المقالات

انتفاضة القدس وإعادة بناء “الوعي الثوري” ومسار التحول التاريخي(مبارك الموسوي)

انتفاضة القدس وإعادة بناء “الوعي الثوري” ومسار التحول التاريخي

1.انتفاضة القدس وإعادة بناء “الوعي الثوري”

المقصود هنا ب”الوعي الثوري” ذلك التحول في التفكير السياسي عند النخبة الذي يربط عمليات الإصلاح والتغيير بماهية الصراع بين المشروع التحرري ذي الأرضية الإسلامية وبين المشروع الصهيوني الصليبي الاستعماري/الاحتلالي التوسعي؛ خاصة في صورته الأخيرة مع الهيمنة الأمريكية في كل المجالات وتفوقها فيها، وعلى الخصوص في مجالات مفاهيم التنمية والعدالة الاجتماعية والنظام الدولي والعلاقات الدولية ومفاهيم الأمن الإنساني والدولي وغيرها.

كما المقصود به ذلك الموقف المبدئي الواضح الذي لا يقبل أي مساحة رمادية لدى عموم الجمهور العربي والإسلامي ويوجه سلوكه اليومي في علاقته بالشأن العام، أي بالمشاركة السياسية؛ وهو أن أوضعانا المتعلقة بالجانب الثقافي من جهة وبالجانب العدلي من جهة أخرى ليست إلا تجليا من تجليات حجم اختراق هذا المشروع الكبير، الصهيوني الصليبي الاستعماري/الاحتلالي التوسعي، لتفاصيل الحياة ومقتضياتها ومطالبها، وذلك ليكون هذا الموقف معيارا وضاحا في تقييم المواقف في بعدها المجتمعي والسياسي، ومن ثمة يكون له الأثر المباشر في بناء الاختيارات والسياسات، ويكون وضوحه رادعا في فرض ما لا يناسبه؛ إنه موقف ذوقي ونفسي وفكري، أي موقف سلوكي معياري في الفهم والعمل.

هذا الموقف يجب أن يكون موضوع كل حركات التغيير والإصلاح، لأنه أساس الأرضية الجامعة في قيادة كل عمليات الإصلاح والتغيير في كل المراحل، لذلك نلاحظ أنه كلما اقترب القوى الفلسطينية من هذه الأرضية الصلبة تتدخل قوى المشروع الاحتلالي وعملائها لإفساد اي علاقة مبنية على أساسه، ولعدم تحقيق أي اقتراب منه نجد هذه القوى تحرك كل مواضيع الصراع والاقتتال في عالمنا العربي والإسلامي لابتعاد عنه خاصة الصراعات الاثنية والمذهبية والطائفية والجغرافية.

وإذا رجعنا إلى مدى القرن العشرين ميلادي وما مر من القرن الواحد والعشرين، بل وقبل ذلك مع أواخر القرن التاسع عشر، سنجد أن صيرورة التحولات التاريخية في مسار مجتمعاتنا العربية والإسلامية ارتهنت في هدوء كبير أحيانا وفي حالات معينة من الصراعات إلى درجات احتكاك المشروعين على الأرض خاصة في مجالات الهوية ورموزها الأساسية.

هنا تكون أخطر استراتيجية تأثيرا وعمقا هي زرع ما سمى اليوم ب”إسرائيل” في جسم الأمة، وبالتحديد في فلسطين، وجعل القدس محور وجودها من عدمه (نظرية هيكل سليمان) فضلا عن دائرة توسعها الجغرافي الذي يتلاحم مع مقتضى العمق الرمزي والتاريخي من خلال ارتباطها بالقيمة الثقافية والتاريخية للمكان، ليشكل كل ذلك محركا لأهم أداة  لحسم الصراع في المنطقة، خاصة لما تسلحت بعالم التقنية الفائقة التطور والمتسارعة المراحل والمتحكم فيها بشكل كبير لحد الآن. 

لذلك يجب أن تتحرك عمليات صناعة الوعي والإرادة بناء على أن القدس عنوان القضية؛ أي عنوان الوجود من عدمه، وبذلك تتحد بوصلة مصيرية لتنظيم كل العمليات التدافعية التفصيلية في كل المجالات والقطاعات، خاصة لما يندمج في وعينا هذا أن التحرر من قبضة هذا المشروع يعني تحرر الإنسانية كذلك ودخولها في مرحلة تاريخية جديدة يجب أن تتميز بسيادة قيم العدل الإنساني والكرامة الآدمية والحرية الراقية.

2. انتفاضة القدس وماهية التحول التاريخي

المقصود هنا بالتحول التاريخي هو الفعل في الوجود الإنساني الذي يغير وجه العالم في النهاية، إما إلى وضع كالح تهيمن فيه الصراعات والمظالم وقهر الإنسان، وإما تعم في قيم الرحمة والعدل والتكامل الإنساني.

لذلك كانت سنة 1948 ملادية علامة زمنية فاصلة في مرحلة تحول تاريخي بالنسبة للأمة العربية والإسلامية حيث برز الكيان الصهيوني كقوة فاعلة سيؤثر وجودها مجملا في الوضع الدولي  وفي واقع النظام السياسي العربي والإسلامي بعد، ثم سنة 1967 احتلال القدس ورام الله وغزة ثم الجولان ثم جنوب لبنان، حيث لم يعرف هذا الكيان أية حرب قاسمة إذا استثنينا حرب 1973.

وفي سيرورة توسع هذا الكيان، ديموغرافيا وجغرافيا وعسكريا مصحوبا بتطور هائل في نظامه السياسي والاقتصادي والمالي، دون أن ننسى أنه قبل أن يصير دولة بسلاح على أرض فلسطين كان دولة متكاملة في أمريكا من دون سلاح، في هذه السيرورة كان اختبار مدى المقاومة في جسم الأمة الذي صارت على حالة من التشرذم والتمزق رهيبة ومصحوبة بارتباك واضطراب شديدين في اختيار مرجعيات هذه المقاومة وأساساتها الفكرية وأهدافها التحررية، ولذلك تراوحت بين تجارب ومدارس متعددة إلى أن استقرت، في الغالب فيها، منذ بدايات تسعينيات القرن العشرين على الأرضية الإسلامية التي قادها في جنوب لبنان حزب الله وفي فلسطين حماس في سياق الموجة الإسلامية التي تلت انهيار الدولة العثمانية سنة 1924م، ثم مع أثر الثورة الإيرانية مع الإمام الخميني عام 1978م.

لقد غلبت على القرن العشرين الانتكاسات العسكرية والسياسية في عالمنا العربي والإسلامي في مواجهة الاختلال الصهيوني إلى أن تحققت انتصارات ذات عمق استراتيجي في مقاومة الكيان الصهيوني منذ عام 2000 إلى الآن؛ سواء في حروبه مع المقاومة في لبنان أو في فلسطين، هذه الانتصارات كادت أن تذهب سدى مع ماسمي بالربيع العربي لولا القدرة على الردع وتغيير قواعد الاشتباك وفرض تواز الرعب التي أدارها حزب الله بكفاءة عالية وأنجزت قواعدها حماس في حرب 2014 وما بعدها، وهاهي تحدث تغيرا جذريا في معادلات الصراع لما ارتبطت هذه المعركة الدائرة الآن بالأقصى والقدس ارتباطا جوهريا فانتفضت جميع الشعوب المسلمة كما انتفضت جميع المدن الفلسطينية في الداخل المحتل ورام الله وغزة.

إن أهمية مفهوم التحول التاريخي في رصد آثار انتفاضة القدس اليوم يعني الانتقال بمستوى الوعي في عالمنا العربي والإسلامي لتدرك النخب والحركات العاملة على الإصلاح والتغيير أن مستقبل أوطانها رهين بقدرتها على إعادة بناء قواعد الاشتباك والمقاومة مع امتدادات الكيان الصهيوني في جميع تفاصيل الحياة المجتمعية، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وغيرها من المجالات، وأنها مسألة حياة أو موت، ومن مقتضى هذا التحول إعادة النظر جذريا في المفاهيم المؤطرة للفعل اليومي في الميدان وفي جدوى وماهية الصيغ التنظيمية والهيكلية القائمة لتأطير المجتمع وتجميع قواه الكامنة، وفي المضمون التنموي العام لقيادة التحرر وبناء القوة الذاتية، ومعه تصعيد الوعي الجمعي الذي يربط بين تحقيق الحرية والتنمية وبين وانهيار الكيان الصهيوني من حيث هو مشروع صهيوني صليبي استعماري/احتلالي توسعي ولا يمكنه أن يكون إلا كذلك.

إن الدعم اللحظي في اللحظات الحرجة، كما هو الشأن في مثل هذه المعارك التي تدمر كل شيء، مهم جدا، لكن الأهم هو سيرورة وصيرورة بناء قواعد الحرية عبر مراحل بناء المشروع التحرري الذي يجعل بوصلة له تحرير القدس وفلسطين، أي تقويض مصدر الضعف العام، ذلك أن الوجود الصهيوني ليس محدودا جغرافيا، بل ممتدا في كل تفاصيل الحياة المجتمعية والسياسية لمجتمعاتنا بدرجات متفاوتة لكنها مؤثرة جوهريا في معنى وجودنا القائم.

وما ينبغي الإشارة إليه هنا أن وجود هذا المشروع عامل موضوعي وطبيعي، لذلك يبقى العامل الحاسم هو بناء المشروع التحرري الذي يرتبط بالذات التي لا ينبغي أن يفتر عن النظر إليها ولو لحظة العقل الناقد المرافق للنهضة الجماعية والعامة التي تجسد الذات مضمونا وفعلا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق