الحرب الحضارية بين أسئلة الوجود وأسئلة الردع(سلمان بونعمان)
مع كل هجوم صاروخي على تل أبيب، تُطرح أسئلة الوجود لا أسئلة الردع فقط، إذ لا يُستقبل الأمر بوصفه حادثا أمنيا وإنما مؤشرا وجوديا يُهدد بنية المشروع نفسه. فمنذ نشأته، لم يكن الكيان الصهيوني مجرد تعبير عن تطلعات قومية يهودية، بل تجسيداً وظيفياً لمشروع استعماري وحضاري غربي ممتد، يحمل سمات الإحلال والاستيطان والتوسع والهيمنة، ويتغذى على صراعات المنطقة وتفكيك إمكانات نهوضها وكبح مشاريع نهضتها وتوقها للحرية والتحرر والاستقلال.تتجاوز الرؤية الاستراتيجية لإسرائيل حدود الردع العسكري المباشر، لتتبلور في مشروع شامل يقوم على فرض التفوق والسيطرة وإعادة تشكيل المجال الجيوسياسي في المنطقة وفق منطق يخدم مصالح المنظومة الإمبريالية الغربية.ذلك أن “المسيحية الصهيونية” و”الصهيونية الغربية” و”الصهيونية-اليهودية” تستمد قوتها من إضعاف محيطها، وتسعى لفك الحصار السياسي والثقافي والمعنوي عنها لدى شعوب المنطقة، وتفكيك أي قوة عربية أو إسلامية صاعدة محتملة قد تهدد أمنها ووجودها أو أي تجربة تطمح لبناء مشروع حضاري يمتلك قوة علمية أو عسكرية أو استراتيجية تؤهلها مستقبلا للتدافع مع المشروع الحضاري الغربي.
وإذا كانت “إسرائيل” قاعدة استراتيجية متقدمة للغرب الامبريالي في قلب المنطقة، فإن هناك حاجة لقيامها بدور محوري متعدد الأبعاد في المنطقة خصوصا بعد السابع من أكتوبر، يمكن رصده في المستويات الآتية:
_أولا- الحرص على بقاءها قوة فاعلة وذكية تصوغ البيئة الأمنية المحيطة بها على نحو دائم، من خلال ترسيخ تفوق تكنولوجي واستخباراتي غير مسبوق.
_ ثانيا- ضمان استمرارها قوة مهيمنة ومتفوقة في المنطقة تسحق كل من يفكر في بناء قدرات علمية واستراتيجية قد تهدد وجود المشروع الصهيوني وتقف أمام غطرسته وهيمنته الشاملة.
ثالثا- استباق النهوض العربي والإسلامي المحتمل وإجهاض في مهده، مع تفجير الصراعات الطائفية والهوياتية داخل الكيانات العربية والإسلامية في ظل تشجيع سياسات التقسيم والتجزئة وتعميق التوترات؛ لأن المقصد الاستراتيجي الثابت هو استهداف أي تجربة تحرر أو مشروع استقلال تنموي حقيقي في المنطقة.
_رابعا- وظيفة تفكيك القوة الناعمة والمعنوية للشعوب: حيث تعمل إسرائيل، بدعم من بنيات إعلامية وثقافية وأكاديمية ودينية، على إعادة تشكيل الوعي الجمعي العربي والإسلامي لتطبيع وجودها، وتهميش أي سردية تحررية بديلة.
خامسا- وظيفة جدار “صدّ” و”حاجز جيوسياسي” لوقف التمدد الصيني الهادئ، وذلك من أجل ممانعة أي تحول في النظام الدولي نحو تعددية قطبية جديدة. إذ يُنظر إلى وظيفة الكيان -في الاستراتيجيات الأمريكية – بوصفه حالة متقدمة لاحتواء النفوذ الصيني في البحر المتوسط، وقطع خطوط الاتصال بين الصين وإفريقيا، وردع النفوذ الروسي في المتوسط الشرقي.
ومن هنا تصبح وظيفتها الاستراتيجية العالمية مرتبطة بمنع إعادة تشكيل خرائط النفوذ خارج المدار الأمريكي وكبح قيام أي تحالف صيني-روسي-إيراني أو قوى صاعدة غير جولتية، قد تؤثر على مشاريع الكيان ومسار القضية الفلسطينية بشكل إيجابي. وهذا يعني إعادة تأسيس “إسرائيل القطب” التي ستتسيد المنطقة وتخضع الجميع.
لا يمكن فهم السياسات الإسرائيلية إلا ضمن مشروع مركب للهيمنة، يتغذى على التفكك العربي وغياب مشروع نهضوي جامع، ويشتغل بوصفه امتداداً لمنظومة استعمارية حديثة. إن مواجهة هذا المشروع لا يكون عبر موازين القوى العسكرية على أهميتها، بل يتطلب تفكيك بنيتها الرمزية والوظيفية، واستعادة المشروع العلمي النهضوي المقاوم الذي يعرف المنطقة على أسس التحرر والاستقلال والكرامة.
في هذا السياق، لم تعد الصهيونية قوة مادية فحسب، بل منظومة رمزية وثقافية وحضارية تعمل على ضبط التحولات واحتكار السردية وتفكيك المعنى والتلاعب بالعقول وترويض المخيال العربي والإسلامي، والمواجهة معها وإن تبدو في الوقت الحالي عسكرية مباشرة، فإنها في الجوهر معرفية وحضارية حول استعادة الشروط الحضارية للتحرر والنهضة، وتفكيك منظومة الهيمنة من الداخل.