المقالات

السيري والشعري في القصيدة النبوية المعاصرة _2_(أحمد زنيبر)

لقد خلّف موت النبي صلى الله عليه وسلم صدمة كبيرة لدى المسلمين الذين لم يستوعبوا هذا الحدث في البداية، إلا بعد فترة من الزمن، حين علموا أنه قد ترك لهم إرثا عظيما تمثل في سيرته النبوية الغراء وفي ما أسماه أيضا بالمحجة البيضاء. يقول عن وفاته:[12]

هو حي في قبره دون ريب
نوره في الأشياء سار ولولا
 ما لنا في حياة طه امتراء
نوره لاضمحلت الأشياء

لقد توافرت لهذه القصيدة كل الشروط الذاتية والموضوعية للارتقاء بسيرة الرسول (ص)، استنادا إلى ما يقدمه التاريخ من معلومات كثيرة تتصل بالوقائع والأحداث والمعجزات وما يضمه من تفاصيل عن بعض المعالم والفضاءات الدينية. بالإضافة إلى ما يقدمه الإحساس بالانتماء للوطن العربي الإسلامي من شحنات عاطفية ترى في سيرة الرسول نموذجا إنسانيا رفيعا لا يُضاهى. وهو ما يبرر تخصيص الجزء الأخير من القصيدة لمدح الرسول وآل بيته وإظهار تشوقه لأرضه واستمطار جوده وفضله. ولعل في تكرار الكلمات ذات الحروف المشتركة (مادح/ مدحك/ المداح/ ممدوح) ما يؤكد هذا المنزع الاحتفالي. يقول الشاعر:[13]

يا حبيب الرحمن إني محب
يا مجيز المداح يا خير ممدو
هذه روضة بمدحك ترضا
 مادح لي في مدحك استعلاء
ح أتى في الكتاب فيه الثناء
ك ويرضيك من نداك الرضاء

ولأن حضور السيرة في هذه القصيدة النبوية، بأجوائها المختلفة، لم يكن بعيدا عن حضور الجمالية فيها؛ فقد حرص الشاعر على تهذيب اللغة وانتقاء المفردات والسمو بالمعاني والدلالات في غير ما موضع. فالقصيدة انفتحت على معجم شعري واسع استمد قوته من عوالم متعددة منها الذات والحياة والطبيعة وغيرها. نذكر من ذلك النور والهدى والرحمة والمحبة والشوق والتوحيد والنصر والعفة والروضة والضياء وغيرها. كما اشتملت على عدد غير يسير من الصور الفنية، بما فيها من تشبيه ومجاز وكناية واستعارة تنم عن ذائقة شعرية مغربية أصيلة. نذكر منها النماذج الآتية:

1.لم يزلزله معرك يوم حرب
2.وكأن الأشباح بالشوق نوق
3.صرموا بالصوارم البيض حبل الـ
 فهو ليث على العدا عدّاء[14]
هزها من صوت الحداة حداء[15]
ـكفر طالت لهم يد بيضاء[16]

ففي مثل هذه النماذج، وغيرها كثير، إشراقات يستلهم فيها الشاعر مخزون التراث الشعري القديم من جهة، ويستند في بلورتها التعبيرية إلى ذوقه وانطباعاته بما جدّ فيها من مواقف ورؤى شخصية من جهة ثانية. فهناك تصوير بديع لحالة الرسول (ص) وهو يقود أتباعه في ساحة الحرب. فهو مثل الأسد المغوار، إن لم يكن فعلا هو الأسد على سبيل الاستعارة، في القوة والصرامة والإقدام والفتك والشجاعة (فهو ليث على العدا عدّاءُ). وهناك تصوير آخر للجنود وهم يقارعون بالسيوف أعداء الإسلام (صرموا بالصوارم البيض) حيث الأصوات تمتد في كل الأرجاء.

كما اعتنت القصيدة بالمحسنات البديعية، وهي كثيرة ومتنوعة أيضا، حيث تناغَمَ الإيقاعان الداخلي والخارجي معا. نذكر من ذلك مثلا توظيف تقنيات التكرار والتوازي والطباق والاشتقاق واستعمال متنوع لمختلف الأساليب الخبرية والإنشائية وكل ما من شأنه أن يضفي جمالية على النص الشعري. ويمكن أن نتوقف عند بعض هذه الملامح الإيقاعية في النماذج الآتية:

1.فأغثني فأنت غوثٌ غِياث
2.كبّر المصطفى فدكت حصون
 غيثُ جود للمجتدين رواء[17]
خربت خيبر وخرّ البناء[18]

حيث مظاهر الاشتقاق (غوث، غياث) و(خربت، خيبر، خرّ) وتكرار الأصوات (غ/ ث/ ي/ ف/ خ/ ر/ ب/ء).

3.كنت نورا في حضرة الله مولا
كنت في عالم البطون نبيا
 ك ولا آدم ولا حواء[19]
لك من قبل الأنبيا استنباء

حيث يبرز تكرار الفعل (كنت) والأداة (لا) و (في).

4.واستحبوا العمى على الرشد بُغضا
 كيف يرجى لداء بُغضٍ دواء[20]

حيث أسلوب الطباق بين كلمتي (الداء والدواء) وكلمتي (العمى والرشد) باعتبار كلمة الرشد تقابل في معناها النور والإبصار).

القبول القبولَ يا خير مقبو
 ل لدى الله فالقبول رضاء[21]

حيث ركوب البديع عن طريق التكرار بهدف التوكيد (القبول).

ولأن قصيدة المدح النبوي لم تحد عن تمثلات النصوص الشعرية العربية السابقة في المجال؛ فإن الشاعر المغربي الحديث أبان عن حس جمالي في التعامل مع هذا الإرث، نذكر منه قصيدتي البردة والهمزية للإمام البوصيري باعتبارهما نصين قوبلا باستحسان كبير لدى الخاصة والعامة ونشأت حولهما معارضات كثيرة، معلنة ومضمرة في آن. لذلك لا غرابة أن نجد بعض التشابهات بين قصيدة ابن خضراء وشعر البوصيري ما دام الموضوع واحدا. كما يمكن الإشارة، في إطار هذا الحوار الشعري بين النص والنصوص الخارجية، إلى حضور النص القرآني باعتباره يشكل خلفية معرفية لذاكرة النص، بالإضافة إلى النص الشعري القديم والنص التاريخي والأمثال بوصفها دعامات أساسية يقوم عليهما النص الشعري.   

نجد إحالة صريحة إلى المثل العربي القديم “رجع بخفي حنين” في قوله:[22]

رجعوا خيبة بخفي حنين
 معْ رفيق يقيهما استخفاء

كما نلحظ تناصا شعريا واضحا في الشطر الثاني من بيته الآتي:

قد غزتهم سيوفه وبرتهم
 ما لجرح ببريها إبراء

مع بيت لأبي الطيب المتنبي، وهو:

من يهن يسهل الهوان عليه
 ما لجرح بميت إيلامُ[23]

كما نلمس تضمينا لإحدى السور القرآنية (سورة الفتح) في موضع آخر:[24]

قارئا بالترجيع إنا فتحنا
 لك فتحا وللورى إصغاء

لقد كان الشاعر وفيا للذوق العربي القديم، في عموميته، دون أن يسقط في المماثلة، فقد أغنى قصيدته ببعض اللمسات الفنية، تفاوتت بتفاوت العبارات وتنوع الصور. ينضاف إلى ذلك دخوله في المديح النبوي مباشرة دون الحاجة للوقوف على الطلل أو الابتداء بالنسيب واستخدامه لتقنية التدوير في بناء البيت الشعري.     

خاتمة: هكذا يجاوز الشاعر بين منحنين اثنين هما السيرة النبوية بتفاصيلها الدقيقة وتداعياتها المختلفة تبعا لسياقها التاريخي والاجتماعي، وبين الحفاظ على شعرية القصيدة العمودية عبر الالتزام بالوزن والقافية واختيار الألفاظ وتركيب الصور. وهما دعامتان تبين من خلالهما صلة الشاعر بواقعه الديني من جهة، ومدى ارتباطه بمناخه الأدبي والشعري من جهة ثانية.

هكذا تنتظم قصيدة الشاعر المغربي الطيب ابن خضراء، من خلال استيعاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتبنّيها عبر مفاصل القصيدة. وإن كانت قراءة النص مرتبطة ضرورة بالسياق التاريخي والثقافي؛ فإن الشاعر لم يأل جهدا في بث روح الحياة من جديد في الشخصية المترجم لها، حتى لا تبقى هذه الترجمة/ السيرة مجرد تاريخ بارد أو تقرير جامد. وهو ما يعطي الانطباع، في النهاية، بانسجام السيري والشعري في هذه القصيدة النبوية المغربية.    

المراجع

·     أبو مروان عبد المالك البلغيتي. مختارات من الشعر المغربي في بداية القرن 14هـ/20م. راجعه وقدم له محمد حجي. منشورات الخزانة العلمية الصبيحية. سلا المغرب 2004

·     أحمد زنيبر. المديح الديني ومستوياته في شعر محمد الحلوي. مجلة المشكاة. مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء العدد 46 السنة 2005. ص.ص 27-37

·     أحمد زنيبر. المعارضة الشعرية عتبات التناص في القصيدة المغربية. دار أبي رقراق بالبراط. 2008

·     أسامة محمد البحيري. قصيدة المديح النبوي. نادي تراث الإمارات. 2013

·     آمنة دهري. المعارضة في النص الشعري المولدي. ضمن كتاب جماعي زهرة الآس في فضائل العباس. ج2 دار المناهل الرباط 1997. ص776-793

·     عبد الإله بوشامة. أنماط المديح النبوي في مغرب القرن 19 مشكلات التصنيف والتجنيس. ضمن كتاب جماعي زهرة الآس في فضائل العباس. ج2 دار المناهل الرباط 1997. ص494-547

·     فاطمة الجامعي الحبابي. رشف من المدحة النبوية المغربية وكشف تأملات مفادها. ضمن كتاب جماعي ومضات معرفية. كلية الآداب ظهر المهراز فاس 2017. ص129-160

·     مصطفى الشليح. المعرفة/ المؤسسة/ السلطة في الثقافة المغربية بسلا. مطبعة المنية بالرباط 2012

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق