المقالات

تقديم كتاب: الخيار النقض-كولونيالي:من فَكّ الارتباط إلى إعادة الوجود(إدريس مقبول)

هو “إضاءة صغيرة” من أجل إنارة عتمة الطريق كما اختار الدكتور يحيى رمضان في إهدائه الشعري لكتابه الأخير.. لكنه فيما يبدو وبخاصة بعد خوض غمار قراءته يتضح أنه أكثر من “إضاءة صغيرة”.. بعد قراءته تقف على “جهد مميز” وعلى “فائدة عظيمة” وعلى “إدراك نوعي” على الانحياز لمدرسة نقاد كبار كطه عبد الرحمن وعلي عزت بيغوفيتش وعبد الوهاب المسيري وغيرهم ممن يجمعهم الاتفاق على نقد مادية الغرب ونزعته الكولونيالية التي أجهزت على المعنى وعلى الإنسان بفعل عمليات الاختزال المتصلة تاريخيا.. كتاب الدكتور يحيى رمضان لا يستغني عنه من يرغب في أن يتعرف على نقد الحداثة من زاوية هادئة ومعرفية رصينة، كما أنه يحمل أفكارا مثيرة عن (كولونيالية المعرفة) وعن التخوم التي تلتقي فيها الجغرافيا بالسياسة بسلطة المعرفة وعن غطرسة نقطة الصفر التي اقترحها كاسترو غوميز…إنه اكتشاف جديد لنوع من الاشتباك الفكري الذي بدأ كمقدمة لمشروع فكري جماعي يقوم على الترجمة بالدرجة الأولى من أجل تقريب (برنامج أبحاث الحداثة/الكولونيالية) الذي أشرف عليه الانثربولوجي الكولمبي أرتور إسكوبار في أمريكا اللاتينية  ليتحول مع عمليات “الحفر الفكري” إلى ما يشبه اندماجا إيجابيا وبنَّاء في تفكيك المركزية الغربية ومساهمة في نقد غطرستها الإيديولوجية أو ما يسميه سانتياغو كاسترو كوميز “خطيئة الغطرسة”.

الكتاب إذن محاولة شجاعة وواعية للتجسير بين العالم العربي في ركوده الحضاري ونمط من الفكر النقدي والإبداعي الواعد الذي نشأ في أحضان أمريكا اللاتينية، وتغذى على تاريخ حركات التحرر في العالم بما فيها العالم العربي، ذلك أن رواد هذا التيار النقدي كانوا كما يبدو من خلال تاريخ تجربتهم أكثر انفتاحا، إذ يستحضرون صاحب النقد المزدوج عبد الكبير الخطيبي كما يستحضرون الجابري وشريعتي وسمير أمين وسيد قطب ومالك بن نبي وغيرهم من مفكري العالم العربي ورواد التحرر فيه فضلا عن استحضارهم لتاريخ المنطقة العربية وبخاصة في الفترات الاستعمارية وأشكال مناهضة الاستعمار.

لقد اختار الدكتور يحيى رمضان في كتابه “الخيار النقض-كولونيالي: من فك الارتباط إلى إعادة الوجود” الانطلاق من الترجمة كجسر للقاء مع الآخر بنوعيه؛ الموافق والمخالف، وطبعا الموافقَة هنا نسبية كما هي المخالفة، وذلك بسبب إيمان صاحب الكتاب بعدم إمكان المطابقة في العالم، فهناك دائما هوامش للاختلاف الضروري حتى مع من نتفق معهم في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولعل حافات الاختلاف هي ما يعطي المعنى للفعل وللموقف وللرؤية..اختار الدكتور يحيى رمضان إذن الترجمة بوعي حاد وانتقائي وحساسية فكرية يقظة أهلته ليقف على إشكال (النسيان) و(الهيمنة) الذي يمكن أن ترسخه وديان الترجمة حين تصبح أحادية الاتجاه، فالكاتب يريد بالترجمة اختراق الجدار ومأسسة الحوار، ولا حوار مع الهيمنة، بل ليس هناك سوى التلقي والخضوع، وفي هذا السياق يتمثل صاحب الكتاب رؤية كل من الفيلسوف طه عبد الرحمن في مساجلته حول موضوع الترجمة وإبداعيتها وقدرتها على التحرر والتحرير ورؤية صاحب نظرية ابستمولوجيا الجنوب بوافينتورا دو سوسا سانتوس في مناداته بعدم تدمير هويات شركاء الترجمة.

الدكتور يحيى رمضان

الحاجة إذن ماسة لما يحفظ “الكرامة الإنسانية” من طريق الترجمة الثقافية التي تعمل على تحقيق التعارف مع فك الارتباط بالآخر المهيمن، أي كسر العلاقة التبعية، لأن الإبداع لا يكون إلا من طريق الحرية..وهنا يستدعي الكاتب رواد النقض الكولونيالي أمثال منيولو وفرناندو أورتيز وريتا سيغاتو غيرهم ممن فككوا منطق الغزو وعمليات التحويل الثقافي للشعوب الأصلية في أمريكا، وفي هذا السياق يبدو الجهد الكبير الذي بذله هذا التيار ويمكن استثماره اليوم في كافة أشكال النقد الثقافي من أجل تعرية عمليات الاستيلاء على (العالم) تحت شعارات التأهيل والتحديث والاندماج في أرض الحداثة وواقعها ورؤيتها.

يخبرنا الكاتب الدكتور يحيى رمضان وهو المتخصص في تحليل الخطاب والمنفتح على حقول معرفية متعددة من خلال قراءة تفحصية وتاريخية نقدية تستحضر حركة الاستعمار عالميا أنه من الثابت أن الترجمة كانت ومنذ أن تشكل نظام العالم الحديث الاستعماري انطلاقا من 1492، كادت تكون أحادية الاتجاه، وتخدم حاجة القائمين على المصفوفة الاستعمارية العالمية التي بدأت تتشكل منذ تلك الفترة، ولم تستطع عمليات الاستقلال التي شهدتها المستعمرات أن تصحح الوضع وتعدل الكفة أو توازن بين الوجهتين، الشيء الذي أدى إلى أن تستمر كولونيالية المعرفة في الاشتغال عبر الترجمة التي كانت أحد الأدوات المهمة لتكريس أسس الحداثة/الكولونيالية ومسلماتها الوهمية وتوسيع فضاء هيمنتها الاستعلائية.

يقف هذا الكتاب المهم عند أهم إسهامات خيار النقض الكولونيالي، وهي بالمناسبة نظريات يعرفها المتخصصون في العلوم الإنسانية والاجتماعية بسبب قوة الجدل الذي أثارته وفرضت نفسها من خلاله حتى في دوائر البحوث الغربية، من ذلك نظرية كولونيالية السلطة لعالم الاجتماع البيروفي أنيبال كيخانو، ونظام العالَم لإيمانويل فالرشتاين، وفلسفة التحرير لإنريك دوسيل، ونظرية التبعية مع بابلو غونزاليس كازانوفا وسلسو فورتادو وسيرجيو باغو وغيرهم ممن انتقدوا وضع البلدان الفقيرة التي تصبح مجبرة على تزويد البلدان الغنية بالمواد الأولية وباليد العاملة الرخيصة، وتصبح مرتهنة لاستعمار لا أخلاقي مزمن يمنعها من كل تقدم ومن كل تنمية حقيقية.

في هذا الكتاب يراهن التيار النقدي كما يحلل الدكتور يحيى رمضان على الانتقال من “فك الارتباط” وهي وضعية أولية إلى ما يسميه أدولفو ألبان أشينتي صاحب فكرة”تصفية استعمار الجماليات” بـ”إعادة الوجود” التي تتجاوز “المقاومة” ورد الفعل، ويقصد بها الأجهزة التي تنشئها المجتمعات وتطورها لابتكار الحياة يوميا، ولتكون لها القدرة على طريقتها لمواجهة الواقع الذي أنشأه مشروع الهيمنة، من أجل الحط من قيمة وجود الشعوب المنحدرة من أصل إفريقي وإسكاته وجعله مرئيا بشكل سلبي..إنه مشروع لإعادة الاعتبار للثقافات المحلية ولجماليات الشعوب وعوالمها المادية والرمزية..وهو جزء أساسي من مشروع كبير لتصفية استعمار الوعي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق