنه مفارق لها، له قدرة على تجاوزها وتجاوز قوانينها وصولا إلى رحابة ائتمانية.

الغزالي: وجدت الحق مع الصوفية، والذوق كالمشاهدة والأخذ باليد

اِختيارُنا للغزالي نابع من كوننا نعتبره أولا؛ “أكبر عقلية أنتجتها الثقافة العربية الإسلامية” على طول تاريخها، ثم لأنه ـ وهذا مهم جدا ـ يُعدُّ نموذجا للعالم الذي طرح دنياه وشهرته الواسعة وخرج إلى طلب الحق والحقيقة فوجدها ـ كما صرح ـ عند الصوفية.

فاجأت الغزالي ـ كما هو معلوم ـ أزمة روحية شديدة، جاوزت حدَّ الاختيار إلى الاضطرار، أورثته “حزنا في القلب” حتى انعقد لسانه، وبطلت شهوته إلى الطعام والشراب، فضعفت ـ بالتبع ـ قواه حتى “قطع الأطباء طمعهم في العلاج”، فلما أحس بالعجز وسقط بالكلية اختياره، التجأ ـ كما يقول ـ إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، “فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب (…) ففارقت بغداد وفرقت ما معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال (…) ثم دخلت الشام وأقمت به قريبا من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة اشتغالا بتزكية النفس (…) ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمورا لا يتيسر إحصاؤها (…) فعلمت يقينا أن الصوفية هم السابقون (…)وأن طريقهم أصوب الطرق”.

وقبل ذلك كان الغزالي ـ إذا استعملنا لغته ـ قد اقتحم لجة كل بحر يرى فيه أثرا للحقيقة، وخاضه خوض الجسور يروم استكشاف الأسرار، طمعا في التمييز بين محق ومبطل، ورغبة في “إدراك حقائق الأمور”.

بدأ بحثه بعلم الكلام؛ فحصله وعقله و صنف فيه، لكن ـ وكما يقول ـ “صادفتُه علما وافيا بمقصوده، غير واف بمقصدي”. ولأن “رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي في عماية” فقد عطفَ على البحث في الفلسفة، فتحصل على “منتهى علومها”، حتى اطلع على ما فيها “من خداع وتلبيس، وتحقيق وتخييل اطلاعا لم أشك فيه”. وكانت النتيجة أن كفر بعض الفلاسفة في مسائل ثلاث خالفوا فيها جمهور المسلمين، وذلك في قولهم:

1.الأجساد لا تحشر، وأن العقوبات روحية لا جسدية.

2.الله تعالى يعلم فقط الكليات دون الجزئيات.

3.العالم قديم أزلي.

ثم بزجر العامة في الأخير عن “مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر”.

ثم أقبل بهمته العالية على الصوفية، فعلم ـ كما يقول ـ بأن “طريقهم إنما تتم بعلم وعمل(…) وكان العلم أيسر عليّ من العمل”، فبدأ بمطالعة كتبهم حتى أطلع على “كنه مقاصدهم العلمية”، وحينها ظهر له أن “أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق (…) وكم من الفرق بين أن يُعلم (…) وبين أن يُعرف”.

وكانت النتيجة ـ بعد بحث مضني ـ أن خلص إلى أن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب، وأن من لم يُرزق تجربة الذوق فلا تحقيق لديه.

والذوق عنده “كالمشاهدة والأخذ باليد” تماما، وهذا يثير ـ من بين ما يثيره ـ مسألة “مصادر المعرفة”.

لقد وُفِّق الغزالي لأربع خطوات كانت حاسمة في حياته:

1.ألحت عليه فكرة البحث والطلب حتى استولت على كلّيّته؛ وهذا ما يسميه الصوفية بـ”اليقظة القلبية”.

2.هجر الرئاسيات والشهرة والأبهة التي كان غارقا فيها.

3.فتش عن “الدليل” ـ أو ما يسمى في لغة القوم بـ”المصحوب” ـ حتى وجده، فخالط الصالحين وصحبهم.

4.عاد إلى “الحياة” بفهم وإرادة ورؤية أعمق وأبعد.

ضميمة : في مصادر المعرفة الإنسانية

كما هو واضح فإن الغزالي يجعل من “الحدس الصوفي أو الكشفي” مصدرا من مصادر المعرفة اليقينية العليا، شأنه في ذلك شأن الوحي (كتابا وسنة) والبرهان العقلي والتجربة، والحجة والسند الذي يتكئ عليه كل من يؤمن بذلك قوله تعالى في الآية 78من سورة النحل” وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”؛ فهنا ـ إذا رمنا التبسيط ـ ذكر للسماع باعتباره وحيا، والإبصار باعتباره تجربة، والفؤاد باعتباره ذوقا وكشفا وإلهاما.

فالغزالي يعتبر الإلهام من أثر الوحي، ويسميه “علما لدنيا”. فانظر إليه وهو يقول في “المعيار”: “ومن مارس العلوم يحصل له على طريق الحدس والاعتبار قضايا كثيرة لا يمكنه إقامة البرهان عليها، ولا يمكنه أن يشك فيها، ولا يمكنه أن يشرك فيها غيره بالتعليم”.

إلا أننا نجد دائما من يشكك في هذا المصدر؛ فانطلاقا من الآية السابقة ـ كما يقول ـ وانطلاقا من إيمانه بكون المعرفة تأتي من خارج الذات الإنسانية، يدعو محمد شحرور في مقدمة “الكتاب والقرآن” إلى قيام “فلسفة إسلامية معاصرة، تعتمد المعرفة العقلية التي تنطلق من المحسوسات عن طريق الحواس وعلى رأسها (السمع والبصر)، لتبلغ المعرفة النظرية المجردة” ويدعو “إلى رفض الاعتراف بالمعرفة الإشراقية الإلهمية الخاصة بأهل العرفان”، ولكنه ـ للأسف ـ لم يقدم أي تأويل معتبر، أو حتى تخريجة، لذكر المصدر الثالث في الآية؛ وهو “الفؤاد”.

ألبير كامو: الصراع مع القدر … التمرد أو الانتحار

(1)

ألبير كامو أشهر من أن يُعرَّف، ولكن دواعي المقال تستدعي أن نقف قليلا عند سيرته وشذرات من فكره حتى تتضح لنا الصورة أكثر حول سياق حيرته ونتائجها.

ولد صاحب “الغريب” في الجزائر سنة 1913م، انخرط في المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال النازي، واشترك مع سارتر في إصدار صحيفة “الكفاح” اليومية التي تتحدث باسم المقاومة الشعبية، ورغم أنه كان أديبا في المقام الأول، إلا أنه كان فيلسوفا حقيقيا. وكانت مسرحياته ورواياته ـ على حد سواء ـ عرضا أمينا لفلسفته في الوجود والحب والموت والثورة والمقاومة والحرية، وكانت فلسفته أكثر أمانة في التعبير عن سياقات عصره المهولة التي عرفتها أوربا بين الحربين، وخاصة أثاء الحرب الثانية وبعدها. وتقوم فلسفته على كتابين أساسيين هما “أسطورة سيزيف” (1942) و”المتمرد” (1951)، وفيهما يشرح فكرتيه الرئيسيتين حول العبث والتمرد. وشأنه شأن كل الوجوديين؛ يتخذ كامو من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان في الوجود.

في 4 يناير من عام 1960م، سيلاقي حتفه بطريقة أبعد كثيرا مما كان يتصوره؛ حادثة سير قاتلة لم تتح له الفرصة حتى ليتأمل تأملا أخيرا، كما فعل صديقه وخصمه أيضا سارتر، في تصوراته، فلربما طلب بدوره أن يأتوه بقسيس!

(2)

كمدخل للحديث المقتضب حول أفكار ألبير كامو وتأملاته التي وصفناها بـ”الحائرة والقلقة” أستشهد من الذاكرة بقولة لـ”أرثر ميللر” والتي يتساءل في أولها حول الأماكن الأكثر براءة في هذا العالم، فيجيب “أليس هو مصحة الأمراض العقلية؟! فالواقع ـ كما يقول ـ “أن كمال البراءة هو الجنون”.

هذه هي الخلاصة الفكرية لجيل من المفكرين والفلاسفة والأدباء في غرب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي خلاصة تؤشر لـ”ضياع الإنسان في عالم انعدمت فيه القيم”، والنتيجة ـ كما يقول آرثر في “المسامر” ـ أنه أصبحت “لنا مشاكل لم يسمع بها أحد”.

في كل أعماله تقريبا ـ وخاصة الأدبية منها ـ يقدم لنا كامو ـ كما يقول عماد الدين خليل ـ أناسا غارقين في الإحساس بالعبث إزاء عالم غير معقول، لا يقوم على أي أساس من المنطق، أو هدف أو مصير. لقد كانت القضية التي تؤرقه ـ على طول ـ هي أن “الناس يولدون ثم ما يلبثوا أن يموتوا وهم ليسوا سعداء، لماذا؟” السبب عنده، كما يعبر على لسان بطل مسرحيته “كاليكولا”، أننا لا نفهم القدر. من أجل ذلك فالإنسان مهزوم لا محالة؛ سواء خضع أو تمرد! وبذلك اختلط عنده الحق والوهم. “وهم ! حقيقة ! اذهبوا إلى الجحيم جميعكم” كما عبر بيرندللوا على لسان إحدى شخصيات مسرحية “الليلة نرتحل”.

والنتيجة الخطيرة أنه ـ وغيره من جيل الوجودية ـ ما عاد يرى أي مبرر لتمسك الإنسان بقيمة ما من القيم الإنسانية، والتي أصبحت ـ عندهم ـ عتيقة وبالية؛ فانظر إليه يصرح على لسان مارتا في مسرحية “سوء التفاهم” قائلا: “إن ما هو إنساني عندي هو ما أشتهيه، وللحصول على ما أشتهيه أعتقد أنني سأحطم كل شيء يقف في طريقي”. وهذا بالضبط ما قاله سارتر بلغة أخرى حين دعا إلى “حرية الذات في ابتداع القيم، وخلق المصير”. وهو نفس الأمر الذي كان يطمح إليه أستاذهم الكبير نيتشه حين لم يكتف بإعلان موت الإله، بل دعا إلى محو آثاره.

ما الموقف العقلي، وليس العاطفي، الذي يمكن تشكيله اتجاه تأملات العدميين وإنتاجاتهم؟

لا أنكر أني طول بحثي في المسألة وقفت حائرا أمام هذا السؤال، فالإجابة عنه صعبة، لأنها ـ بكل وضوح ـ تستتبع مشاكل مع القارئ غير المنفتح على قضايا الفلسفة وإشكالاتها، من أجل ذلك عملت على الاختباء خلف قامة علمية وفلسفية شامخة هو الألمعي علي عزت بيجوفيتش، الذي يفاجئ قارئه بطروحات غاية في الإبداع والاجتهادية، ومن ثم فنحن في هذه الفقرة عالة بشكل كلي على أفكاره وتصوراته.

يؤكد في كتابه ـ التحفة “الإسلام بين الشرق والغرب” على أن هناك نقط مشتركة بين العدمية والدين؛ ذلك أن العدمية وفلسفة العبث “تعبير عن مقاومة الإنسان، وعن عدم رضاه عن العالم الذي ينمو بعكس الصورة التي أرادها لنفسه، إنها تمرد على الحضارة ذات البعد الواحد”.

إنهما يمثلان إنكارا للمادية، وهما معا بحث المجتهد عن طريق خارج العالم الذي أصبح الإنسان فيه غريبا، إنما الفرق بينهما ـ كما سبق الذكر ـ أن العدمية لا تجد طريقا للخلاص، بينما يذهب الدين إلى أنه قد وجد هذا الطريق.

إن العدمية أو العبث ـ بمعنى من المعنى ـ “ليست إنكارا للألوهية، ولكنها احتجاج على غيابها” كما يؤكد مثلا صمويل بكيت في مسرحيته “في انتظار عودة غودو”؛ ذلك أن المفكرين والفلاسفة الغربيين خلصوا ـ نتيجة ما عايشوه من أهوال أثناء الحربين، وبالخصوص الثانية ـ خلصوا إلى أن الله موجود، ولكنه غائب.

ولهذا، فأفكارهم يمكن فهمها فقط إذا اعتبرناهم مؤمنين مخيبي الرجاء، كما يستخلص بيجوفيتش.

ما هو الجواب الإسلامي ؟

ما هو الجواب الإسلامي على هذه الإشكاليات الوجودية؟ إنه ـ في نهاية التحليل ـ ينتصر لـ”السّماع والصحبة”. ولكن السماع والصحبة بأي معنى؟ في كلمة وبدون كثير تفسير؛ السماع بالمعنى الذي يجعل العقل يجلس بين يدي الوحي تلميذا يستهدي بهديه ويستنير بنوره. وهنا يكون السماع مصدرا أولا للمعرفة.

أما “الصحبة” ـ والتي تثير سوء فهم كبير، خاصة عند العقلانيين ـ المتدينين منهم والعلمانيين على حد سواء ـ فـ” أولها لقاء بالشخص الرباني النوراني لقاء تتبادر إلى القلب منه هزة وإعجاب وارتياح وطمأنينة، ثم محبة تغذوها المجالسة والمعاشرة والمشاركة في العمل” حسب ما يعرفها أهلها.

وهذا بالضبط ما يحدثنا عنه القرآن الكريم ـ بلغته المتحيّزة البعيدة عن دعاوى الموضوعية ـ عندما يقول في الآية 71 من سورة الأنعام: “قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ”.

وهذا بالضبط ما جعل أبا حامد الغزالي يُثمر، بينما غيابه عند ألبير كامو جعله يتيه ثم يهلك دون أن يُوفَّق في الإجابة عن السؤال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق