المقالات

في فلسفة التسويات التاريخية(إدريس مقبول)_4_

خصص أفلاطون الجزء الخامس من جمهوريته للكلام عن حراس المدينة وتدريبهم وأدوارهم، وكان مما حذر منه تسمين الجيش على حساب الشعب كما حذر من تحريف وظيفته “الدفاعية” إلى أتون “الارتزاقية” و”الريعية” فقال: “ليس أضر ولا أبعث على الخجل بالنسبة إلى الراعي من أن يربي ويغذي من أجل حماية قطعانه كلابا تدفعهم شراستهم وجوعهم أو أي عادة سيئة أخرى تعودوها إلى التعرض بالأذى للماشية، فيتحولون من كلاب إلى ما يشبه الذئاب.

وإذن فمن الواجب اتخاذ كل التدابير التي تحول دون سلوك حراسنا على هذا النحو إزاء مواطنيهم، بحيث يسيئون استخدام قدرتهم ويغدون سادة شرسين بدلا من أن يكونوا حماة يقظين”.

مهمة الجيش إذن هي الحماية اليقظة للوطن، وولاؤه يجب أن يكون للشعب الذي من جيوبه يأخذ أجوره وللوطن الذي يمنح لقوّته وسلاحه معنى وجوديا كما يقول هيجل، ولا يصلح أن يدخل الجيش في أي تسويات سياسية كيفما كانت، لأنه يفترض أن يكون بعيدا عن عمليات التسييس وأنماط السياسة وتجاذباتها، كما لا يصلح أن يكون طرفا فيها بأي وجه كان، فمهمة الجيش الدفاع عن سيادة الدولة وأراضيها بخوض الحروب والوقوف عند الثغور وحماية الحدود من أي تهديد خارجي، ومن يتصور أن العسكر يمكن أن يكون حاميا لأي طرف كان في دائرة التنافس السياسي فإنه يلعب بالنار ويحكم على الدولة بالخراب والدمار.

الجيش يجب أن يبقى على مسافة واحدة من جميع الألوان السياسية ومن كل الأطياف، وولاؤه لشعبه ولوطنه، مهمته توفير الحماية لما يتجه إليه اختيار الشعب وانتقاله الواعي نحو الديمقراطية، ولهذا كان من الضروري أن يكون خارج أي “استقطابات” أو حسابات سياسية ظرفية وأي تجاذبات بين الحكم وعناصر المعارضة.

لكنه يمكن في حالات انتقالية استثنائية من التاريخ أن يمتد شرف الجيش إذا كانت عقيدته وطنية حقا لتأمين عمليات التصحيح التي تأتي عارمة من أسفل في صورة عصيان مدني أو ثورة شعبية على النخبة الفاسدة حماية لمؤسسات الدولة وممتلكاتها وحقنا للدماء من أن تسيل بسبب عنف أجهزة الأمن الداخلي ممن تتولى قمع التظاهرات والاحتجاجات السلمية.

في الوقت ذاته لا شيء أخطر على مصائر الشعوب وعلى الدولة نفسها  من مراهنة قوى التغيير المدني على انقلابات العسكر أو تقاسم النخب السياسية مع المؤسسة العسكرية دواليب السلطة، لأن القوة المسلحة حينها ستبتلع كل شيء ولن تبني دولة القانون كما أنه لن تُبقي على مساحات حرية التعبير الضرورية للحياة ولن تقبل أي معارضة، بل ستُحول الدولة إلى ضيعة “محروسة” لضباطها وجنرالاتها لا قدرة لأي جهاز على رقابتها أو نقدها.

لا ننسى أن تضخم دور الجيش ووزنه غير الطبيعي في ظل الأوضاع الفاسدة التي يطلق فيها النظام الفاسد يد كبار العسكر لنهب المال العام عبر آليات الريع والامتيازات غير القانونية من شأنه أن يزيد من أطماع المؤسسة العسكرية في المراحل الانتقالية لتضمن لها نصيب الأسد أو “الذئاب” بلغة أفلاطون في “الكعكة السياسية” حماية لمصالحها وتوسيعا لنفوذها، وهو أمر بالغ الضرر على أي تسوية “سلمية” سياسية ممكنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق