المقالات

حمو النقاري وجهوده المنطقية في الجامعة المغربية(أحمد الفراك)_4_

رابعا: اشتغاله بالمنطق المعاصر

1_ دروس التفكير النقدي[1]

في بحر دراستنا وتكويننا في السلك الثالث في شعبة الفلسفة، وبالضبط بالدراسات العليا في وحدة “مناهج المنطق وتطبيقاتها في العلوم“، اطلعنا مع الأستاذ النقاري على أغلب المدارس المنطقية القديمة منها والمعاصرة، ومن هذه الأخيرة تعرفنا ولأول مرة في تاريخ الجامعة المغربية[2]على جملة مباحث منطقية مخصوصة، نذكر منها تخصصا منطقيا معاصرا غايته إقدار المتعلم على ممارسة الفحص والانتقاد، أي تمكين الطالب من اكتساب جملة من المهارات والقدرات تجعله عارفا ببيئة التدليل وقواعده ومتمكنا من التفاعل مع ما يعرض عليه من عروض تكتسي صبغة تدليلية.

هذا المبحث أو قل هذا الاجتهاد المنطقي المعاصر الذي طور النظر المنطقي وخلَّصه من قيود المنطق التقليدي وحدوده -مشككا في ملاءمته وصورنته وكفايته التدليلية[1]– هو ما عرفناه مع الأستاذ النقاري بعنوان “الفكر النقدي”، وتعرفنا على أعلامه ومسائله وقضاياهالمعاصرة، إلى جانب مباحث منطقية أخرى مثل منطق المفارقات ومنطق تقويم الأدلة والمنطق التطبيقي…

بعدما اطلعنا في السنة الأولى من التكوين على منطق الحوار بوصفه مقدمة للفكر النقدي، وخاصة مسألة الاعتراض على الأدلة بوجهيها الجدلي والتناظري، وتعرفنا على نسقيها الاستنباطي والاستقرائي، انتقلنا في السنة الموالية (1998-1999) إلى التفكير النقدي الذيهو أرقى ضروب المخاطبة العاقلة، بتركيزه على عمليات التدليل (مكوناته وبنيته) في سياقه الطبيعي والواقعي والتواصلي، وهو ما يشترك فيه مع المنطق الطبيعي. بعد حصول الشك في قدرة المنطق الصوري على تقديم نماذج للتفكير تلائم الاحتجاجات الطبيعية وما تتطلبه من تقويم واعتراض نظرا لعجزه عن استيعاب اللغة الطبيعية.

بتعلم التفكير النقدي يتعلم المدلِّل جودة النظر أو قل: جودة التعقل في كيفيات التدليل (نصب الأدلة وتبين قوة الأدلة في الإسناد وفي الملاءمة للمسنَد، وتهيؤ المدلِّل لتقديم الدليل أو الإقلاع عن الاعتقاد…) وكيفيات التعامل مع الخطاب التدليلي، فيمتلك قدرات تعاملية تدليلية تُنجِح تحاوره وتحاججه مع المستقبِل لتدليله، بحيث يصير المدلِّل متمكنا من فحص الاحتجاجات الموجهة إليه ومعالجتها وكشف طبيعة تدليلها وقصود أصحابها.

والغرض من تعليم المنطق عند أصحاب هذا التوجه هو “إثبات مجموعة من القدرات والاستعدادات والتهيؤات التي تعد مفيدة في التحليل النقدي في قضايا الشأن العام وليس فقط في القضايا النظرية والقضايا التقنية المنتمية لتخصصات معرفية محددة.”[2]، فيتسع علم المنطق ليس فقط لقوانين اللزوم وما يتصل بها من تقنين لفعل تقديم الأدلة لإثبات مدلول ما أو لإبطاله، بل لتوجهات جديدة تهتم بمنطق المفارقات والمنطق الطبيعي ومنطق الشبه أو المنطق الغامض والخطابة الجديدة…الخ

لا شك أنه بإتقان استعمال تلك المهارات الفحصية والنقدية المخصوصة نتمكن من تجويد قدرة العقل الاحتجاجية التدليلية، سواء في اتجاه إثبات دعوى معينة أو في اتجاه إبطالها، ناهيك عن فوائد هذا التفكير التربوية والبيداغوجية والأندراغوجية في مختلف أسلاك ومؤسسات التربية والتعليم والتكوين، بعيدا عن أنماط التفكير السفلى من قبيل التفكير السفسطي والتفكير العاطفي والتفكير الإديولوجي. فعندما يسعى المخاِطب أو المدلِّلُ إلى نيل مراده أو تقويم هذه الإرادة، فهو مُعرَّض للاعتراض عليه وطلب إثبات صحة ما يدَّعيه من طرف المخاطَب بالتدليل، فيكون آنذاك مؤمنا بنسبية قوله وإمكان رد دعواه من غيره، وعدم ادعائه الصدق المطلق في أقواله، أي أنه يستحضر دوما بأنه في حاجةٍ إلى تصحيح غلطه إن غلط وقبول نتائج الاعتراض عليه إن ظهرت صحة تدليل خصمه أو بان تهافت تدليله هو.

2 –منطق بول رويال: دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط 1، 2013م

حيث اعتمد النقاري في هذا الكتاب على كتاب الفيلسوفة والمنطقية بول رويال “المنطق أو فن التفكير”، وجماعتها التي تسمى جماعة بور رويال، والتي تُمثّل حلقة من حلقات ردّ المنطق الأرسطي ونقضه في الفكر المسيحي من جهة وخطوة من الخطوات الممهِّدة لوضع قواعد المنطقين الطبيعي والحِجَاجي المعاصرين من جهة أخرى.

اشتغلت مدرسة بور رويال (ق17م) في مجال الاستدلال وفي مجال علم النفس، وجددت النظر فيما يتعلق بسوء النظر والتناظر ووجوه الغلط والتغليط فيهما،حيث ينصب اهتمامها على الجواب عن أسئلة دقيقة، مثل: كيف يُتبيَّنُ المجهول؟ كيف ننتقل من المعلوم إلى غير المعلوم؟ وقبل ذلك كيف نتحقق من علمية المعلوم؟ كيف ننظر وكيف نتفاعل على مستوى النظر ونتناظر عرضا واعتراضا؟ ومتى يكون نظرنا جيداً ومتى يكون رديئاً؟

ويتوخَّى الكتاب الأستاذ النقاري تقريب أجوبة المدرسة على هذه الأسئلة وغيرها، ويُظهر الوقوف على التحرير البور رويالي لمعايير جودة النظر ورداءته، إن في التبين والإبانة أو في العرض والاعتراض…

خاتمة

نخلص في النهاية إلى أن الأستاذ النقاري بذل جهدا كبيرا في تقريب المنطق ومدارسه ونقل إشكالاته ومسائله وقضاياه إلى جيلٍ بكامله في الجامعة المغربية خصوصا والعربية على وجه العموم، تقريباً واعياً بضوابط التقريب وواجبات التعليم، فكان بحق أنموذجا للأستاذ المجد الذي يرقى بنظره إلى التدليل العقلي عندما يهوي الناس في الدعاوى الفكرانية والسفسطية، وهو يحاول باستمرار الاشتغال بعمق وبعيدا عن الأضواء.

وفي الأخير لا أظن أنني استوفيت الموضوع حقه من خلال هذه الكلمات، فالدرس المنطقي في المغرب أوسع مما قيل، والأستاذ النقاري أكبر مما ذُكر، فهو -كما يعرفه الوسط الجامعي أساتذة وطلبة-الزاهد فيها الملتفت عنها، وإنما يُعلِم عنه عِلمه وسيرته، ونحن علينا الاعتراف والتعريف بفضل من سبق وعلمه. وسأعود إلى الموضوع حقا لتوسيعه وإتمامه إن شاء الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق