المقالات

معوقات النهوض – فساد معاني الانسانية في النخب العربية(أبو يعرب المرزوقي)

لا يوجد بلد عربي واحد ليس محمية إما لإسرائيل ولمن يسندها أو لإيران ولمن يسندها. ومع ذلك لا تسمع أي متكلم باسم أي بلد منها إلا ومعه وصفه بـ”العظيمة” وأحيانا بـ”العظمى”. ومهما حاولت أن أفهم القصد بالعظيمة والعظمى لم أجد حتى “عضمة” (بالتونسي بيضة) التي هي أكثر الاشياء هشاشة وتفاهة بل وحقارة.
ويزداد الطين بلة عندما يتكلمون على الشعب “العظيم” في كذب ونفاق لا حد لهما لأن كل عيوب الإنسانية تجمعت في شعوبنا. وما لم نعترف بذلك فلنستسلم لما قاله ابن خلدون في فساد معاني الإنسانية الخمسة التي ذكرها في فصل التربية (6.40) ولنقبل بأنه يستحيل علينا أن ننهض وأن نستعيد دور الأمة.
لن نغادر الأطلال.
وقد ذكر ابن خلدون فساد معاني الإنسانية الخمسة في شعوبنا وهي:
1. ذهاب النشاط وحلول الكسل.
2. الكذب والخبث واختلاف الظاهر عن الباطن.
3. المكر والخديعة الغالبان على الجماعة.
4. فساد الحمية والمدافعة.
5. صيرورة الامة عالة على الغير في الرعاية والحماية.
والنتيجة “كسل النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل والارتكاس والرد أسفل سافلين”.
وطلبي ممن يشكك في وصف ابن خلدون هذه الحال أن يتجول في أي بلد عربي وألا يكتفي بما يسمع من الأقوال بل فليصبر لينظر في ما يرى من الأفعال. ولهذه العلة فما زلت فعلا لا أفهم كلام الناس على العظمة سواء وصف بها البلاد أو العباد. فلا يمكن أن نقبل بمنزلة أوطاننا أذيالا لإيران وإسرائيل ثم نتكلم على العظمة: ما أراه هو الذل ودفع الجزية لترومب ولناتن ياهو وبوتين ولخامينائي.
لا أشك في أن الكثير سيلومني ويزعم أني صرت أقول ما لا يقبل بالتحقير من بلداننا ومن شعوبنا. وهو أمر لا يليق بمن يتكلم على الاستئناف بتفاؤل يتنافى تماما مع ما يصف. لكني لا أعتقد أن الوصفين للوضعية متنافيان بل إن الثاني علته الوعي بالأول الذي هو توعية للخروج منه.
وأعتقد أن الشباب الثائر فهم المسافة بين الأقوال والأفعال.
ولست أتدرق بابن خلدون بل أريد الإشارة إلى أن التشخيص لم ينتظرني أنا ولا غيري من جيلي أو ممن توسط بينه وبيننا.
ما يحيرني هو أن قرونا ستة مرت بينه وبيننا لم يؤثر فيها تشخيصه للأدواء التي ردها إلى عنف التربية وعنف الحكم وهما بعدا السياسة ذات المرجعية المتسامية على الإخلاد إلى الأرض.
ذكرت البارحة المثالين الأبرزين في ما أصف اليوم أعني مصر والسعودية ليس لأن بقية البلاد العربية في حال أفضل بل لأنهما يمثلان القوتين اللتين يمكن اعتبارهما حائزتين على شروط القيادة والريادة لولا ما حل بالنخب من بلادة لم أر لها مثيلا في تاريخ الأمم التي شرعت في النهوض معنا ونجحت باستثنائنا نحن.
من يجهل أن اليابان بدأت نهضتها مع مصر أو حتى بعدها بقليل وأن الصين بدأت نهضتها مع السعودية أو حتى بعدها بقليل وحتى الهند فهي بدأت بعدنا.
فأين نحن وأين هم؟
ولآخذ مثالا أعرفه أكثر من مصر والسعودية: تونس استقلت في نفس تاريخ استقلال ماليزيا. وقد كانت متقدمة عليها كثيرا حينها. فأين هي وأين تونس رغم العنتريات البورقيبية؟
من يستطيع دون أن يكون فعلا كاذبا مقارنة عنتريات بورقيبة والبورقيبيين بأعمال مهاتير والمهاتيريين؟
وهل يمكن لأحد أن ينكر أن أربعين سنة من حكم القذافي تركت ليبيا التي هي بلد قليل السكان كبير الثروة الطبيعية تركتها يبابا وخرابا؟
وهل الجزائر تقدمت؟
وهل العراق إلا محل عفس الملالي ورفسهم؟
وكذلك شأن عرب الشمال والخليج ومصر والسودان وبقية العرب والاكراد في المشرق الكبير والأمازيغ في المغرب الكبير.
لا يمكن أن نفهم ما يجري من دون أن نقبل الوصف الخلدوني للحال. والوعي بالوصف الخلدوني هو الذي اعتبره البداية الصحيحة للاستئناف. فالشباب الذي ثار للحرية والكرامة استرد القيمة الرابعة في كلام ابن خلدون عن فساد معاني الإنسانية في وصفه لئلا نبقى عالة.
وأعود الآن إلى حال النخب الخمس:
فهل نخبة الإرادة لها إرادة حقا؟
وهل نخبة العلم لها علم حقا؟
وهل نخبة القدرة لها قدرة حقا؟
وهل نخبة الذوق لها ذوق حقا؟
وهل نخبة الرؤية لها رؤية حقا؟
أم إن الكل له الاسم دون المسمى أي إن الكل منتحل صفة مثل الـ”د.” المزيفة قبل اسمه عند الكثير من الأكاديميين حتى صار عددهم يوحي بأن العرب في مقدمة الأمم في البحث العلمي؟
رأيت مرة رجلا فاضلا في الكويت إن لم تخني الذاكرة يتصدى للكشف عن الـ”د” المزيفة والعناوين الكاذبة التي ينتحلها بعض الذين قد يصلون إلى أعلى المراتب في جل بلاد العرب ولا من شاف ولا من درى. وما كان ذلك ليكون لو لم يكن الكل “يتستر” على الكل في حفل التلاعب بمصير الشعوب بعقد ضمني لا تفضحني لئلا أفضحك. وهو علة كوننا عالة على غيرنا في كل شؤوننا.
فهل يمكن الكلام على “سيادة” حتى نتكلم على “دولة” ناهيك عن وصفها بـ”العظيمة” أو “العظمى” وأمراؤها أو ملوكها تتلقى الأوامر من صهر ترومب؟ كيف نفهم من يفاخر بالفرعونية ثم يصبح “ذيلا” لمن كانوا عبيدا لهم؟ ما معنى مفاخرة التونسي بقرطاج وبلده يتسول رعاية أحفاد روما وحمايتها؟
هل يوجد أحقر من العراقي الذي يفاخر ببابل وبلده مرتع لمليشيات إيران وشبابه يعتبر تكريما لذاته إذا تسابق في غسل أرجل رعاع الفرس الذين يحتلون بلاده ويزعمون الحج إلى أوكار الحرامية فيها متوهمين الدفاع عن آل البيت التي خربوا بها كل بيوت الله وبلاد المسلمين لأن قصدهم بيت آل شروان.
ولا شيء أكرهه أكثر من العنتريات العربية بجبة فلسطين – وها هي قد صارت من تخريفات رئيسنا الذي يتصور التاريخ ومعه من يحيط به من الطبالين يكتب بالخطب العصماء – إذ يكاد أن يوجه ألتوماتوم للعالم حتى يحقق له رغباته الصبيانية في تحرير فلسطين بالزعيق والنهيق.
ألم يكفنا كذب القوميين ثم كذب الملالي حول فلسطين والقدس؟
ولا يمكن أن افهم حتى حماس عندما تتغنى بالتعاون مع الملالي. فهم يحتلون أضعاف أضعاف ما تحتله إسرائيل من الوطن. أي حفنة تراب منه لا تقل قيمة عن القدس وسيان عندي أن يكون واطئها صهيونيا أو صفويا.
فإذا وجد الفلسطيني عذرا في تبييض وجه مليشيات إيران في جل بلاد العرب بحجة الدفاع عن فلسطين فلا يلومن أحد أحدا إذا تحالف مع إسرائيل خوفا من إيران فيصبح الكل معذورا باسم الحاجة الخاصة بقطره وهو سر سيطرة إيران وإسرائيل على العرب بلعبة متبادلة بينهما لتخويف كل منهما العرب من الثاني وابتزاز الحمقى منهم.
فإذا كان الخلاف بين الجزائر والمغرب الناتج عن تبادل العنتريات بين النخب الفاسدة قد صار سببا في تنافس محموم بينهما لإرضاء صهاينة فرنسا من اجل تأييد مواقفهما في المحافل الدولية فإن المستفيد الوحيد ليس أهل الصحراء ولا الجزائر ولا المغرب بل صهاينة فرنسا وإسرائيل لما لهما من سلطان في الأمم المتحدة وافريقيا.
آمل ألا أقع في ما وقع فيه ابن خلدون من تشاؤم.
آمل أن تكون ثورة الشباب بداية الاستئناف.
آمل ألا تنتكس لأن ما اراه في تونس وخاصة بعد الانتخابات الأخيرة هو أقرب إلى النكوص منه إلى تخطي مرحلة الانتقال الديموقراطي.
عاد الكثير من غثاء السيل الذي يدغدغ الشعبيات والجهل بالمحددات الفعلية لنهوض الأمم.
وقد يعجب بعض المعلقين العرب بما يحدث في تونس. لكن المظاهر خداعة وخداعة جدا.
لم يعد بوسع المرء أن يقول كلاما قابلا للتصديق لأن المتكلم بموضوعية أصبح في ثقافتنا الحالية شبه مستحيل الوجود. فالكل يتهم الكل ولم يعد بالوسع تحديد معايير للحكم حتى بقابلية التصديق فضلا عن التصديق الفعلي. من ينجو من الاتهام بأنه عميل لزيد أو لعمرو وأنه أجير عند هذا أو ذاك؟
وهذا هو قصد ابن خلدون بقوله “بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين”.
بل أكثر من ذلك فالإسقاط في هذه الحالة يؤدي إلى أن الكل يتهم الكل بأنه على هذه الحال فلا يستثني إلا نفسه أو يقيس غيره على نفسه حسب قول ابن خلدون.
وهكذا يصبح من شبه المحال أن تجد الشاهد العدل إذ حتى لو وجد لكان في الوضعية التي صرنا عليها حيث صار أكثر شيء امتناعا هو تصديق الصادق لفرط ندرته. فيكون الاصدق هو الأقرب لأن يعتبر شاهد زور. ومن ثم فيعسر أن تحتكم على حكم عدل في أي شيء وهو معنى “فساد معاني الإنسانية” الخلدوني أي العدمية.
والعدمية هي بالأساس خواء وجودي يعوضه ظهور مبالغ فيه فيكون “الباراتر = الظهور” هو المسيطر في غياب “الآتر = الوجود”. وذلك من سمات خوف الكل من الكل في جماعة العبيد بمقتضى التربية والحكم العنيفين.
لذلك يقول ابن خلدون “خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه”.
أول شيء صدمني عندما زرت المشرق أول مرة كان ما يسمى بالتونسي “التوشحيل” يعني كثرة الكلام المرحب بك حتى تظن أنك في حضرة أخوة لا أعمق منها. ثم تكتشف أنه كلام لا يتجاوز ما تنبس به الشفتان. ليس وراءه شيء مما يفيده لأنه لا يتجاوز الاصوات التي خرج بها بعبارة الجسد الدالة على عكسه.
ثم فسر لي بعض العارفين بالمشرق أن ذلك من علامات الحضارة والرقي في آداب المعاملة التي يعلم الجميع أنهم يتكاذبون في مجاملات لفظية ليس وراءها صدق حتى في النبرة. وأعلم أن ابن خلدون قد كتب فصلا في ذلك مبينا أن أهل المغرب كانوا يتصورون بينهم وبين المشرق اختلافا كيفيا في النباهة طبيعيا.
أي إنهم كانوا أكثر قربا من الطبيعة فتصوروا الحضارة في المشرق دالة على فرق نوعي في الذكاء والنباهة بين بشريتهم وبشرية المغاربة. ففسر ذلك بتقدم حضاري دلل عليه بقدرة المصريين على جعل القردة ترقص وأشبه بالبشر في تدريبها على الرقص. ولعله كان بـ”خبث” يسخر من هذه الفكرة لأنها تدل على الخلط بين عمق الوجود وسطح المظهر.
وفعلا فقد تمشرق المغرب بفضل النشر للنخب وبفضل السياسة والاعلام والملاهي للشعوب. وآمل أن يتمغرب المشرق على أن يكون ذلك بالتمغرب السابق على هذا التأثير القشوري. وليس قصدي المفاضلة بين جناحي الوطن بل بيان فساد معنى التحضر في الحالتين عندما يبقى جلديا. فتراكم القشور لا يعني الحضارة بل يعني البثور.
ما أعلمه هو أن المتحضرين حقا هم الباحثون عن العفوية والبساطة وليس المراكمين للقشور والمبالغين في المظاهر الدالة على فساد الذوق وكثرة التقليد البليد. وفعلا فقد تمشرق المغرب واختنق الجميع تحت زبالة التقاليد البالية.
وأختم بعبارة لنيتشة حول التاريخ المتحفي. فهو دليل على الشيخوخة الحضارية والموت في مقابل التاريخ المعلمي والنقدي.
• فالمعلمي هو التاريخ الذي يعتبر الرموز المبدعة محفزات للمستقبل.
• والنقدي هو التاريخ الذي يزيل الفضلات والقشور التي صارت من البثور المتحفية أعني تراكم القشور الذي يجعل الحضارة مدافن ومقابر كقرطاج في تونس وبابل في العراق وفينيقيا في الشام والفراعنة في مصر. لم يبق منها جميعا إلا المتاحف لزيارة السواح والنكوص إلى البداوة في جل المتحضرين بالقشور والبثور المستوردة.
ففي بداية النهضة العربية تصور باشوات مصر أن الحداثة هي تقليد نبلاء فرنسا ولم يكونوا دارين بأن ما عليه نبلاء فرنسا يمثل التاريخ المتحفي بالمعنى النيتشوي ولم يكونوا هم من حقق الثورة بل البرجوازية التي كانت تبني وتبدع ولم تكن من جنس من وصفهم ابن خلدون كسلى يعيشون كما تعيش الأنعام.
فبناء القصور وقتل البذور لا يمكن أن يبنيا الامم التي تبدع المستقبل لأنها غارقة في الاستبداد والفساد القاتل لثورات الشباب بجعل البلاد صحارى ويباب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق