المقالات

كاريكاتور التحليل توقع مآل أمريكا إلى الزوال أو الهزال -أبو يعرب المرزوقي.

   تابعت التعليقات العربية في مشرق الإقليم ومغربه فعجبت لأمرين في نوعي الكاريكاتور التأصيلي والتحديثي:

1-كلاهما يتوقع أن أمريكا ستنهار أو سيضعف دورها في العالم.
2-وكلاهما فرح بانهياره لظنهما أنه لصالح الإنسانية والإقليم.

وسأبدأ بالقول إني لا أعتقد ذلك فأمريكا لن تنهار ولن تضعف وأن انهيارها أو ضعفها اللذين يتمناهما المغفلون ليسا لصالح الإنسانية والاقليم. وليس معنى ذلك أن وجودها وقوتها هما لصالح الإنسانية والاقليم إذا قورن بالمأمول منه لو كان كما ينبغي أن يكون.

لكن من يتكلم على دور أمريكا بالسلب وينتظر من انهيارها أو ضعفها خيرا سواء كان موقفه معبرا عن حقد دفين عند أغبياء الإسلاميين التقليديين أو الحداثيين منهم أو عند اغبياء العلمانيين القوميين أو اليساريين فهو عندي من علامات الحمق واعتبار الأماني حقائق.

فلو كان ما يفسد نظام العالم حاليا هو وجود أمريكا أو قوتها لكان مثل هذا الكلام مقبولا لأن الامر يكون وجود شر وحيد غيابه أو تضاؤله يمكن أن يكون مفيدا للإنسانية بتعديل نظام العالم ومفيدا للإقليم بالحد من تسلط إسرائيل وإيران وعودة الاستعمار الأوروبي من جديد.

فمن يتصورون هذا الغياب مطلقا كان أو نسبيا سيبقي على عالم مسالم ليس فيه شرور أخرى لا بد أن يكونوا إما سذجا ولا يفهمون طبيعة التوازنات التي تحدد نظام العالم أو هم فرحون بما سيلي النظام الذي ليس فيه لأمريكا دور كبير أو صغير.

ففي نظام العالم هذا يعني أن الصين وروسيا وبقية القوى التي تبقى بعد خروج أمريكا منه أو تضاؤل دورها سيكونون ملائكة ولن ينال الإنسانية منهم شرا أكبر وهذا الشر الأكبر هو عندي ليس محتملا فحسب بل هو حتمي.

وفي نظام الاقليم هذا يعني تغول إسرائيل وإيران وبقية القوى التي تنوي الاستحواذ الكلي عليه واستعادة استعماره كما كان قبل تدخل أمريكا بداية من الحرب العالمية الأولى وختما بالثانية التي شاركت في اخراج الامبراطوريات الأوروبية الستة من المستعمرات وأعادتها إلى حجمها الطبيعي بالحد نسبيا من دورها في مستعمراتها.

وأبدأ بنظام الإقليم.
فلكأن العرب مثلا لم يجعلهم خاضعين لإسرائيل وإيران إلا المساعدة الأمريكية لهما وليس لخضوعهم لعلل أعمق هي عين ما عليه العرب من تخلف عقلي وروحي بسبب نكوصهم إلى الجاهلية. لذلك فلا يكفي أن يزول هذا الدور الأمريكي أو يتضاءل حتى يصبحوا سادة لا تسيطر عليهم إيران واسرائيل ومعهما روسيا وأوروبا القديمة.

فعندي أن هذه السيطرات الاربع-إيران وإسرائيل وروسيا وأوروبا القديمة وقد أضيف خامسة وسادسة أي الصين والهند-ستزداد بل وسيصبح الإقليم مرتعا لقوى تتقاسمه وتفتنه أكثر مما هو عليه اٍلآن فيصبح الاستئناف في قلب دار الإسلام مستحيلا.

صحيح أن أمريكا تعطل الاستئناف. لكن تعطيلها يبقى دائما حادا من الفوضى الممكنة والمترتبة على هذه السيطرات الست التي ستتغول بمجرد أن يفقد الدور الامريكي أو يتضاءل. وما يتصوره نوعا الحمقى من الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي فرصة سيكون نكبة ليس بعدها نكبة.

صحيح أن أمريكا عدو ولا تريدنا أن نصبح قوة مستقلة لكنها عدو يبقى في الغاية بحاجة إلينا ضد تغول هؤلاء. وهو إذن مساعد وإن بغير قصد للتعجيل بالاستئناف. فمن دون أمريكا كان يمكن لروسيا مثلا أن تقضي على محاولات تركيا استعادة شروط السيادة الحديثة أي شروط الرعاية والحماية الذاتيتين لعينها على استرداد القسطنطينية.

أما نظام العالم فبين أن الصين والهند في غياب أمريكا كليا أو جزئيا ستصبحان سيدتي نظام العالم. وهو ما يعني أن الإنسانية ستنكص إلى ما قبل “معاني الإنسانية” بلغة ابن خلدون إذ من الحمق التصديق أن الهند ديموقراطية وفيها إلى الآن الأنتوشابل وأن الصين ستحمي حتى القدر الادنى من حقوق الأنسان.

سيقسمان العالم إلى سادة وعبيد بإطلاق أو إلى الطبقات الثابتة الأربعة في أديان الشرق الأقصى التقليدية والهند على وجه الخصوص: فما قاله البيروني فيهم ما يزال صالحا. وهما قد بدآ ليس في شعوبهما فحسب بل وخاصة في علاقتهما بمسلميهما.

لكني مطمئن إلى أمرين:
فأولا كل من يتكلم على انهيار أمريكا أو ضعفها لا يفهم الذهنية الامريكية ويجهل تاريخا وصلابة نظامها. فعندي أن أمريكا ستخرج من هذه الازمة أقوى مما كانت قبلها. ومعنى ذلك أن حقوق الإنسان الامريكي والعنصرية سيقع الحد منهما كما حصل في ما تربت على الحرب الأهلية والتوحيد الذي تلا الانقسام حول تحرير العبيد.

2-وثانيا كل ما يؤدي إلى صحة توقعي ووهاء من يتوقع الانهيار أو الضعف ممن يخلطون بين أمانيهم -مثل حمقى الإيرانيين واليسار والقوميين العرب-أمران: فما يجري ليس حربا بين السود والبيض بل بين العنصريين من الصفين. فجل المتظاهرين من البيض ولسوا من السود وجل المخربين منهما.

فلا يتوقع انهيار أمريكا أو ضعفها أمام الصين أو غيرها يجهل تاريخ أمريكا التي ما تزال في عز قوتها وشباب شعبها. ويجهل كذلك أنها بخلاف الاوهام أقل شعوب العرب عدوانا على الإسلام والمسلمين. فمن خلق إسرائيل هي انجلترا وليست أمريكا ومن ساندها هم السوفيات واوروبا.

وهي لم تسهم في سايكس بيكو ولم تشارك في اسقاط الخلاقة العثمانية. وما أضعف العرب ليس أمريكا بل حمق القوميين العرب الذين اصطفوا مع السوفيات وحاربوا سر قوة الأمة بزعم الاشتراكية التي قضت على شروط النهوض بالدولة الحاضنة للفقر والجهل والأمية العلمية.

فلا يوجد عاقل يدعو لوحدة امة ثم يشرع في حرب الطبقية بدعوى تحقيق الاشتراكية في بلاد متسولة في أدنى شروط القيام. فمصر كانت ألف مرة أفضل مما تركها عليه ناصر وخاصة مما سيترك فيها بلحة إن بقي ما يترك. ولا يمكن تحميل الغرب مسؤولية ما عليه العرب فهم نكصوا إلى معارك الجاهلية.

والشعب الذي انتصر على انجلترا في ثورته وخرج قويا من حرب أهلية مدمرة وانتصر على أزمة 29 وهزم هتلر وساعد ستالين على اخراجه من روسيا وهزم اليابان وأسقط السوفيات لن يعجزه الصينيون بأفسد نظام في العالم والذين لا معنى للإنسان عندهم: فهو النظام الوحيد مع كوريا الشمالية ما يزال يؤمن بالعبودية الشيوعية.

ثم إني أعلم علما دقيقا بقوة هذا النظام ومؤسساته السياسية الجلي منها الخفي:

1-فقد ترجمت بنفسي كتاب وودي هلتون حول معارك كتابة الدستور الأمريكي بعنوان الأمريكيون الجوامح Unruly Americans وهو من أهم ما كتب في الحيوية الفلسفية والدينية في عند النخب الأمريكية التي أسست أكبر ديموقراطية غربية وأكثرها حريات.

2-واشرفت على ترجمة كتاب الرجال الذين اخترعوا الدستور الأمريكيThe Summer of 1787:The Men Who Invented the Constitution لصاحبه داود ستيوارت ترجمة الأستاذين محمد بوهلال ومحفوظ العارم وهو كذلك من أهم اعمال القانون الدستوري في العالم.

وكان ذلك بالصدفة شهرين قبل ثورة الربيع. وفيهما يتجلى قدرة هذه الدولة على الإبداع. ويكفي أنها أخرجت الغرب كله من الكساد في أزمة 29 بالديل وحالت دون انهيار أوروبا بمشروع مارشال. وقد أضيف أنها ساعدت ثورات التحرر بداية من مشروع ولسن من الاستعمار الاوروبي حتى وإن كان الدافع لمصلحة ذاتية.

ثم إن المعركة الجارية حاليا ليست بين طائفتين أو عرقين بل بين موققين قيميين قريبين من الرؤية الإسلامية كما تحددها النساء 1 (الأخوة البشرية) والحجرات 13 (التعارف الذي لا يعترف إلا بتفاضل واحد بين البشر أي احترام القانون الذي يتساوى الجميع أمامه).

وأختم بالاعتذار للقراء الذين يريدون أن يتحرروا من حمقى المحللين العرب المنتسبين إلى كاريكاتوري التأصيل والتحديث: فالتحليل العلمي لا يكون بالتعبير عن المواقف من دون تأسيسها على مقومات موضوع التحليل. فمن يجهل معنى نظام العالم ونظام الاقليم وعوامل قوة أمريكا كلامه خرافة ودلالة على الأماني.

فقد يعتبر موقفي كالعادة من جنس خالف تعرف. لكن توقعاتي السابقة كلها أو لأقل بتواضع جلها أيدتها الأحداث. وذلك سواء في كلامي منذ أكثر من خمسين سنة الذي لم أحد عنه قيد أنملة حول الاستئناف ومستقبل الإسلام في العالم.؟.

فقد توقعت بأن الإسلام والمسلمين عائدون عودة تجعلهم قوة عظمى تسهم في تعديل نظام العالم وأن السوفيات سينقرضون وأن عودة الإسلام لركح التاريخ سيكون أقوى من ذروة قوته السابقة. وبت الآن أكثر وثوقا في ذلك لأن ما يجري حاليا يسرع في حصوله ربما في حياتي.

وبأن انشغالي بالفكر في حضارتنا-بخلاف باعة “الروبا فاكيا” الغربية من أنصاف المثقفين اللاهثين وراء الموضة- كان لبيان أن مآل الحوار بيننا وبين الحضارة الغربية التي تشترك معنا في نفس المرجعيات الفلسفية والدينية سيقنع الجميع بأن مستقبل الإنسانية سيكون عصرا إسلاميا حتما.

وربما سيكون ذلك بفضل دور أمريكا التي مثل هذه الازمة ستأنسنها فتقربها من رؤية الإسلام أكثر حتى من الكثير من العرب الذين نكصوا إلى الجاهلية. ذلك أني واثق أن الغرب سيضطر للحلف معنا لأن بقاءهم قوة مؤثرة بات مستحيلا من دوننا في حالة صدام بينهم وبين الشرق الاقصى الذي اعتبره خطرا على القيم الإنسانية التي يمثلها ارثنا المشترك مع الغرب فلسفيا ودينيا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق