المقالاتغير مصنف

القرآن: اقيانوس الوجود ونظامه(أبو يعرب المرزوقي)

ترجمة الله الذاتية لا تتجاوز ما ذكرناه من أبعادها الخمسة وكل كلام يتجاوزها رجم بالغيب منهي عنه. لكن ترجمة القرآن للإنسان ومحددات سيرته الفكرية والخلقية يعسر ألا يسلم بها إنسان صادق مع نفسه ولا يباكت في ما هو شبه وصف موضوعي لما يمكن اعتباره “المشترك” من صفات الذوات كذوات بشرية. وإذا كانت صفات الله هي ما تسميه أسماؤه الحسنى التي يقبل الله في القرآن يدعى بها وينهى عن الالحاد فيها بمعنى ظنها حقيقة صفاته وعدم فهم أنه ليس كمثله شيء فلا يحق الاثبات ولا النفي فيها فإن صفات الإنسان في القرآن حقائق نعلمها لأنها من عالم الشهادة ولأن كلا منا يدركها مباشرة في ذاته. وعدة صفات الإنسان التي تقبل أن تكون اسماء صفاته تقارب الثلاثين صفة بعضها موجب وبعضها سالب ويمكن أن تقارب من حيث العدد نصف اسماء الله إذا اعتبرنا أسماء الله قابلة لأن تعتبر مسمياتها صفات على الاقل في تصور الإنسان للرب بأسماء صفات تطابق ما يدعوه بها لأنها ما ينتظرها منه رغبة ورهبة. وتنقسم هذه الصفات إلى ما هو مقوم لوجود الإنسان وما هو واصف لسلوكه الناتج عما في مقوماته من نقص كمالات التقويم. فله الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود التي هي عين الكمال في صفات الله لكنها عين ما به يدرك الإنسان نقصه ويعلم أن عيوب سلوكه مرده لإطلاقها لغفلته عن نقصها الفعلي. فكل العيوب التي يتصف بها الإنسان كما وردت في القرآن مردها إلى توهمه أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده لها ما لصفات الله من الإطلاق فيتأله بالمعني الخلدوني ويطغى ولما يتبين له مآل هذا الطغيان يصبح يؤوسا بسبب كونه عجولا وهذه العلاقة السلبية تترتب على الغفلة عن حدود مقوماته. فكل صفاته الموجبة تنقلب إلى عكسها بسبب هذه الغفلة عن حدودها: فالعقل يتعطل بسبب كونه يقتصر على البصر دون البصير وعلى السمع دون السميعة وعلى الشم دون الشميمة وعلى الذوق دون الذويقة وعلى اللمس دون اللميسة أي إنه لا يرى ما وراء ما تدركه الحواس الظاهرة من معان محددة لمنزلته الوجودية. وذلك هو معنى صم بكم عمي فهم لا يعقلون. فهذه العبارة لا تعني أن الإنسان فاقد للحواس بل تعني أنه لا يعقل لأنه يتوقف عند الحواس فلا يرى ما وراءها بالبصيرة ولا يسمع بالسميعة ولا يشم بالشميمة ولا يذوق بالذويقة ولا يلمس باللميسة (قياسا على العلاقة بين البصر والبصيرة وتعميلا لدلالتها). وما لا يفقده الإنسان في هذه الحالة هو ما بيه استأهل منزلة الخلافة التي تجعله يتجاوز الشاهد الذي لا يعلمه حقا إلا بتجاوزه إلى ما بعده دون أن يكون هذا المابعد معلوما لأنه من الغيب: ونحن ندركه بما يتبين لنا من حدود إدراكنا فنرى أن إرادتنا وعلمنا وقدرتنا وحياتنا ووجودنا كلها محدودة. فيكون وعي الإنسان بذاته وبمحدودية صفاتها عين الدليل الاساسي على وجود الله وعلى وحدانيته لأنه لا يمكن أن يشاركه أحد في الكمالات التي بالقياس إليها يكون الإنسان واعيا بمحدوديته وبمحدودية كل المخلوقات فيكون الإيمان المطلق بوحدانية الله على أساس مبدأ “ليس كمثله شيء” وهو عين الشهادة. فعندما أشهد “لا إله إلا الله” كأني قلت لا يوجد من يماثل الله في الاتصاف بمقومات الألوهية التي أدركها بمجرد إدراكي لحدود مقوماتي أي إرادتي وعلمي وقدرتي وحياتي ووجودي. فتكون الشهادة وكأنها اعتراف بإلاهيتي لمألوه لا يضاهيه غيره ولمربوبيتي لرب لا مثيل لربوبيته: صدق وعيي بذاتي شهادة. وبمجرد حصول هذا الوعي الصادق يصبح تصديق الرسول امرا مفروغا منه لأن ما بلغني إياه هو عين ما يوجد في ذاتي وكنت ناسيه فهو يذكرني بما أجده في ذاتي بمجرد وعيي الصادق به. فتكون الشهادة الاولى اساسا للشهادة الثانية وتلك هي معجزة القرآن: لم يكن الخاتم بحاجة لمعجزة اخرى. معجزته هي كون القرآن ليس شيئا آخر غير عرض هذه المعجزة: وعي الإنسان الصادق مع نفسه والمدرك لمقومات وجوده تحديد بين لمنزلته الوجودية ومن ثم فهو يدرك أولا أنه مربوب فيأله الله الواحد ويصدق من يذكره بذلك ولا يدعي له لنفسه سلطان وساطة أو وصاية عليه بل يكتفي بتذكيره بما في كيانه. وهذه هي الدلالة الأولى لمعنى الاستخلاف: فالإنسان خليفة بمعنى أن منزلته الوجودية هي الدليل على وجود الله ووحدانيته الواعي بكونه دليلا لتأتي دلالته من منزلته الوجودية التي هي الموجود ذي الوعي المحدود بالوجود اللامحدود. وما بين المحدود واللامحدود في الموجود هي أساس شهادة الوجود. والدلالة الثانية هي عموم الاستخلاف بمعنى أن الإنسان خليفة حتى عندما لا يشهد بل ينكر. فناكر الحقيقة أيضا دليل عليها بل هو أقوى دليل عند الإنسان لأنه يدعو إلى طلبها. فما من إنسان مهما عميت بصيرته لا يدرك في الإنكار بداية دليل على ضرورة البحث عن علته ودوافع صاحبه فضلا عن مآله. فالحقيقة هي دليل ذاتها وعكسها يكون دليلها ايضا حتى عند الناكر لها: فهو ينكرها بلسانه ولا يستطيع نكرانها بوجدانه لأنه هي عين وجدانه لكونها جوهر كيانه. فمهما تجبر الإنسان وطغا ادعى الالوهية (التأله بالمعنى الخلدوني) فإنه لا يعدم التجارب التي تبين له مدى ضعفه الذي لا يستطيع لها دفعا. فهو يمرض ويفقد من يعز عليه بالموت ويعلم أنه مائت وأنه لا يضاهي الجبال طولا ومهما استغني يمكن أن يفقر ومهما عظم جاهه يمكن أن يأفل ومهما توسع علمه يعلم أنه ما يجهله أكثر مما يعلمه فلا إرادته ولا علمه ولا قدرته ولا حياته ولا وجوده الأمور الثابتة والدائمة بل كلها ناقصة وفانية وبالية. وهبه فسر ذلك كله بكونه من أفاعيل الطبيعة وإنها لكذلك لكن كونها فاعلة وكونه يفسر بفعلها ما ينفعل به لا يرضيه مهما توهم لأنه استسلام في كل الاحوال لما هو دونه قدرة إذ إن الطبيعة ليست واعية بحالها وبفاعليتها وليست كافية لإرضاء عقل الإنسان الذي يشعر بأنه أسمى من كل شيء طبيعي. ولا يوجد عالم عاقل يمكن أن يرضيه الموقف الطبعاني حتى وإن ألحد ولم يؤمن بوجود الله لأنه مضطر في هذه الحالة أن يسقط على الطبيعة ما به يتميز عنها أعني أنها ينبغي ان تكون عاقلة ولا تعمل بالضرورة العمياء لأن ما يحصل حتى فيها فضلا عما فينا ذو نظام أو انتظام متعال على أحداثها. فإذا نسب نظامها إليها جعلها علة ذاتها -كاوزا سوي-فألهها ويكون إلحاده دينا طبيعيا وليس كفرا بالأديان. فالقصد بالديني-على الأقل في الإسلام- هو ما يستدل به القرآن على وجود الله ووحدته أي نظام الطبيعة ونظام التاريخ وقدرة الإنسان على علم الأولى رياضيا تجريبا والثاني خلقيا سياسيا. وبهذا المعنى فكل الفلسفات أديان طبيعية سواء ألحد صاحبها أو لم يلحد. فمن يزعم أن قوانين الطبيعة الرياضية التجريبية وسنن التاريخ الخلقية السياسية موجودة بالفعل وهي بالضرورة غير الطبيعة وغير التاريخ بل هي ما بعدهما الذي يجعلهما يكونان على ما هما عليه يؤمن بما بعد ما. وهذا “المابعدما” يسميه الفلاسفة ما بعد الطبيعة من آمن منهم ومن ألحد بحسب ما يعلل به الحاجة إلى “مابعد ما”. ولا يهم إن كان هذا المابعد محايثا أو مفارقا. فاعتبار قوانين الطبيعة وسنن التاريخ محاثين لا يغير من الأمر فالقرآن لا يولي أهمية لهذه المقابلة: فالله اقرب إلينا من حبل الوريد. والله لا يتحيز والمقابلة بين المفارقة والمحايثة تحييز في المكان. ولا أنفي ذلك عن الله بكلام في الغيب فالقوانين الرياضية والسنن التاريخية معان لا تتحيز هي بدورها حتى وإن كانت قوانين وسنن لظاهرات مادية لها قيام مادي متعين في المكان والزمان. فلا أستطيع إثبات أيا منهما للمعاني أو نفيه. وقد يزعم البعض أن المعاني متحيزة في ذهن الإنسان بمعنى أنها مرسومة في جهازه الدماغي. ولا أنفي أن ذلك يمكن أن يكون كذلك. لكن ما المتعين في الأذهان: هل هي أثر المعاني أم المعاني ذاتها من حيث هي وعي بالنسب بين الأمور التي تصل بينها المعاني وهو معنى قانون الطبيعة وسنة التاريخ؟ فأن يكون جهاز دماغي العصبي أداة للإدراك ليس في ذلك شك. لكن الإدراك غير أدواته. فأنا الآن أكتب هذه المعاني الذي أدركها بذهني وغير سيدركها بذهنه وما بين ذهني وذهنه هو ما أمليه على الكاتب في هذه التغريدات فأين تكون المعاني وهي لا في ذهني ولا في ذهنه بل هي في رسوم الكتابة: ألها ذهن؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق