المقالات

التحولات الجيوسياسية لفيروس كورونا وتآكل النيوليبرالية -محمد الشرقاوي_ج 1_

ينبغي على المرء أن يستحضر المسافة بين الخيال والواقع. ومع ذلك، يقول عدد من مراقبي السياسة الصينية والمسؤولين العسكريين الغربيين: إن هناك صلة قوية بين انتشار فيروس كورونا والأبحاث الأخيرة التي أجريت في معهد ووهان لعلم الفيروسات في الصين.

في مبادرة رمزية تنمُّ عن مغزى مثير، هبطت طائرة صينية في روما، عاصمة إيطاليا، التي أصحبت عين العاصفة أو مركز أوروبا لانتشار فيروس كورونا، في الثاني عشر من مارس/آذار 2020، وعلى متنها تسعة خبراء في مجال الصحة العامة و31 طنًا من الإمدادات الطبية بما فيها وحدة العناية المركزة، ومعدات الحماية الطبية، والأدوية المضادة للفيروسات. في الوقت ذاته، عرض رجل الأعمال الصيني جاك ما، مؤسِّس مجموعة علي بابا، التبرع بتقديم 500 ألف وحدة لاختبار الإصابة بفيروس كورونا ومليون كمامة طبية للولايات المتحدة التي أعلنت حالة طوارئ عامة بسبب تفشي الوباء في الأسبوع الثاني من شهر مارس/آذار. كانت الصين بمثابة “ورشة العالم” خلال العقود الثلاثة الماضية لكونها وفَّرت ربع المصنوعات في العالم، كما يقول أستاذ الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل بول كروجمان (Paul Krugman). واليوم تنصِّب الصين نفسها الطبيب ومختبر الصحة العامة بالنسبة للغرب. لأكثر من شهرين الآن، تشير الجهود المتعثرة لاحتواء وباء كورونا في أوروبا ومناطق أخرى إلى الحاجة لتحوُّل نَسَقِي في إدارة الصحة العامة والاستراتيجيات الاقتصادية والأمن البيولوجي ومراجعة محتملة لليبرالية الجديدة التي تعني ببساطة الرأسمالية المشحونة بالمنشطات.

في وقت سابق من فبراير/شباط، طلب ممثل إيطاليا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، ماوريتسيو ماساري، المساعدة من الأوروبيين عبر مركز تنسيق الاستجابة للطوارئ. وقال: “لقد طلبنا إمدادات المعدات الطبية، وأحالت المفوضية الأوروبية الاستئناف إلى الدول الأعضاء، لكن ذلك لم يلق أي استجابة”(1). يعمل مركز التنسيق كوحدة للأزمات في الاتحاد الأوروبي، ويرصد الكوارث الطبيعية والكوارث التي من صنع الإنسان على مدار الساعة، ويدير حاجة أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي التي لا يمكنها التعامل مع الأزمة بمفردها، ويوجه النداء إلى الدول الأعضاء الأخرى التي يمكنها بعد ذلك التطوع بتقديم المساعدة.

أثار التجاهل الأوروبي لكارثة إيطاليا، وهي في قلب القارة، مشاعر الاستياء بين الإيطاليين الذين شعروا أنهم خُذِلوا من قِبَل الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي عدة مرات، وذلك في أوج هجمة فيروس كورونا وفي ذروة أزمة اللاجئين عام 2015، عندما وصل حوالي 1.7 مليون فرد إلى المناطق الجنوبية للاتحاد الأوروبي. وينطوي تصريح المندوب الإيطالي على مذاق المرارة لغياب التضامن في أوروبا. فهو يقول: “إن أزمة فيروس كورونا شبيهة بأزمة اللاجئين، فالبلدان التي لم تتأثر على الفور ليست في الغالب على استعداد لتقديم المساعدة. ومن الواضح أن لدى هذه الدول تصورات مختلفة بشأن التهديد القائم. نحن نشعر أن فيروس كورونا يمثل تهديدًا عالميًّا وأوروبيًّا يحتاج إلى استجابة أوروبية، لكن الدول الأخرى لا ترى ذلك بهذه الطريقة”(2).

أثار هذا الموقف السلبي في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، حيرة المراقبين السياسيين. وأثار أسئلة جديدة حول الغاية من الاتحاد الذي كان يُنظر إليه في وقت من الأوقات على أنه أكثر تحالف موحَّد وأكثر استراتيجية ما فوق بنية الدولة في العالم. وتلاحظ إليزابيث براو (Elizabeth Brow)، مديرة مشروع الردع الحديث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن دول الاتحاد الأوروبي “بتنازلها المخزي عن المسؤولية، فشلت في تقديم المساعدة الطبية والإمدادات لإيطاليا أثناء تفشي المرض. والآن الصين تملأ ذلك الفراغ”(3).

ويخشى مؤرخو الاقتصاد الأوروبيون من شبح أن تتكرَّر مأساة الموت الأسود (Black Death)، التي اجتاحت القارة في منتصف القرن الرابع عشر وأدت إلى وفاة نسبة الثلث من مجموع السكان. وتسبب هذا الانخفاض في التركيبة السكانية في ندرة العمالة، وزيادة الأجور، والطعن في النظام الإقطاعي في أوروبا آنذاك. كما مهَّد الطريق للثورة الصناعية التي تعرضت في ظلها بريطانيا لاحقًا لوباء “الملك كوليرا” (King Cholera) في 1831-1832 و1848-1849 و1854 و1867. وكان داء السل مسؤولًا أيضًا عن وفاة ثلث الضحايا في بريطانيا بين 1800 و1850. والآن، يعود هذا الكابوس في أذهان الأوروبيين أقوى، لأن الأوبئة تشمل “معادلات عظيمة”، وقد تؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد ليس على النمو الاقتصادي الأوروبي فحسب، بل وأيضًا على الاقتصاد العالمي. وفي الولايات المتحدة، قرَّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة القياسي إلى ما بين صفر و0.25 في المائة (بعد أن تراوح بين 1 و1.25 في المائة في السابق) وشراء 700 مليار دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن في اجتماع طارئ يوم الأحد، وتراجع مؤشر داوجونز الصناعي بمجموع 2250 نقطة عند افتتاح البورصة الاثنين الموالي (16 مارس/آذار) وكاد مسؤولو السوق تعليق التداول.

أدى انتشار فيروس كورونا، أو فيروس كوفيد 19، إلى خمود الحركة وتوقَّف العالم تقريبًا. وأبقى على طائرات الشركات العالمية في الأرض مما يمثل تهديدًا وجوديًا للعديد منها. على سبيل المثال، سيؤدي الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مدة 30 يومًا على معظم الرحلات الجوية من أوروبا إلى أميركا، والذي بدأ سريانه في 14 مارس/آذار، إلى محو 20 مليار دولار، وهي مجموع المكاسب التي حققتها شركات الطيران التي تنقل الركاب عبر المحيط الأطلسي خلال عام 2019. وتتسع الدراما الحقيقية من تصوير مدن الأشباح في أفلام هوليوود إلى حقيقة دول أشباح حقيقية كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا. كما اختارت دول أخرى فرض الحجر الصحي على سكانها. وفي المحصلة النهائية، أصبحنا نعيش في عصر التمييز الفيروسي الافتراضي والمفروض ذاتيًا بين الذات والآخر في سائر البيئات الاجتماعية التي كانت حميمية، ومنها أماكن العمل والتجمعات العامة وحتى الكنائس والمساجد والمعابد.

علَّق الرئيس ترامب على بدايات انتشار الوباء بعبارات معادية للأجانب وقدم ادعاءً غير مسؤول على نطاق واسع للأميركيين بأن فيروس كورونا “سيختفي من ذاته. فقط كونوا هادئين. سوف تختفي…”. ومع ذلك، كشف الوباء الجديد اللثام عن أكثر مظاهر الليبرالية الجديدة تشاؤمًا. في نقاش إذاعي حول “الرأسمالية مقابل فيروس كورونا”، كان التركيز على ما إذا كان النموذج الأميركي الليبرالي الجديد للرأسمالية يجعل الولايات المتحدة واقتصادها غير مناسبين بشكل خاص وغير مؤهلين للتعامل مع أزمة صحية بحجم جائحة كورونا. ويؤكد جيفري ساكس (Jeffery Sachs)، مدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، أنه “ليس لدينا نظام صحي عام. لدينا نظام خاص للربح. لدينا عشرات الملايين من المواطنين الذين ليس لديهم تغطية صحية. ليس لدينا اختبار منهجي. نحن نتدافع، وقد مرت أسابيع مع تكاثر هذا الفيروس وانتشار الوباء في الولايات المتحدة”(4). ولا غرابة أن عام 2020 سيدخل كتب التاريخ كعام لم يكشف عن فشل منظومة الصحة العامة على الصعيد العالمي فحسب، بل يشير أيضًا إلى حقبة ركود جيوسياسي ولحظة سقوط من عل للنظام النيوليبرالي في القرن الجديد. ولا يمكن الآن تقليل مخاطر الصحة العامة غير المتوقعة أو أن تُعزى “لا إلى الفضائل الأخلاقية ولا إلى الحاجة إلى الاستثمارات”، بل “تسلط الأزمة أضواء كاشفة على عيوب هذه الحقبة التي تتسم بقصر النظر ومنحى الاستغلال وأنانية بعض الأفراد”(5).

تتناول هذه الورقة، وهي في جزأين، ما اعتبره تداخل ثلاثية تحولات رئيسية فيما بينها: 1) تحديد سياق انتشار الوباء بين نهاية ديسمبر/كانون الاول 2019 والعشرين من مارس/آذار 2020، 2) ارتباط أو تزامن انتشاره عالميًّا مع عدم استقرار أسواق المال العالمية والانخفاض المفاجئ في أسعار النفط في منتصف مارس/آذار، حيث انخفض خام برنت بنسبة 12.2 في المائة، أو 4.15 دولار وتم تداوله بسعر 29.68 دولار، وهو أدنى مستوى له منذ يناير/كانون الثاني 2016، 3) القلق بشأن مستقبل الرأسمالية النيوليبرالية. ويبحث الجزء الأول في عدد من الثنائيات التي يتم تداولها الآن في المجال العام في جميع أنحاء العالم: هل فيروس كورونا وباء “من صنع الطبيعة” أو “من صنع الإنسان”؟ كيف يمكن للبحث العلمي فرز الحقيقة من الافتراضات المختلفة القائمة على “نظرية المؤامرة” حول السببية “المتعمدة” أو “التلاعب” المحتمل بالفيروس في السياسة الدولية؟ ثمة سؤال أساسي آخر يظل مفتوحًا حول ما إذا كان المجتمع الدولي ونظام الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني بأكملهم قد فكَّروا في أي توازن ممكن بين الردع النووي والتسلح، اللذين يتم السعي إليهما بشدة، والردع الوبائي أو الحد الأدنى من استراتيجية الأمن البيولوجي. تتناول الورقة أيضًا اتجاهًا جديدًا للتوظيف الانتخابي من قبل الرئيس ترامب للوباء أو (Trumpian electioneering)، وسعيه لشراء واحتكار لقاح مضاد لفيروس كورونا تنكب على تطويره حاليًّا شركة أدوية في ألمانيا.  

يبحث الجزء الثاني من الورقة كيف تفرض جائحة كورونا منحى اقتصاديًّا جديدًا يمكن تسميته اقتصاديات الانتشار بالعرض (trickle-across economics)، وليس من أعلى إلى أسفل التي لوَّحت بها أدبيات (trickle-down economics) أو اقتصاد التأثير التنازلي الذي نادى به الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغن، في الثمانينات من القرن الماضي. ويتبين الآن مدى التشابك الاقتصادي السلبي من جراء الجائحة الراهنة. مثلًا في مدينة نيويورك التي تعدُّ المركز السياحي الأكثر رواجًا في العالم، أمر رئيس بلدية المدينة، بيل دي بلاسيو، أصحاب الحانات والمطاعم المحلية بإغلاق أبوابها في مسعى أخير لوقف انتشار فيروس كورونا. وكتب في رسالة وجَّهها إلى مواطنيه في نيويورك في 16 مارس/آذار “يجب أن نرد بعقلية الحرب”. وفي باريس، قال الرئيس إيمانويل ماكرون، في خطاب كئيب النبرة إلى الأمة الفرنسية: “نحن في حالة حرب. نحن لسنا في حالة مواجهة مع جيش آخر أو دولة أخرى. لكن العدو موجود هناك: هو غير مرئي، وصعب الاقتناص، لكنه يحرز تقدمًا”. وقرَّر ماكرون تجنيد الجيش للمساعدة في نقل المرضى إلى المستشفيات.

في البلدان النامية مثل المغرب والفلبين حيث تمثل الزراعة، والسياحة، والتحويلات المالية للعمال في الخارج العمود الفقري للاقتصاد الوطني، هناك مؤشرات قاتمة لبقية عام لن يكون مريحًا، حيث تبدأ العواقب الوخيمة لفيروس كورونا في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز. بشكل عام، تتوقع وكالة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (UNCTAD) أن عدم اليقين الاقتصادي وعدم القدرة على الحركة حاليًّا سيكبِّدان الاقتصاد العالمي تريليون دولار على الأرجح عام 2020.

ويتناول الجزء الثاني من الورقة النظام النيوليبرالي السائد الذي يصحو على ما يبدو على اختبار واقعي في مواجهة فيروس صغير. وتناقش بقية الدراسة مدى الحاجة للعودة إلى البعد الإنساني والأسبقية للمجتمع قبل الاقتصاد والربح في إعادة بناء نظام ديمقراطي اجتماعي منقَّح يكون بمثابة تصحيح حان وقته في حقبة أفول النيوليبرالية على ما يبدو في وجه لعنة فيروس كورونا.(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق