المقالات

الجويني وكارل شميث وسؤال النازية (إبراهيم هلال)_3_

الاستثناء بين شميت والجويني

لم يكن انتماء شميت، المفكّر الفذّ وأحد أهم وألمع العقول القانونية الألمانية في القرن العشرين، إلى الحزب النازي حدثا عابرا أو مجرد حُمَّى وصولية وانتهازية أصابته، بل كان التقاء فكريا خالصا وجد فيه شميت تعبيرا عن مذهبه السياسي الذي ظل يبنيه لعقد من الزمان، فلم يرَ شميت في هتلر “ديكتاتورا مصابا بهوس السلطة”، بل تعبيرا عن منظومة من الأفكار سادت ألمانيا ووسط أوروبا طيلة قرون سابقة، وفق شميت جاء هتلر ليكون تجسيدا للروح الأوروبية بعد أن انكشف مدى هشاشة القيم الأخلاقية التي آمن بها الأوروبيون تحت تأثير الليبرالية.

بدأت هذه الأزمة التي احتلت جزءا كبيرا من الفكر الأوروبي الحديث في التبلور منذ عصر “نيتشه”، وأعاد الفيلسوف والمؤرخ الألماني “أوسفالد شبِنغلر” تقديمها لجيل ما بعد الحرب العالمية الأولى في كتابه “تدهور الغرب”، إذ أكد في كتابه نظرة نيتشه التي تقول بأن “جميع القيم الغربية التقليدية: الدينية والأخلاقية والسياسية قد فقدت صحتها، ومن ثَم دعم الرأي القائل بأن جميع البدائل عن النظام العالمي الموروث لا بد لها أن تكون راديكالية حتى تصبح بدائل حقيقية”، وبذلك هَوَت جميع القيم في مقابل قيمة وحيدة، هي الحياة بحقيقتها الحيوانية ولذَّاتها الغريزية، ومن هنا ظهرت في أوروبا الفلسفة الوجودية بوصفها الفلسفة الأنجح في إضفاء صورة منطقية للحياة وقيمها وقراراتها التي ينبغي أن تنبع من العدم، دون اعتبار لمعايير أخلاقية أو ثقافية سائدة، وبذلك تتحقق الأصالة الوحيدة الممكنة للحياة.(7)

أصبح جوهر فلسفة الحياة قائما إذن على تلك القرارات اليومية التي لا تستند إلى أي مبرر عقلاني، فكيف يمكن أن تنتظم الحياة السياسية في تلك الحالة؟ حاول شميت في بناء أطروحته التوفيق بين مذهب “القرارية” المبني على الفلسفة الوجودية، والذي يعتمد على اتخاذ القرارات دون الاستناد إلى معايير اخلاقية أو قانونية أو ثقافية أو حتى عقلانية، وبين “فلسفة النظام العملية”، أي الالتزام بالحفاظ على النظام القائم مهما كانت العواقب(7)، ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذين الاتجاهين المتناقضين؟ للإجابة عن هذا السؤال وضع شميت أطروحته حول “اللاهوت السياسي” وحالة الاستثناء، فلا يمكن الخلاص من حالة الهشاشة والنفاق التي تتجلى في المؤسسات الليبرالية إلا بدولة “الزعيم المُخلِّص”، ذلك الزعيم الذي يستطيع أن يُعبِّر عن جوهر السيادة عبر حالة الاستثناء المعتمدة فقط على وجوده.

على النقيض أتت حالات الاستثناء عند الجويني تجسيدا، لا لإرادة الإمام المطلقة، بل في الحقيقة لغياب الإمام الذي اعتبر الجويني أن وظيفته حراسة نظام التعددية العقلانية والسياسية، وقد عالج الجويني في كتابه حالات الاستثناء التي يسببها غياب الإمام في مجتمع إسلامي متعدد، ففي الحالة الأولى يقع استثناء يوجب على الناس اتباع مجتهدي المذاهب بحيث يهدون الناس إلى العدالة، ولكن ماذا يحدث في حالة خلو المجتمع الإسلامي من المجتهدين؟ في تلك الحالة الثانية يذهب الجويني إلى ضرورة اعتماد الناس على أئمة المذاهب ممن لديهم قدرة الاطلاع على المراجع الكافية فيجدون بها ما يقدرون به على معالجة الواقع، أما الحالة الثالثة فهي حالة يغيب فيها حتى أئمة المذاهب وفقهاؤه، وفي تلك الحالة ينصح الجويني الناس باتباع مقاصد الشريعة إلى جانب استخدام القواعد الأساسية للاستنباط الفقهي، ثم يتناول الجويني الحالة الرابعة، حيث لا يوجد حتى إدراك عند الناس لأصول الشريعة، بل يغيب عنهم كل ما يتعلق بالفهم السليم للإسلام، ويقول الجويني إنه ينبغي على الناس في تلك الحالة استخدام حِسِّهم العقلاني للوصول إلى الحقيقة.(8)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق