المقالات

مشاركة علماء المغرب في تحرير فلسطين من الصليبيين: أبو مدين شعيب الغوث أنموذجا(محمد رفيع)

إن تعلق المغاربة علمائهم وعوامهم بفلسطين عامة وبالقدس خاصة تعلق خاص في قوته وشدته منذ قرون طويلة إلى حد اللحظة، وسيبقى بإذن الله إلى يوم القيامة، وذك راجع إلى جملة روابط، منها:

الرابط العقدي:

يرجع الارتباط العقدي للمغاربة بفلسطين إلى ما حبا الله به أرض فلسطين من ضمها للقدس مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ومصلاه ومعراجه إلى السماوات العلا عند سدرة المنتهى في رحلته الغيبية، والإيمان بهذه الرحلة من عقيدة المسلمين المغاربة، فقد أخبرنا الحق سبحانه بذلك في قوله: ” سبحن الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله” (الإسراء:1)، وهي المحطة التي رتب له فيها صلى الله عليه وسلم اللقاء الجامع بأنبياء الله ورسله السابقين، يؤمهم عليه السلام في صلاة جماعية، في إشارة رمزية قوية إلى قدسية المكان ، ومسؤولية المسلمين الشرعية عن حفظ وحماية بيت المقدس، كما أن أرض فلسطين أرض مباركة تستمد بركتها وقدسيتها من الحقائق الدينية التي أجملها الطاهر بن عاشور في الأمور التالية:[1]

_ المسجد الأقصى من وضع نبي الله إبراهيم عليه السلام.

_ من صلى فيه من الأنبياء كداود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل.

_ حلول عيسى عليه السلام فيه وإعلان دعوته إلى الله فيه وفيما حوله.

_ من دفن فيه من الأنبياء كقبري داود وسليمان حول الأقصى.

_ أعظم هذه الأسباب وأجلها بركة حلول النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيه وإمامته بالأنبياء جميعا هناك في الصلاة في قصة الإسراء والمعراج.

فإذا كانت القدس تستمد بركتها وقدسيتها مما ذكر، فإن أمد هذه البركة يمتد ليشمل خير الدنيا والآخرة مما وعدت به هذه البقعة المقدسة، قال البغوي في تفسير معنى هذه البركة: ” الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ بالأنهار والأشجار والثمار، وقال مجاهد: سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة”[2].

فبركة وقدسية أرض القدس وما حولها من أرض فلسطين والشام لم يكن اختيارا بشريا، وإنما هو اصطفاء رباني لهذه الأرض كما تثبته وتتفق عليه جميع الرسالات السماوية السابقة.

الرابط التعبدي:

            ويتمثل هذا الرابط في انشداد همة المغاربة إلى إتمام رحلتهم التعبدية بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي بشد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، أخذا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى”[3]، بمعنى أن السفر إلى المساجد قصد الصلاة فيها ونيل تمام الفضيلة لا يكون إلا للمساجد المذكورة لخصوصيتها القدسية، وبيان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة “[4].

            وزاد من حرص المغاربة على التعبد في الأقصى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” بيت المقدس أرض المحشر والمنشر! ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره فمن لم يستطع فيهدي له زيتا يسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه فصلى فيه “[5]،

الرابط العلمي:

            يعود الارتباط العلمي للمغاربة بفلسطين إلى ما درجت عليه الأسر المغربية والأندلسية من الحرص على حمل أينائهم على الرحلة العلمية إلى المشرق قصد استكمال تكوينهم العلمي، بحيث من حاد عن هذه السنة نسب إلى التقصير، ونقرأ في سير علمائنا محطات عدة في رحلتهم وعلى رأسها القدس، ومنهم من استقر به المقام هناك لسنوات عالما معلما كالإمام الطرطوشي والإمام أبي بكر بن العربي المعافري، وصاحبنا أبي مدين شعيب الغوث، وغيرهم.

الرباط الجهادي

لعل ما يفسر الهبوب الجماعي للمغاربة عبر التاريخ لخدمة الأقصى وحمايته في ظروف السلم والحرب تشوفهم إلى الانخراط في سلك الطائفة المجاهدة المباركة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ – أي أذى – حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: ((بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِس”[6].

أبو مدين شعيب الغوث قائد المغاربة في الفتح الصلاحي

            ينحدر شعيب بن الحسين الأنصاري الأندلسي (514- 589هـ / أبو مدين الغوث من قرية قطنيانة بإشبيلية؛ إلا أنه غادر الأندلس في طفولته إلى المغرب الأقصى[7]، حيث عبر إلى طنجة ثم مراكش حيث دخل في جربة قاسية بين الأجناد، شد الرحال بعدها إلى فاس[8]، وهناك عكف في مسجدها الجامع يحفظ القرآن ويدرس العلوم الدينية والتصوف، حيث قال: ” لزمت جامعها وتعلمت الوضوء والصلاة”[9].

وكان من أبرز من لازمهم من العلماء وتلقى عنهم فنون المعرفة ابن حرزهم[10]، وأخذ التصوف عن أبي يعزى، الذي كان يقول عنه: ” طالعت أخبار الصالحين من زمن أويس القرني إلى زماننا فما رأيت أعجب من أبي يعزى”[11]، وكان مما يميز أبا مدين رحمه الله أنه كما وصفه أبو عبد الله التميمي الفاسي: ” كثير الأدب، بعيد الغضب، جمع العفة والوقار، وسمة المتقين”[12].  

بداية قصة أبي مدين مع فلسطين

            لعل بداية التحام شيخنا أبي مدين بقضية فلسطين ترجع إلى رحلته إلى الحج والعلم معا كعادة العلماء المغاربة، حيث يسر الله له في هذه الرحلة المباركة أن يفوز بلقاء مميز – ظل يفتخر به في بقية حياته- بالشيخ عبد القادر الجيلاني الذي ارتبط به حتى أخذ عنه الحديث والتصوف[13].

            وعاد أبو مدين من رحلته ضمن الوفد الحجيجي المغربي وهو محمل بأحوال وأهوال  فلسطين، وظل في مستقره ببجاية ينشر العلم، ويذكر ويحرض طلبته وغيرهم على لزوم الدفاع عن فلسطين.

هبة أبي مدين لنجدة فلسطين:

            ما أن وصل نداء استغاثة من صلاح الدين إلى السلطان أبي يعقوب المنصور لتحرير الأقصى وفلسطين من الاحتلال الصليبي حتى كان أبو مدين من أوائل من لبى النداء مع من جلبهم معه من طلبة العلم والمجاهدين، فشاركوا في معركة حطين التي وصفها ابن كثير بقوله: ” كانت أمارة ومقدمة وبشارة لفتح بيت المقدس على عباد الله الصالحين واستنفاذه من أيدي الكافرين”[14]، وهي المعركة الحاسمة التي أبلى فيها المغاربة بقيادة أبي مدين البلاء الحسن، فقد فيها شيخنا أبو مدين ذراعه[15]، فسر صلاح الدين غاية السرور ببلاء المغاربة برا وبحرا، وهو ما جعله يأتمنهم على الأقصى والمدينة، فقال قولته الشهيرة: ” أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة”، ثم أوقف ابن صلاح الدين الملك الصالح نور الدين أبو الحسن علي الأيوبي حارة المغاربة على مصالح طائفة المغاربة المقيمين في القدس إبَّان سلطنته على دمشق (589هـ/1193م – 592هـ/1195م) حين كانت القدس تابعةً له، بُغيةَ تشجيع أهل المغرب العربي على القدوم إلى القدس والإقامة فيها، ومساعدة سكَّانها المغاربة الذين فضّلوا الاستقرار ومجاورة المسجد الأقصى المبارك. ومنذ ذلك التاريخ أخذ هذا المكان من مدينة القدس يُعرف باسم “حارة المغاربة”.[16]

وبقي أبو مدين ومعه عدد من العائلات المغاربية مجاورين بالمسجد الأقصى وخدمة لمدينة القدس من خلال ثلاث واجهات: الأولى الدفاع عن القدس الأمانة، والثانية: جلب عائلات مغاربية للاستقرار بالقدس، وتشييد الزوايا والمدارس، والأوقاف، والثالثة: تعليم أهل القدس من خلال المجالس العلمية التي يعقدها أبو مدين رحمه الله.

نظرا لهذه العلاقة المتينة الراسخة التاريخية بين أهل المغرب وفلسطين، فقد ظلت عددا من العائلات المغربية وفية للعهد مستقرة ببيت المقدس وأكنافها، حتى استولى الصهاينة على المدينة وفلسطين وقتلوا وشردوا فمنهم من في الشتات ومنهم من في غزة، ومنهم من في مخيم اليرموك بسوريا زمنهم من في مخيمات لبنان، ونذكر من تلك العائلات الشهيرة: عائلة المصلوحي، وعائلة العلمي، وعائلة الريفي، وعائلة حبوش، وغيرهم، وما زالت بعض هذه العائلات تبلي البلاء الحسن في العمل الوطني الفلسطيني وفي المقاومة أداء لواجب حفظ أمانة فلسطين.

والحمد لله رب العالمين


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق