المقالات

التسامح كبديل أخلاقي لتأسيس مفاهيم كونية مشتركة(إبراهيم القادري بوتشيش)

         1- في مفهوم التسامح :

                يطرح التسامح إشكاليات مرتبطة بمضمونه و تاريخيته وتشابك مفهومه مع مفاهيم الدين والسياسة والأخلاق [1] ، ومع ذلك يمكن تعريفه أنه موقف يتجلى في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة تجاه السلوك والرأي وحرية المعتقد والعقل ، والتعبير والتنوع ، مع ضرورة التعايش والتعاون . ويقف هذا المفهوم في مواجهة ضدية صلبة في وجه مفهوم التعصب ، ففي حين يرتكز المفهوم الأول بما يحمله من قيم الخير في معانيه المبسطة على صفة الصفح والتنازل الطوعي ، يقوم المفهوم الثاني بما يحمله من قيم الشر على الانتقام وحب الذات . وفي حين يقوم التسامح في تجليات معانيه الأولى على مبدأ الحوار الذي يتسع للرأي والرأي الآخر ، يقوم التعصب على مبدأ احتكار الرأي الأوحد ورفض الرأي الآخر [2] .

  والتسامح فضيلة ملازمة للكينونة البشرية والطبيعة الإنسانية ، وهي الأصل والقاعدة ، بينما التعصب والتطرف يمثل الاستثناء[3] . وقد أدرك الإنسان مسألة التسامح واحتاج إليه لتنظيم معاملاته وتسهيل ديمومة علاقاته ، شأنه شأن بقية الفضائل الأخرى كالصدق والأمانة والشجاعة والعفة والكرم [4] . وقد حملت كل الرسائل السماوية فضيلة التسامح ، بل إن كل الأديان كانت تسمى بالحنيفية السمحاء كدليل على التسامح والتواصل والمحبة [5] . وذهب فولتيير إلى تعريف التسامح أنه نتيجة ملازمة لكينونتنا الإنسانية وأن البشر ضعيف ميال للخطأ ، لذلك فإن التسامح يصبح ضرورة متبادلة وقانونا من قوانين الطبيعة [6] .

  وقد ورد تعريف التسامح في نص إعلان مبادئ التسامح الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) الصادر في 16 نوفمبر 1995 ، – وهو اليوم الذي اعتبر يوم التسامح العالمي – أنه (( يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا لأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا )) . وعرّف التسامح أيضا في نفس الإعلان أنه (( اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا )) [7] .

  والحصيلة أن التسامح قيمة أخلاقية وسياسة ودينية وقانونية ، قاعدتها المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان ، وفي مقدمتها التعددية واحترام المعتقد والرأي والعدل القائم على مبدأ الانسجام في الاختلاف ، وتهدف إلى تحقيق السلم والأمن والتقدم الاقتصادي والاجتماعي للأفراد والشعوب [8] .

  بيد أن التسامح لا يعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي الإنسان عن معتقداته . فللتسامح خطوط حمراء  لا يجوز تخطيها ، إذ في الوقت الذي يعطي الحق لكل معبر عن الرأي ، فإنه لا يقف مكتوف الأيدي مع من يتجه في الاتجاه المعاكس أو يسعى لتدمير الأخلاق [9].

2 – الإسلام والغرب وضرورة السعي إلى التسامح :

  منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 ، أصبح القلق والتخوف يسود الأوساط السياسية والثقافية من إمكانية اندلاع صراع بين الإسلام والغرب ، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الإيطالي Silvio Berlusconi     الذي صرّح بأن الأمرسيكون مروعا terrible  إذا اندلعت مواجهة بين الإسلام والغرب ، بل  سيشكل كارثة [10] .

  ولعلّ هذا الرأي ينسجم مع آراء نخبة واسعة من السياسيين والمثقفين في العالم الذين أدركوا استحالة فرض ثقافة أخلاقية نمطية بسبب تنوع الثقافات الإنسانية وخصوصيات المجتمعات المكونة لها ؛ وحسبنا أن التتبع الدقيق لتاريخ البشرية يثبت بأن التنوع والتعدد الثقافي هو الأصل ، وأن التماثل والتطابق هو الشاذ والنادر . ففي إحدى الدراسات الحديثة التي حاولت كشف خريطة التنوع الثقافي على الصعيد العالمي ، تبيّن أن عدد البلدان التي لا تتوفر على تماثل عرقي- ديني ثقافي ولغوي بنسبة 100% لا يتجاوز 10 بلدان من أصل 160 بلدا من البلدان التي تمّ مسحها ميدانيا ، وأن العالم يستعمل 6000 لغة مكتوبة أو شفهية بمتوسط لا يقل عن 26 لغة ولهجة [11] ، مما يعني استحالة عيش العالم على النمطية الأخلاقية الواحدة ، ومن ثم ضرورة رؤية التسامح كمنهج أخلاقي بديل عن النمطية الأخلاقية الغربية ، وهو أمر أصبح يشكل محل اقتناع الفئات المستنيرة في العالمين العربي والغربي على السواء .

  ينهض دليلا على ذلك أن الدعوة إلى ثقافة اللاعنف أصبحت تمثل القاسم المشترك بين العديد من المثقفين ورجال الدين والسياسة والمفكرين ليس في العالم العربي وحده ، بل في العالم برمته ، بغية إنهاء دورات العنف المتكررة ، والدعوة للتسامح في ضوء مراعاة الخصوصيات الذاتية لكل ثقافة ، والتخلي عن موقف الاستعلاء من طرف الثقافة الغربية [12].

  ولاغرو فقد برزت مراكز ثقافية جديدة تدعو إلى تبني التسامح كمنهج أخلاقي ، نسوق من بينها على سبيل المثال المركز الأندلسي لدراسات التسامح و مناهضة العنف في القاهرة [13] ، ومركز الحضارة الأندلسية والتسامح بالرباط [14] ، ومركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان . كما ظهرت مجلات تحمل اسم ” التسامح ” ، كتلك التي يصدرها المركز السالف الذكر [15] ، كذا مجلة ” التسامح ” التي تصدر في سلطنة عمان ، ناهيك عن عقد مؤتمرات وندوات تصب في خانة موضوع التسامح [16] .

   وفي الاتجاه ذاته ، عمل مؤتمر القمة الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة يومي 7 و 8 دسمبر 2005 بحضور 57 من رؤساء الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي ، إلى الدفع بعملية التسامح بين الإسلام والغرب في الاتجاه الصحيح ، فقد أكد البيان الذي تمخض عنه على ضرورة تفعيل دور الحضارات واعتبار الحضارة الإسلامية جزءا من الحضارة العالمية ، وأنها تقوم على مبدأ العدل والخير والتسامح ، ومناهضة كل أشكال التعصب والإقصاء [17] .

  وبالمثل ، وجهت مجموعة من المثقفات السعوديات رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطالبنه بتشريع قانون يمنع الإساءة للأديان [18] .

  ولم يقتصر الأمر على الجانب الإسلامي فحسب ، بل ساهم الجانب الأوروبي بدور ملحوظ في هذا الإتجاه، وحسبنا ما دعا إليه مؤتمر مدينة كوردو الإسبانية في 9 يونيو 2005 من ضرورة محاربة ظاهرة العنف والدعوة إلى التسامح[19] .

  أما المبادرة الغربية التي نعتبرها خطوة هامة لبناء وشائج التسامح بين الإسلام والشعوب المتوسطية ، فهي مبادرة رئيس الحكومة الإسبانية Zapatero لتفعيل الحوار بين الحضارتين معا ، وهي المبادرة التي طرحها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، فتبنتها كمبادرة دولية في 14 يوليوز 2005 . وكان الهدف من هذه المبادرة غرس قيم التسامح والحوار والتحالف بين الغرب والعالم العربي –الاسلامي من أجل دحض مقولة حتمية صراع الحضارات [20].

  وقد انطلق السيد Zapatero في مبادرته من كون إسبانيا مثلث الأرض التي تعايشت فيها الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية في وئام وتسامح لعدة قرون ، مما يعطي لها دورا هاما لإقناع الأطراف المعنية بموضوع التسامح في العالمين العربي-الإسلامي والغربي .

  ومن جهته أيد رئيس الحكومة التركية الطيب أردوغان هذه المبادرة الإنسانية وصرّح لجريدة ” لومند ” الفرنسية في 14 أكتوبر 2005 أن هدف تركيا من الدخول للإتحاد الأوروبي هو إنجاح تحالف الحضارات . كما تبنى كوفي عنان الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة اقتراح Zapatero  فأصبح هذا الإقتراح مبادرة دولية ، وعيّن في 2 سبتمبر 2005 لجنة عليا مؤلفة من 19 شخصية عهد إليها بإعطائه تقريرا في آخر سنة 2005 لتفعيل هذه المبادرة  . وقد عقدت اللجنة أولى اجتماعاتها في ميورقة تحت رئاسة رئيس وزراء إسبانيا من 27 إلى 29 نوفمبر 2005 فصرّح هذا الأخير بما يلي :

(( إن الخلافات التي كانت سائدة بين الإمبراطورية العثمانية والدول المسيحية تحولت إلى شراكات إيجابية ، ويجب أن نضع حدا للتطرف وسوء التفاهم )) [21] .

  وعقد الاجتماع الثاني لهذه اللجنة بالدوحة في فبراير 2006 ، وتلقّت اللجنة دعم رؤساء الدول الأوروبية . وصرّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك بخصوص هذا الاجتماع أن تحالف الحضارات هو مطلب عاجل في الوقت الراهن )) [22] .

  وبعد نشر الصور المسيئة للرسول (ص) ، والتي تعبّر عن أبشع الفضائح الأخلاقية للغرب ، تحركت بعض الأصوات التي تدعو إلى تجنب الإساءة للمسلمين ، فقد سعى الاتجاد الأوروبي مع منظمة المؤتمر الإسلامي لتقديم مشروع حول التسامح الديني ومنع الإساءة للأديان [23] .كما عقد في كونبنهاجن مؤتمر الحوار الذي رعته حكومة الدنمارك ، والذي جمع بين بعض الدعاة المسلمين وعدد من المثقفين ورجال الدين بالدنمارك في محاولة لمحو الآثار المترتبة على خلفية الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) [24] .

  ومن أجل ترسيخ التسامح أيضا أصدرت مجموعة الحكمة بيانا حول ضرورة تعزيز التعاون الثقافي وتحقيق الحوار بين البلدان الأوروبية وبلدان جنوب البحر المتوسط .

  وفي السياق ذاته ، عبّر الأمير البريطاني تشارلز عن الرؤية التسامحية التي يحملها تجاه الإسلام والحضارة الإسلامية ، ففي زيارته الأخيرة لكل من مصر والسعودية ، حاول توصيل رسالة واضحة مفادها أن بلاده معنية بالتسامح ، خاصة بعد ظهور الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول (ص) . وأثناء زيارته للرياض ، ارتدت زوجته كاميلا وهي في رفقته غطاء الرأس دون أن يطالبها أحد بذلك ، معبرة عن احترامها لأخلاقيات العرب والمسلمين .

  والواقع أن الأمير تشارلز يعد نموذجا للتسامح والإعجاب بالحضارة الإسلامية ، فمنذ تسعينات القرن 20، ومن مدينة الرياض ذاتها ، ثمن غاليا دور وإسهامات الحضارة الإسلامية في إثراء رصيد الحضارة والتجربة الإنسانية، لذلك لا عجب أن تكتب صحيفة الشرق الأوسط مقالا تحت عنوان : (( تشارلز أمير التسامح المعجب بالحضارة الإسلامية )) . ومن جملة ما ذكره صاحب المقال : (( على كثرة الألقاب التي تحف بالأمير تشارلز ، يبدو لقب “أمير التسامح والنبل ” ، ولاعتبارات كثيرة هو الأقرب بين ألقاب كثيرة يمكن خلعها على تشالز فيليب )) [25].

  من جهته ، أبان وزير الداخلية و وزير شؤون الإستصلاح الإقتصادي الفرنسي  السيد نيقولا ساركوزي في الدورة التاسعة للقاءات الدولية من أجل السلام المنعقدة في 11 سبتمبر 2005 في مداخلته في هذا الملتقى عن روح تنم عن التسامح ، إذ أكد أنه على ضوء تجربته كوزير سابق للشؤون الدينية ، أنه يعترف بمكانة الإسلام في فرنسا وأنه عمل بكل ما لديه من طاقات لتحظى فرنسا بمجلس تمثيلي للديانة الإسلامية [26] .

  هكذا يبدو أن التسامح أصبح منهجا أخلاقيا مطلوبا من طرف المسلمين والغربيين على السواء ، وإن كانت الملاحظة الدقيقة تبرز أن التسامح عند الغربيين لا يشير صراحة إلى جديتهم في إبعاد نظرة الاستعلاء والإقصاء التي يعاني منها المسلمون ، ولكنها مع ذلك تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح القائل بأن الثقافات مهما اختلفت فإنها لا تتصادم، بل تتكامل و تتشابك ، في حين أن المصالح هي التي تتضارب و تتناقض [27] ، ومن ثم فإن الهدف من هذه المؤتمرات واللقاءات الإسلامية الغربية هدف أخلاقي يتمثل في التوصل في النهاية إلى الاتفاق على صياغة مجموعة متناسقة من القيم العالمية التي تأخذ بعين الاعتبار التنوع الإنساني الخلاق ، في الوقت الذي تسعى فيه إلى التركيز على القواسم المشتركة بين ثقافات العالم برمته [28] ، ولكن ما السبيل لإنجاح هذا التسامح كمنهج أخلاقي بديل لتسلط الغرب وهيمنته على مفاهيم الأخلاق دوليا ؟

  إن الإعتراف المتبادل بين الإسلام والغرب حول الهويات الثقافية والبحث عن أرضية مشتركة بين الأخلاق المكونة للحضارة الإنسانية هو السبيل الأوحد لبناء نظام أخلاقي كوني.

   ولا يخامرنا الشك في أن من أهم المعايير لإنجاح ثقافة التسامح بين الإسلام والغرب الابتعاد عن الاستعلاء ومحاولة الهيمنة وفرض صورة الأخلاق التي يتبناها طرف على الطرف الآخر، والاعتراف به واحترام عاداته وأخلاقه . وفي هذا الصدد سجل المصلح الاجتماعي والديني محمد عبده عندما زار فرنسا إعجابه بالأخلاق الغربية في جانبها الإيجابي والمتمثلة في الصدق مع الذات ، والبعد عن الكذب والرياء . ووصف هذه الجوانب الأخلاقية بأنها تطابق الأخلاقية الإسلامية [29] . كما أن إعجاب الأمير تشارلز بقيم الحضارة الإسلامية يصب في نفس الإتجاه ، لكن هذه الانطباعات الفردية لا تكفي ، بل ينبغي أن تتحول إلى قناعات مجتمعية تقر بمبدأ احترام أخلاق الآخر والاعتراف بخصوصيات كل مجتمع بعيدا عن أي وصاية أو استعلاء  ، لأن الاستعلاء لا يسعى للبحث عن أرضية أخلاقية مشتركة، بل يهدف إلى تعميم مفاهيم الطرف المستعلي وفرضها بأشكال مختلفة ، في حين أن الحوار الأخلاقي لإيجاد أرضية مشتركة يقتضي احترام الآخر ومعرفة قيمه والإصغاء إليه ، والعمل معه بدل الإقصاء والعجرفة [30] .وبالمثل ينبغي إزالة سوء الفهم والخلفيات المسبقة لأي تقارب أخلاقي [31] .

  ولاشك أن الوعي بالذات واحترام الآخر ومعرفة قيمه ، سيكشف عن القاعدة الأخلاقية المشتركة التي يمكن انطلاقا منها بناء نظام كوني جديد ، وتتمثل على الخصوص في الحرية السياسية وحرية المعتقد وحقوق الإنسان بكافة أشكالها ، والقبول بالتنوع الأخلاقي والديموقراطية والمساواة في التعامل الدولي .


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق