المقالات

الجهاز التأويلي عند الشاطبي(مولاي عمر صوصي)_ج1_

سم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام متلازمين أبدا وسرمدا على خير البرية محمد وعلى آله ومن اقتفى أثره ولف لفه إلى يوم الدين.

يعتبر الاجتهاد في كل حقل معرفي – بل في كل نحلة وملة – الضامن لبقائه أن تغتاله عوائد الزمان والمؤمّن لحياته حتى لا يُتجاوز ويؤول إلى فتور وضمور، وقد وعد الشرع المجتهدين بالأجر الغزير عند الخطأ وضاعفه لهم عند الإصابة تشجيعا وترغيبا لتستمر الشريعة صالحة لكل عصر ومصر، ووعد الحديث النبوي بتجديد الدين وإحيائه حتى لا تندرس علومه وتخبو جذواه في النفوس، لذلك كانت “المعرفة العميقة بالدين هي حارس الدين.”[1] وكان “فهم الخطاب هو عين استمرار هذا الخطاب.”[2]

ومن نافلة القول أن نذكر أن مدار العلوم الإسلامية كلها، كان هو النص المؤسس، وهو القرآن الكريم، من هنا وجب الإقرار، بأن هناك خلفية دينية ساهمت بشكل مباشر، في تشكيل العلوم، وفي تطورها، وفي نموها، وفي ارتقائها من حال إلى آخر… فقد اتجهت كل العلوم نحو القرآن الكريم بيانا واستنباطا واستمدادا وتفسيرا وتأويلا وتوثيقا وتحقيقا وقراءة، حتى نعتت الحضارة الإسلامية بحضارة النص.

بيد أن هذا الإقرار لا يستلزم الانكفاء على هذه الخصوصية الثقافية كما يدعي فريق من الباحثين بدعوى: “أن أسلافنا أثّلوا لنا ما يغنينا ويكفينا”، و”أن الدين قد اكتمل”.

وإنّما-على النّقيض تماما- إلى ضرورة الانفتاح على الكسوب المنهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، واستخدام أدواتها من أجل تفعيل هذه العلوم في واقعنا، فمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية تثمر في واقعنا بقدر ما نمتلك من مقدرة على استيعابها وتقريب أدواتها إلى مجالاتنا التداولية. لأن القرآن في التصور الإسلامي نص يتجاوز المحدد الزماني المكاني الإنساني للحظة التنزيل خطاباً، فهو “للعالمين” و”للناس أجمعين”. وإذ هو كذلك، فإنه لا ينحصر في “المتلقّي على عصر الصحابة رضوان الله عليهم”، بل يتجاوزه إلى “المتلقي الكوني الإنساني”، وخبراته المتمايزة المتجددة، ولا يكون ذلك إلا بالعبور إلى آفاق التجدد التنزلي عبر التجدد التأويلي التفسيري.

من هنا وعلى مستوى المناهج والإجراءات نحتفظ بأصلها العلمي ووظيفتها الإجرائية، لكنّنا نعيد تشغيلها بما لا يتصادم مع أصول مجالنا التداولي، وبما يحقق المقدرة التّوصيفية والتحليلية للمشكلات الاجتماعية والنّفسية والتّربوية، وبهذا نكون قد وصلنا خصوصيتنا الثقافية بمنتجات العلوم المستحدثة على الصّعيد المنهجي والإجرائي، وهذه أيضا دعوى من فريق ثانٍ تردّ قائلة: “الخير ليس حكراً على مَن سلف”، و”الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها”.

انبرت المدرسة الإصلاحية البروتستانتية إلى محاولة تفسير النص المقدس لما سحبت احتكار الفهم من رجال الدين الكاثوليك رافعة شعار: “النص وحده”، ليتوالى الانكباب على فهم النص الديني، والأدبي عمومي، فيما بات يعرف بالهيرمينوطيقا (أو “فن التأويل”) من قبل الفلاسفة والثيولوجيين والنقاد الأدبيين واللسانيين حتى تشكلت مدارس قائمة الأركان على رأسها المدرسة الألمانية وأهم روادها شلايرماخر وديلتاي وهايدجر وغادامير، والمدرسة الإيطالية وأبرز روادها إميلو بيتي وأمبرتو إيكو والمدرسة الفرنسية وعلى رأسها بول ريكور والمدرسة الأمريكية وفي طليعتها تشومسكي، إيمانا منهم أن التفسير والفهم والتأويل ليس رجماً بالغيب أو تقويلاً اعتباطياً للنصوص على وفق هوى المؤوِّل، بل هو نشاط يفتش في مطاوي النص ومبهماته ومشكلاته وفق خطة منهجية ومسلسل من الآليات العقلية والمنطقية والرمزية المدروسة بعلمية.

فتراكمت المعرفة من هؤلاء وتعددت المناهج وبنى اللاحق على نتاج السابق وِفاقا وشقاقا، استيعابا وتجاوزا أو تتميما وتطويرا، حتى صرنا أمام صرح فكري عظيم وعتاد منهجي هائل وعدة منطقية وفلسفية متينة، وهكذا ظهرت الاتجاهات النقدية والتاريخية والوضعية التالية: البنيوية، التفكيكية، السيميائية، الأسلوبية، الألسنية، التاريخانية، الوضعية المنطقية، الفينومينولوجيا …إلخ (هذه النظريات والاتجاهات إن ظهر أني حشرتها مع اختلاف حقولها وأنّ بعضها قام على أنقاض بعض، فلأن القاسم المشترك بينها كان هو همّ البحث عن المعنى والحقيقة).

وانطلاقا من كونية المعارف الإنسانية حاول بعض المستغربين الإفادة من هذه المناهج في قراءة وفهم ونقد التراث الإسلامي ودافعوا بحماس على مشاريعهم “التنويرية” معتبرينها الخلاص لأمة العرب من وهدة التخلف والتبعية، فنجد مثلا محمد عابد الجابري يتبنى البنيوية منهجا، ويرى نصر حامد أبو زيد أن مراجعة الأسس الفكرية للتأويل هي التي ستعيد فتح باب الاجتهاد والقضاء على الأوهام والخرافات، ويمزج محمد أركون بين مناهج متعددة ( المنهج البنيوي الألسني إضافة إلى المنهج النقدي التاريخي والمنهج الأنثروبولوجي وغيرها من المناهج الأخرى) في إطار ما سماه بالإسلاميات التطبيقية.

لكن هذه المشاريع لم تلق ترحيبا عند الجميع بل هي عند البعض دعوات تحتمي بشعار استثمار المناهج الجديدة المستخلصة من اللغويات، ومناهج تحليل الخطاب الجديدة بدعوى قوتها الابستمولوجية، وتماسكها المعرفي، ولأنها بزعمهم تمتلك من القدرات العلمية، والإمكانيات التفسيرية، ما لا تمتلكه المناهج القديمة المخصصة للتفسير، والتأويل، والتي ـــ بتقولهم ـــ أعدمت النص، واغتالته عبر مراهنتها على المعنى الدوغمائي الواحد في النص، ومناصرتها للمعيار الحاكم لهذا المعنى، ومعارضتها للتعدد في المعاني.

نحن إذن أمام إشكالية التفاضل بين المعنى الواحد وتعدد المعنى، فهل الاجتهاد والتفتيش عن معنى النص والخطاب باعتباره واحدا منقصة، أم النقيصة هي تعدد المعاني وغزارتها وبالتالي ضياع المراد من الخطاب التداولي؟

وماهي أهم مرتكزات الفهم الصحيح ومقومات التفسير العلمي الدقيق؟ أم أن غناء التجربة البشرية وتراكم الخبرة التاريخية تمنع من التشرنق على رأي واحد وبُعد متفرد؟

ومع التسليم لمشروعية التأويل – لوجود طائفة تعتبره سبب زيغ العقل الأرثوذكسي – فهل له حدود تعصم صاحبه من الشطح والزلق أم يرسل الحبل على غاربه زيادة في الثراء ودلالة على الخصوبة والغناء؟

تروم ورقتنا البحثية هاته محاولة التصدي لهذه الأسئلة ومثيلاتها عند علم من أعلام البحث عن المراد في الخطاب في ثقافتي الشرق هو الإمام الأصولي الشاطبي[3]، ثم يأتي بعدها علم من أعلام الغرب هو الفيلسوف الناقد بول ريكور[4] ثم استخلاص معالم الوصل والفصل بينهما.

الجهاز التأويلي لدى الشاطبي

    يعتبر الشاطبي إماما مجددا في أصول الفقه، إليه ترجع منقبة إحياء النظر الاجتهادي بتفتيق نظرية المقاصد حتى صارت بدلا له (بالدلالة النحوية)، فلا تذكر مقاصد الشريعة إلا ويذكر الشاطبي والعكس صحيح.

وتأتي نظرية المقاصد عاصمة للعملية التأويلية من قواصم المتنطعين والمتسورين لحمى النصوص الشرعية افتئاتا وتقولا، فهي نظرية شاملة كلية نسقية لا تقبل التعضية ولا السطحية ولا التعمية في التعامل مع الشريعة الغراء اللاحبة الكاملة، عمل الشاطبي ومن اقتفى أثره من أصحاب التأويل المقاصدي على تسييج التأويل بالمقاييس والقواعد التي تمنح مدلوله القيمة المصلحية النافعة للإنسان، نحو: “لا تأويل في النصوص القطعية”، “لا تأويل إلا بدليل”، “لا تعارض للتأويل مع المحافظة على مقاصد الشارع”. إنها قواعد تجعل من التأويل آلية لمعرفة المقاصد الشرعية، وتجعل من الأخيرة (أي مقاصد الشريعة) آلية لضبط التأويل، فالعلاقة بينهما تلازمية تفرض نفسها على أي منهج تركيبي في النظر المصلحي داخل النص الشرعي وارتباطاته بالواقع المتغير لأفعال المكلفين.”[5]

ولما كان أساس هذه النظرية منبنيا على معرفة المقاصد في تخريج مناط الأحكام وتنقيحه وتحقيقه دفعنا ذلك أن نقسم هذا المحور إلى عنصرين وفق القصدين، قصد الشارع وقصد المكلف وما يرتبط بها من ضوابط وقواعد تأويلية، تبعا للشاطبي في تثنيته: “والمقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدهما يرجع إلى قصد الشارع. والآخر يرجع إلى قصد المكلف.”[6]

أولا: قصد الشارع

اشترط الشاطبي على المجتهد في استنطاق النص الشرعي واستكناه أحكامه وحكمه ليكون أهلا لنقلها تعليما للناس وفصلا في منازعاتهم وإرواء لغليلهم في الفتوى والسؤال أن يرقى مرقى سنيا يستشرف من خلاله مواطأة مراد الله ومطابقة قصده، “فإذا بلغ الإنسان مبلغا، فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا، والحكم بما أراد الله.”[7]

ولما كانت “الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل.”[8] وقد عزا الشاطبي مثار الغلط في فهم آيات القرآن الكريم إلى الالتباس الحاصل في التمييز بين إرادة الله الأمرية وإرادته القدرية، “ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة، فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا، وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا، وأثبتها في الأمر مطلقا، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك.”[9]

وقد قسم الشاطبي قصد الشارع إلى أربعة أضرب هي:

1- قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً لمراعاة مصالح العباد في الدارين.

2- قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.

3- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.

4- قصد الشارع في وضع الشريعة لدخول المكلف تحتها.

فاندرجت تحت هذه الأقسام بعض القواعد تساعد المتأمل في النص على حسن الفهم، أذكر منها:

– “تكاليف الشريعة ترجعُ إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية.”[10]

– ” كل تكملة فلها – من حيث هي تكملة – شرط، وهو ألا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها.”[11]

– ” الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل.”[12] وكذلك “المتشابه من الآيات تابع للمحكم منها.”

– ” المصلحة من حيث تعلق الخطاب بها شرعا، إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا.”[13]

– المقاصد لا تنخرم بل هي كلية أبدية: لأن ” الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق.”[14]

– الكف عن تأويل المتشابه الحقيقي[15]: “تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل ، فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي ، أو من الإضافي ، فإن كان من الإضافي ، فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بين العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي ، وما أشبه ذلك ; لأن مجموعهما هو المحكم ، وقد مر بيانه ، وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله، …فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تسور على ما لا يعلم ، وهو غير محمود “[16].

ثانيا: قصد المكلف (المؤوِّل) وحدود تأويله للنص:

ونسطره في القواعد التالية:

– معرفة لسان العرب ومعهودهم في التخاطب: اشترط الشاطبي إلى جانب غيره من الأصوليين والمفسرين[17] والنحاة[18] الرسوخ في معرفة اللغة العربية باعتبارها مرقاة – كما وصفها الغزالي- للوصول إلى مراد الله، “فإن الشريعة عربية ولن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر في الشرع ما لم يكن ريّانا من النحو واللغة”[19]، فهذه ” الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية…” فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه ، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها ، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره ، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه ، وبالعام يراد به الخاص ، والظاهر يراد به غير الظاهر ، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره ، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره ، أو آخره عن أوله ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، والأشياء الكثيرة باسم واحد ، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها”[20]. فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة، إلى حد جعل الناظر يزيد فهمه في الدين طردا وعكسا بقدر تحققه باللسان العربي،  فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية، فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسطا فمتوسط في فهم الشريعة، “فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب.”[21]  “فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة.”[22]

–  مراعاة التكامل بين ظاهر النص وباطنه: من الجوانب المهمة التي عالجها الشاطبي في قضية الظاهر والباطن تحديد طبيعة العلاقة الواجب قيامها بين الظاهر والباطن، لأنه وجد هذه العلاقة عند الباطنية علاقة تعارض وتدابر، فقرر أن العلاقة الشرعية اللازمة بينهما هي علاقة تكامل وتعاضد، وقد ناقش أقوال من أبطل التأويل، من المتوقفين عند حدود ما يقوله اللفظ، الرافضين صرف معناه إلى غير ما يدل عليه ظاهريا ولو بدليل (الاتجاه الظاهري)، مبينا خطورة هذا الاتجاه على معرفة مقاصد الشريعة وعدم صلاحيتها لمواكبة ما استجد في كل عصر ومصر، وأقوال الذين يدعون أن مقصد الشارع ليس في ظواهر النصوص ولا يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطرد هذا في جميع الشريعة، حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشريعة (الاتجاه الباطني) محذرا من هذا المسلك أيضا. وقد خلص إلى أن التأمين الأمثل لتأويل النص الشرعي عموما والنص القرآني خصوصا للقول بالباطن، هو التحاكم إلى ضابطين معياريين: موافقة اللسان العربي ومعرفة قصد الشارع.”[23]

– تقديم الحقيقة على المجاز: ” إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازي إلا على القول بتعميم اللفظ المشترك بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ، وإلا فلا.”[24]

– المدني من القرآن (فرع) ينزل في الفهم على المكي (أصل): ” ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله وأول شاهد على هذا أصل الشريعة.”[25] حتى أنك “إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا لأصل كلي”[26]

– النسخ لم يرد على الكليات مطلقا وفي غيرها يقبل التأويل: “غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه، ومحتملا، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل، أو تخصيصا لعموم، أو تقييدا لمطلق، وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني.”[27]

-لا تعتمد الجزئيات إلا فيما يفتل في حبل الكليات: يعيب الشاطبي على من يرون أنفسهم أهلا للاجتهاد في الدين، فيتجرؤون على أحكامه وشريعته حتى لتجد أحدهم ” آخذا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها”[28]، ” فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها.”[29]

– رد الظني إذا عارض القطعي: “الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال.”[30] ولا يحصل القطع إلا بالاستقراء: “لأن الأدلة السمعية لا تفيد القطع بآحادها، لتوقفها على مقدمات ظنية، وإنما يحصل القطع إذا تكون بمجموعها ما يشبه التواتر المعنوي.”[31] ولا يستقيم الاستنباط والفهم إلا بجمع الضمائم بعضها إلى البعض ووصل الأشباه والنظائر: فـ”لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه…ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: ﴿اعملوا ما شئتم﴾ [فصلت: 40] وتركوا مبينه، وهو قوله: ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله﴾ [التكوير: 29]… وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا بين ذلك، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود.”[32] وذلك لأن الشريعة كالصورة الواحدة (الانسجام): “لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض، ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ [النساء: 82] [33]“،” ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها.”[34]

الأدلة العقلية تابعة للأدلة النقلية: “الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع.”[35] وما لا يعقل معناه -على فرض وجوده- نادر ولا عمل تحته ولا تكليف به: فمثلا “فواتح السور للناس في تفسيرها مقال بناء على أنه مما يعلمه العلماء، وإن قلنا إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة فليس مما يتعلق به تكليف على حال، فإذا خرج عن ذلك خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال فليس مما نحن فيه. وإن سلم فالقسم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر والنادر لا حكم له.”[36] وإذا كان الفهم وسيلة فالانقياد للشارع غايته: إذ “إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتى تكون له أفعالا خارجية لا أمورا ذهنية، بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب، ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل بل الانقياد.”[37]

-الأمور العادية أكثر معقولية من الأمور العبادية: “كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان…وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون، وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره، إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها، لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية.”[38] ذلك أن: “الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني.”[39]

اطراح شرط المعرفة الضرورية بقوانين المنطق والفلسفة: “ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر، لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ، ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك، فلا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية.”[40]

-التجرد من الأهواء والإيديولوجيا والتزام الحياد والموضوعية: “كثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء.”[41] ذلك “أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول، وإن توهم بعض الناس فيها ذلك، لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه كما نصت عليه الآية قوله تعالى: ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾ [آل عمران: 7]”[42].” فليس مقصودهم الاقتباس منها، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك ﴿يقولون آمنا به كل من عند ربنا﴾، فلذلك صاروا محكمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة، لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله.”[43]

– شرط التأويل المستقيم صحة المعنى وقبول اللفظ: “إذا تسلط التأويل على المتشابه فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة: أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين، ويكون اللفظ المؤول قابلا له.”[44]

– مراعاة السياق: يدعو الشاطبي إلى اعتبار السياق بأنواعه فقال في اللغوي: “فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه، فلا يتوصل به إلى مراده”[45] وفي غير اللغوي حاليا ومقاميا اشترط معرفة أسباب التنزيل[46] ذلك أن ” معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران: أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب ، أو المخاطب ، أو الجميع،  إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط،  فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال ، وينشأ عن هذا الوجه : الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات.”[47]

——————————————————

[1] ــ محمد رضا حكيمي، الاجتهاد والتحقيق: ط :1، دار الهادي، بيروت، سنة 2000م. ص:63.

[2] – محمد مجتهد شبستري، مدخل إلى علم الكلام الجديد: ط. الأُولى، دار الهادي ـ بيروت 2000. ص106.

[3] – أبو إسحاق الشاطبي: هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، الفقيه الأصولي، الشهير بالشاطبي، صاحب كتاب الموافقات والاعتصام وغيرهما، وتوفي عام 790 هـ. تنظر ترجمته في شجرة النور الزكية، ونفح الطيب…

[4] – ولد بول ريكور سنة 1913م بفرنسا، عرف بموسوعيته فيلسوفا وناقدا وثيولوجيا، ألف كتبا كثيرة منها صراع التأويلات، الاستعارة الحية، الزمان والسرد، ومن النص إلى الفعل، والمعنى وفائض المعنى، توفي سنة 2005م. تنظر سيرته الذاتية في كتابه صراع التأويلات: ص13 وما بعدها. ترجمة منذر عياشي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، سنة 2005م.

[5] – عبد الرحمن العضراوي، الفكر المقاصدي وتطبيقاته في السياسة الشرعية، الكويت: وزارة الأوقاف، ط1، 2010م. ص115.

[6] – الشاطبي، الموافقات، دار ابن القيم- دار بن عفان، الطبعة 1، سنة 2003، ج2 ص8.

[7] – نفسه، ج5، ص43.

[8] – نفسه، ج2، ص222.

[9] – نفسه، ج3 ص 373.

[10] – نفسه، ج2، ص 17.

[11] – نفسه، ج2، ص26.

[12] – نفسه، ج2، ص 353.

[13] – نفسه، ج2، ص46.

[14] – نفسه، ج2، ص62.

[15] – التأويل يصير عبثيا إن كان خارج حدود العقل البشري: كانط: كتابه: طبيعة الميتافيزيقا، ترجمة كريم متى، بيروت، 1981، ص 146ـــ 156. وينظر سلطة النص عبد الهادي عبد الرحمن، ص 208.

[16] – الموافقات، ج 3، ص 328.

[17] – قال شيخهم الطبري مستندا إلى كلام العرب في بيان معنى الاستواء مثلا: “الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: …” (جامع البيان، ج1، ص276ـ277.)

[18] – استظهر ابن جني لترجيح مذهبه بكلام العرب، فقال: “إذا تعارضا نطقت بالمسموع على ما جاء عليه، ولم تقسه في غيره، وذلك نحو قول الله تعالى‏:‏ ‏﴿استحوذ عليهم الشيطان﴾،‏ فهذا ليس بقياس لكنه لا بد من قبوله، لأنك إنما تنطق بلغتهم وتحتذي في جميع ذلك أمثلتهم‏.‏ ثم إنك من بعد لا تقيس عليه غيره، ألا تراك لا تقول في استقام‏:‏ استقوم، ولا في استباع‏:‏ استبيع.”(الخصائص لابن جني: تعارض السماع والقياس: باب في تعارض السماع والقياس)

[19] – الجويني، البرهان في أصول الفقه، كلية الشريعة، جامعة قطر، ط1، 1399هـ، ج1، ص 169.

[20] – الشاطبي، الموافقات، ج2، ص 101.

[21] – نفسه، ج5، ص 57.

[22] – نفسه، ج3، ص213.

[23] – نفسه، ج3، ص 133.

[24] – نفسه، ج3، ص 249.

[25] – نفسه، ج4، ص 256.

[26] – نفسه، ج3 ص 236.

[27] – نفسه، ج3، ص 341.

[28] – نفسه، ج5، ص 142.

[29] – نفسه، ج3، ص174.

[30] – نفسه، ج3، ص186.

[31] – نفسه، ج1، ص28.

[32] – نفسه، ج3، ص 312.

[33] – نفسه، ج3، ص188.

[34] – الشاطبي، الاعتصام، دار ابن عفان، القاهرة، سنة 1992، ج1، ص311.

[35] – الموافقات، ج1، ص28.

[36] نفسه، ج3، ص212.

[37] – نفسه، ج3، ص219.

[38] – نفسه، ج3، ص235.

[39] – نفسه، ج2، ص 513.

[40] – نفسه، ج5، 419.

[41] – نفسه، ج3، ص281.

[42] – نفسه، ج3، ص213.

[43] – نفسه، ج3، ص290.

[44] -نفسه، ج3، ص330.

[45] – نفسه، ج4، ص 266.

[46] – ينظر كتابي “أسباب النزول وأثرها في توجيه التفسير” مطبعة رحاب، الدار البيضاء، ط1، 2017م.

[47] – نفسه، ج4، ص146.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق