المقالات

كيف ندافع عن الحقوق بدل الدفاع عن الحقيقة الواحدة:(عز العرب لحكيم بناني)

كيف ندافع عن الحقوق بدل الدفاع عن الحقيقة الواحدة:ظهر في السنة الماضية كتابان يشيران في العنوان إلى مفهوم الحقيقة من الزاوية الفلسفيّة. أصدر فولفرام إلينبيرغر Wolfram Ellenberger كتابًا عن نار الحقيقة Feuer der Wahrheit ويبرز فيه التفكير الأصيل في الحرية من خلال نضال فيلسوفتين ألمانيتين وهما حنّة أرنت وإين راند وفيلسوفتين فرنسيّتين وهما سيمون دو بوفوار وسيمون فايل. كما نشر شتيفان كراينر Steffen Greiner سنة 2022 كتابًا ، يحمل عنوان “ديكتاتورية الحقيقة”. (Die Diktatur der Wahrheit, Verlag Tropen )، وهو يستعرض امتداد الحركات الاجتماعيّة الشعبوية داخل ألمانيا خلال القرن العشرين. حمل هؤلاء الأفراد لقب المفكّرين الخارقين Querdenker. كان اللقب الألماني يقال في الأصل على المفكّرين العباقرة، وهو المعنى الإيجابي الأصلي الذي حمله مصطلح Querdenker منذ القرن التّاسع عشر في ألمانيا. إذ كان المبدعون الحقيقيّون في مجملهم غريبي الأطوار، بالمقارنة مع باقي العلماء والمفكرين؛ ولم يكن العلماء العاديون يفهمون ما هو المغزى من وضع علامة استفهام على ما توصلوا إليه من مكتسبات في الفكر والثقافة والفن. غير أنَّ هؤلاء المبدعين الخارقين وغريبي الأطوار Querdenker استطاعوا مع مرور الوقت أن يكتسبوا هالة خاصّة داخل المجتمع، نتيجة قدرتهم على تجاوز نماذج العلم العادي، بعد استثمار روح الابتكار للوصول إلى نتائج علمية أو فنية غير مسبوقة.كان “الفكر الخارق” لدى Querdenker يدُلُّ في الأصل على روح الابتكار لدى الباحثين الذين يؤمنون بقدرتهم على الوصول إلى معارف غير مسبوقة. ثم ظهر نشطاء اجتماعيون اعتبروا أنفسهم مفكرين سياسيّين أو حقوقيّين يزعمون أنهم قد توصلوا وحدهم إلى معرفة الحقيقة التي لا يعرفها غيرهم أو لا يستطيع غيرهم أن يجهر بها. اتخذ الفكر الخارق معنى “الفكر المشاكس” في معنى سلبيّ لا يتجاوز فكرة “إنّا عكسنا” كما هو متداول في اللغة العامية. استعرض كتاب شتيفان كراينر هذه التيارات السياسية في جوهرها على امتداد القرن العشرين، وصولا إلى تغلغلها داخل المجتمع الألماني أثناء مواجهة الحجر الصحي بالمظاهرات ومواجهة الشرطة بالعنف، وبلغ الأمر بهذه التيارات إلى محاولة احتلال البرلمان في برلين، قبل أن يقوم أنصار ترامب بذلك في يناير2022. على سبيل المثال، نعلم اليوم مدى أهمّية التلقيح في حماية الأطفال من الأوبئة الفتاكة؛ لكننا لا زلنا نجد اليوم من يدعو في ألمانيا إلى معارضة تلقيح الأطفال؛ ويعتقد هؤلاء المفكرون أنهم قد توصلوا إلى أفكار “خارقة” كانت معروفة منذ بداية القرن العشرين، ولا يعلمها اليوم حتى علماء الأحياء ولا الأطباء أنفسهم. نجد من بين الأفكار “الخارقة” كذلك رفض الحداثة الغربيّة ونشر فكرة تآمر السياسيّين على الشعب، وانتشار فكرة المؤامرة العالمية ضدَّ الشعوب من طرف رجال السياسة والإعلام. وهذا ما أدّى إلى رفض الدّيمقراطيّة البرلمانيّة والمنظومة القضائية ونعت البرلمان والقضاء بأشنع النّعوت. وقد ظهرت هذه الأفكار في الأصل خلال مرحلة جمهورية فايمار Weimarer Republik (1919/1933) وأوصلت هتلر، أحد المفكرين “الخارقين” إلى السلطة، نتيجة التَّشكيك في الديمقراطيّة و في قدرة النضال بالطرق السلمية والمشروعة على تحقيق المكتسبات الحقوقية. يزعم المفكر “الخارق” أنه قد توصل وحده إلى الحقيقة، بينما يحكم بفساد كلّ المؤسسات وباقي أفراد المجتمع، بما أنّهم لا يؤمنون بالحقيقة الواحدة التي يدعو إليها. يذكر كراينر مثلا كيف أنَّ المفكرين “الخارقين” لا ينتظمون في أحزاب، و لا يستعملون مفردة “الحزب”، ويتحاشون استعمال التّمييز بين اليمين واليسار، بما أنّ كل الأحزاب ملة واحدة، ويميّزون بوضوح بين الحقيقة العليا التي يمتلكونها وحدهم وأنصاف الحقائق التي يتداولها غيرهم. غير أنَّ الحقيقة لا تتخذ في الواقع مظهرا واحدًا ولا يمكن أن نختزل كل الحقائق في مصدر واحد. لا شكَّ في أنَّ القرن العشرين كان بامتياز قرن الدّعوة إلى الحرية نتيجة الحروب الدّامية والأنظمة الفاشية والنازية التي أدّت إلى اندلاعها. وقد فرضت ظروف الحرب على الفلاسفة أن يضعوا أركان المجتمع الحرّ، ولاسيما في ألمانيا خلال حكم النازية والحرب العالمية المدمّرة.غير أننا إذا ما عدنا إلى الفكر “الخارق” نجد لديه مسلمة أنَّ الشعب غيرُ ناضج، وأنَّ الإجماع على بعض القضايا المصيرية مسرحيّة، ولذلك، يحتاج المجتمع إلى مواجهة التنازلات الاجتماعية بعزيمة قوية وبكامل الجرأة في الرأي والتعبير، حتى تحقّق الإرادة ما لم تحققه المؤسّسات (170). والنّتـيجة هي أنَّ الفكر “الخارق” يصدر أحكامًا جاهزةً في حق المجتمع المتآمر على الشعب ويُنصّب نفسه قاضيًا يصدر أحكامه عليه. وقد استطاع الفكر “الخارق” أن يخترق الأمم والمؤسّسات الدولية وأن يمارس تأثيره في أجهزته الرسميّة. فقد ذكر كراينر كيف أنَّ الألمان كانوا مند بداية القرن الثامن عشر قد ابتكروا فكرة اصطفاء الشعب الألماني للحُكم على بقيّة بلاد العالم. ولم تتراجع هذه الفكرة إلا مع ظهور الشعور الوطني واحترام مبدأ سيادة الدّول.ما هو الحل؟ يمكننا أن نتجاوز مصيدة الحقيقة الواحدة التي يمتلكها شخص واحد أو تيار واحد ضدّ كل المجتمع بالعودة إلى مفهوم “الحق”. وهنا نقارن بين الحق والحقيقة. ليست “الحقيقة” موجودًا مادّيا بين الموجودات؛ فلا نقول عنها إنها صغيرة أو كبيرة أو هي واحدة أم متعدّدة، بما أنّها محمول يقال على موضوع من زاوية المنطق، عندما أدّعي أنّ القضية التي أتلفظ بها صادقة أو كاذبة. من يزعم أنّه يدافع عن “الحقيقة” يدافع عن أيّة قضية كانت بالقول إنها تملك صفة الصدق. ولا يكفي أن أثبت صفة الصدق، دون أن أعود إلى التأكد من تحقق شروط الصدق. وعليه، فاللجوء إلى “الحقيقة الواحدة” مجرد زعم يحتاج إلى شروط الفصل بين الصدق والكذب. وعليه، بدل المطالبة بالكشف عن الحقيقة الواحدة، يمكننا أن نعود إلى المجالات المختلفة التي تتطلب تعاون كافة الأطراف الاجتماعية للكشف عن ذات الحقيقة والتأكد من صحتها. وما دام أنَّ الفكر “الخارق” لم يعد يهتم بالعلم، كما كان من قبل، بل أصبح مضمونه شعبويًّا وسياسيًّا، فإنَّ أفضل طريقة للكشف عن الحقائق هو احترام “حقّ” كلّ الأطراف في الكشف عنها لتمييز الحق عن الباطل والصدق عن الكذب، ومن خلال تطوير آليات التحقق والإبطال والتعامل مع الحقوق في صورتها الموحَّدة التي لا تقبل التجزيء. وهكذا، لا نتعامل مع الحقيقة من موقع الحقّ الواحد، بل من موقع مجموع الحقوق التي نسعى إلى تحقيقها، حسب الطريقة المقررة في المواثيق الدولية وفي الآليات الوطنية وفي الفقه. وقد أحسنت حنّة أرنت Arendt Hanna صنعًا، حينما أوضحت الفرق بين ادّعاء الدّفاع عن الحقيقة الواحدة والدّفاع عن الحقوق المتباينة داخل المجتمع، بمناسبة التعليق على سلوك إحدى المثقفات الألمانيات Varngagen Rahel بعد وصول هتلر إلى السلطة: “فقد وجدت لديها صداما بين نوعين من الشجاعة : شجاعة فكر الأنوار التي تدفعها إلى استعمال العقل وإلى أن تتصرف بطريقة مستقلة اعتمادا على ما يمليه عليها عقلها، وشجاعة تفيد أن حرية هذا الاختيار الذاتي تظل مشروطة دوما بالظروف التاريخية والثقافية، وهي الظروف التي لا يستطيع أحد أن ينأى بنفسه عنها. وقد ظهر هذا التوتر بقوة في المرحلة الزمنية التي عاشتها تلك المثقفة بين أحلام تقرير مصير الذات من زاوية تنويرية من جهة ومن زاوية رومانسية من جهة ثانية، متراوحة بين العقل والتاريخ وبين عزة النفس والأحكام المسبقة وبين الفكر والطاعة وبين قدرة الذات على تقرير مصيرها بشكل مستقل وتقرير المصير من خلال الغير.” كتاب: نار الحقيقة Feuer der Wahrheit ص. 48. قد نتفق مع حنة أرنت وقد نختلف معها، لأنّنا نعلم من خلال ردود أفعال الفرنسيين كيف أنّها أصدرت حكما جائرًا في حقّ الثورة الفرنسية وثورة الشباب في فرنسا.غير أنَّ كلامها يظلّ على حقّ في هذه الظروف بعينها، حينما تمتدُّ الشعبويّة داخل المجتمعات الأوروبية والعربية وصولا إلى مراكز اتّخاذ القرار. ولذلك أعتبر أنَّ الدفاع بصورة جماعيّة عن الحقوق الموحّدة غير المتجزئة خير من اختزال الحقوق في حقّ واحد، ولو أنه حقّ مشروع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق