المقالات

الخطاب والسلطة عند فوكو:(رشدي بويبري)

سعى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، في مشروعه الفكري والنقدي للتراث الفلسفي المعاصر إلى ربط اللغة والخطاب بمفهوم السلطة والموقع الاجتماعي للمنتج للخطاب أو المستخدم للغة. وقد انتقد في البداية القراءة التي قدمتها الفلسفة الماركسية لمفهوم السلطة، بسبب تركيز هذه الأخيرة للسلطة في جهاز الدولة. بينما يرى هو “أنه لا يمكن أن نتحدث عن السلطة باعتبارها ذلك الجهاز الذي يقبع على قمة المجتمع والذي يدعى الدولة أو السلطة السياسية العليا، بل يجب أن نتحدث عن السلطة باعتبارها شبكة علاقات القوة المزروعة في كل جسد المجتمع والمنبثقة في كل مؤسساته وخلاياه”[1].

       وهكذا فإن هذا الفيلسوف يعتبر أن “السلطة موجودة في كل مكان وتمارس فعلها بأشكال متعددة، فهي تلك القوة الموجودة في كل مناحي الحياة الاجتماعية. فالسلطة، في تقديره، ليست موجودة فقط في أعمال الحكومة، ولكنها أيضا موجودة بمقدار كبير في الخطاب وفي التأثير الذي يحدث هو يرافقه”[2]. وهو ما ينص عليه حين يعتبر بأن الخطاب في حقيقته تأكيد لسلطة سياسية ترمز له بشكل أساس. فالكلام السياسي ليس إلا وضعا للمجتمع في الخطاب. يقول فوكو في كتابه “إرادة المعرفة”: “ففي الخطاب بالذات، يحدث أن تتمفصل السلطة والمعرفة. ولهذا السبب عينه، ينبغي أن نتصور الخطاب، كمجموعة أجزاء غير متصلة وظيفتها التكتيكية غير متماثلة ولا ثابتة. بصورة أدق يجب أن لا نتخيل عالما مقسما بين الخطاب المقبول والخطاب المرفوض… بل يجب أن نتصوره كمجموعة عناصر خطابية تستطيع أن تعمل في استراتيجيات مختلفة: الخطاب ينقل السلطة وينتجها ويقويها، ولكنه أيضا يلغمها ويفجرها، يجعلها هزيلة ويسمح بإلغائها”[3].

       هذا الارتباط الوثيق بين مفهومي السلطة والخطاب جعل كلا من “الذات أو المؤسسة أو السلطة على السواء، تتخوف تجاه ما يشكله الخطاب من سلطة مادية، فالخطاب، حسب فوكو، سلطة مادية تملك القوة والقدرة وتتضمن مخاطر ومخاوف وتحمل صراعات وما تسفر عنه من انتصارات وهزائم، من تحرير واستعبادات، سلطة تعبر الذات والمؤسسة على السواء، وتؤسس وجودها المستقل، هذا الوجود الذي يخيف الذوات والمؤسسات والمجتمعات.

       لذلك يعمل كل مجتمع على فرض أشكال متعددة من الرقابة على الخطاب”[4]. يقول فوكو: “أفترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع، هو في نفس الوقت إنتاج مراقب ومنتقى ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة”[5]. وقد قسم الإجراءات التي تحاول المجتمعات تطويق الخطاب بواسطتها إلى ثلاثة أصناف، أولها الإجراءات الخارجية و”تتشكل من عمليات المنع والقسمة والرفض وإرادة المعرفة، وهي إجراءات تراقب الخطاب من الخارج”[6]. ثم الإجراءات الداخلية وهي التي تخص الخطاب ذاته، وتمارس مراقبتها الخاصة، “إجراءات تعمل بالأحرى على شكل مبادئ للتصنيف والتنظيم والتوزيع، كما لو أن الأمر يتعلق هذه المرة بالتحكم في بعد آخر من أبعاد الخطاب: بعد الحدث والصدفة”[7]. وأخيرا إجراءات “الاستخدام والتوظيف”، وتختلف هذه المجموعة عن المجموعتين السابقتين في كونها لا تبحث في آليات التحكم في الخطاب، ولا في سلطته، ولا في الحد من ظهوره، بل تحدد شروط استخدام الخطاب، وتفرض قواعد على الأفراد الذين يستخدمونه. ويشرحها فوكو بقوله: “في هذه المرة يتعلق الأمر بالتقليل من عدد الذوات المتكلمة، لن يدخل أحد في نظام الخطاب إذا لم يكن يستجيب لبعض المتطلبات، أو إذا لم يكن مؤهلا للقيام بذلك، منذ البداية. وبدقة أكبر، ليست كل مناطق الخطاب مفتوحة بنفس الدرجة، وقابلة للاختراق بنفس الدرجة، فبعضها محروس وممنوع علانية في حين أن البعض الآخر يبدو مفتوحا تقريبا أمام كل الرياح”[8].

       نخلص من خلال مقاربتنا لمعالجة ميشال فوكو لمفهوم الخطاب والسياسي منه بالخصوص، إلى جملة من الاستنتاجات التي عمل هذا الفيلسوف على إقرارها وأهمها:

       1ـ أن الخطاب لا يمثل أداة في يد السلطة، ولا انعكاسا لها فقط، بل يمتلك سلطته الخاصة المستقلة؛ ففيه تندمج المعرفة والسلطة وتتشابكان وهو مكون مجموعة من العناصر تؤدي أدوارا في استراتيجيات متعددة.

       2- أن الخطاب يؤسس سلطته المستقلة بالاستناد إلى  العلاقات القائمة بين مكوناته، لكنه قد يلجأ إلى الاستعانة بعناصر خارجية لكنه يعمل على استيعابها لتصير جزءا أساسيا من بناءه الداخلي. ومثال ذلك قدرة الخطاب على احتواء أنماط مختلفة من السلط مثل: السلطة السياسية والسلطة الدينية والسلطة المعرفية.

       3- أن الخطاب، برغم ما يتمتع به من قدرات وما يتميز به من خصوصيات، مرهون بالصيرورة الاجتماعية لأنه جزء منها وفاعل فيها. فهو يندرج ضمن علاقات واقعية، سياسية واجتماعية، وهذا الانتماء الواقعي هو الذي يحدد بنيته وأدواته ونظامه الداخلي ويتحكم في أهدافه ومقاصده.

       4- أن مرجعية الخطاب وصدقيته لا تستمد من انسجامه المنطقي أو احترامه لقواعد البناء النحوي ولا من الذات أو إلى المؤسسة التي تنتجه بل يستمد أساسا من الممارسة الخطابية أو غير الخطابية المبنية على أساس العلاقة التبادلية. فليس الخطاب بناء مثاليا بل تعبير واقعي عن العلاقات داخل المجتمع. 


[1]ـ الزواوي بغوره، مرجع سابق، ص8.

[2]ـ الزواوي بغوره، نفس المرجع، ص8.

[3]–  Foucault, Michel; La volonté de Savoir, Ed. Gallimard, 1976. p133.

[4]ـ الزواوي بغوره، نفسه، ص38.

[5]ـ ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، 2007، الطبعة الثانية،  ص4.

[6] ـ الزواوي بغوره، نفسه، ص38.

[7]– Foucault, Michel; La volonté de Savoir; Op. Cité ; p23.

[8] – Foucault, Michel; L’ordre du discours; Paris, Ed. Gallimard, 1971. P39. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق