المقالات

كورونا والواجب الأخلاقي الكانطي(عز العرب الحكيم بناني)

انتقدت الفيلسوفة التركية الأمريكية شيلا بنحبيب الصرامة الأخلاقية التي حملت كانط على رفض أي استثناء في تطبيق الأمر القطعي. اذا كان من الواجب على المرء أن يلتزم بالصدق، لن يوجد مبرر يجيز اللجوء إلى كذبة بيضاء، حتى ولو كان القصد نبيلا. فالأمر القطعي لا يقبل الاستثناء، بما أننا لا نتخيل أن يصبح الكذب قانونا عاما. لا يحق للمرء أن يبحث عن استثناء. مخاطر الكذب كقانون عام يمنع اللجوء إلى الكذب، حتى ولو ظل الكذب فعلا فرديا معزولا. غير أن بينحبيب قدمت مثالا مضادا، قصد ابطال مذهب كانط الاخلاقي. تقول: افترض أننا قمنا جميعا في ساءر التراب الوطني بسحب كل مدخراتنا واموالنا من الأبناك! ما هي نتائج سلوكنا؟ اذا قام جميع المغاربة بسحب كل أموالهم من الابناك في نفس اليوم سيؤدي ذلك إلى انهيار النظام البنكي. وبالمقابل، اذا لم يكن مقبولا أو ممكنا بالنسبة لكل المغاربة ان يسحبوا أموالهم من البنك في نفس اليوم، لا يعني ذلك أنه لا يحق للفرد الواحد أن يسحب أمواله في وقت من الأوقات من البنك. اقدم مثالا آخر للتوضيح، قد تصبح الأعشاب سامة اذا ما استعملت بنسبة عالية في وصفة منزلية، ولكن ذلك لا يمنعنا من استعمال الاعشاب او التوابل بنسبة معقولة أو اللجوء إلى كذبة بيضاء لإنقاذ حياة الإنسان . لا يعني منع الافراط في مادة او سلوك ما تحريم استعمالهما بالكامل.
تذكرت انتقادات بنحبيب الموجهة إلى كانط، و المثال المضاد حينما لاحظت تهافت بعض المواطنين هذا اليوم بلهفة غير طبيعية على المحلات الشرائية وكيف انهم اقبلوا في وقت واحد على اقتناء ما يزيد عن حاجتهم من المواد الاستهلاكية. هنا تذكرت مبدأ الواجب الأخلاقي الكانطي الذي يحظر الخروج عن القاعدة الكلية. قلت مع نفسي : ربما كان كانط على حق ضد بن حبيب! من واجب المرء أن يستهلك بحسب حاجته، حتى لا يحرم باقي مرتادي السوق من قضاء حوائجهم. ولكن عندما يسعى كل واحد منا إلى استثناء نفسه من التزام الاعتدال دون افراط ولا تفريط كما قال ارسطو، يؤدي هذا التخلي عن الواجب إلى افراغ الأسواق من المواد الأساسية والى المساهمة في رفع الأثمنة والاحتكار. واذا استثنى المرء نفسه من واجب الحجر الصحي أو لم يلتزم بالاحتياطات الضرورية، قد يتحول سلوك الواحد إلى وبال على كل المجتمع. استوقفني هذا السلوك مليا، وتساءلت من جديد: يمكننا أن نقبل النقد الذي وجهته بنحبيب إلى كانط كموقف متطرف لم يسمح بأي استثناء. هذا النقد وجيه حينما يظل الاستثناء استثناء بالفعل. ولكن كلما تعاظم هذا الاستثناء ، كما هو موجود عندنا، تقوى في نظري موقف كانط وازداد قوة أكثر ، والغريب أنني تذكرت على التو كيف طبقت تلك الصرامة أحيانا في التاريخ الإسلامي. وهكذا حاولت أن أفهم بعض القواعد الفقهية الصارمة. حاولت ان أنفهم لماذا حول الفقهاء الحديث النبوي “ما أسكر كثيره فقليله حرام” إلى قاعدة شرعية. قد يكون ذلك بحكم الافراط الذي شاع عن العرب في هذه الأمور . فقد تم استنباط حكم شرعي يحظر قبول أي استثناء، ما دام أن الغلو والافراط الذي عرف به العرب لم يجد بديلا آخر له غير التحريم. على نفس النحو، نميل في هذا الظرف الصعب المحيط بداء كورونا إلى التأويل الكانطي الذي يفرض علينا أن نلتزم بالواجب بدون استثناء، سواء في المعاملات او في السلوك المناسب اتجاه المرض، لأن السلوك الخاطء لكل واحد منا ، حتى ولو حسبنا انه فردي ومعزول قد يؤدي إلى خراب الجميع. والمفارقة هي أن نقد السيدة شيلا بنحبيب إلى كانط، بالرغم من أهميته، أبرز أهمية الشكلانية الأخلاقية لأنها تظهر مدى التعظيم الذي كان يكنه كانط للقانون الأخلاقي بداخله. ونحن نحتاج إلى تعظيم القانون الأخلاقي بداخلنا، لأنه ليس قانونا متسلطا، فنحن من نفهم محتواه وطابعه الكوني كذوات حرة وعاقلة ومستقلة، ويستطيع كل واحد منا أن يتوصل إليه تلقائيا. ولكننا غالبا ما ننسى هذه القواعد في لحظة الهلع والاشاعات والهرولة إلى الأسواق وفي بعض اللحظات التي ننسى فيها التعامل بجدية مع قواعد السلامة، مع آن هذه الظروف العصيبة تتطلب منا الالتزام بالواجب الأخلاقي، ما دامت أفعالنا المعزولة قد تفضي إلى نتائج لا تحمد عقباها على الجميع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق