المقالات

أسطورة الأكثر قوة: (عبد السلام ديرار)

إنها الاختلالات المبكرة في “الاقتصادي” و “السياسي” للنموذج الغربي في صيغته الأمريكية، و التي إن هي إلا تمظهرات للارتكاس السريع ل”الاجتماعي” (أو نموذجه) المعلن و المروّج له بضراوة و عبر مؤسسات جبارة (قنوات إعلام عديدة، سينما كاسحة، إيديولوجيون في مختلف أصناف المعرفة  فعليون…) منذ نهاية الحرب الأهلية. فما أبعد المعطيات السابقة، و غيرها كثير مما يقدمه Mills، مشفوعا بحفر عميق، عن الديمقراطية و الليبرالية و كل قيم المجتمع البورجوازي بل هي “ألاعيب” الماقبل الديمقراطية و الماقبل الليبرالية و ما قبل الدولة…، و ما قبل البورجوازية كما تم الترويج لها  وكما تم ترسيخ نموذجها الاجتماعي في مخيال الحشود.

  و بلغة أكثر وضوحا، تكشف الدراسات السوسيولوجية ل  LIord Warner(و هو مؤسس المنهج المسمى بالبحث الامبريقي) أن الوضع الاجتماعي أو الانتماء الطبقي بلغة الماركسية الأكثر وضوحا، بالولايات المتحدة الأمريكية، لا يأتي – كما روّج له – من نظام حكم حيث الثروة متاح صنعها للجميع، و هي مصدر السلطة السياسية (plutocracy)، و يلاحظ (امبريقيا!) حضور نسق للطبقات جد محدد، في قمته أرستقراطية المولد و الثروة، يحضر فيها النسب على امتداد أجيال عديدة، بأسلوب حياة خاص للمجتمع الأعلى. و الأسر الجديدة تطمح إلى وضع الأسر القديمة، و إذا لم يكن الأمر لها، فلأطفالها على الأقل ([1]). هو القديم وقائع حية، و في المخيال أيضا، أي بما يتجاوز بكثير مجرد اختلالات في “الليبرالية” و انحرافات في “الديمقراطية”، و “سهو” للدولة، فالارتكاس بنيوي يخص عمق النسيج الاجتماعي.

  و في  حفره  الأكثر عمقا ، و تحليله الأكثر جرأة  ، ينتهي  عالم  النفس و الاجتماع الأمريكي اليوم William Domhoff (و هو المشهور باستلهامه لروح فكر  Wright Mills)، إلى أنه بالرغم من كون الأساطير لها حياة طويلة! و أن واحدة منها صمدت، تقول أن الاختلاف الاجتماعي الوحيد بالولايات المتحدة الأمريكية، يقوم على “الأكثر قوة”، الورقة الخضراء!، أي أنها تريد أن تقول أنه لا يمكن الانتماء إلى الطبقة العليا إلا للأثرياء (الرجال الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم)، بأذواق و تقاليد عامة، أي سوقية، و الذين لهم ازدراء للتقاليد العائلية و تحسينات الثقافة، و أنه تحت تأثير هذه الكليشيهات ، وقع السوسيولوجيون في فخ جهل وجود نخب تقليدية، لمدة طويلة بالولايات المتحدة الأمريكية، فإن هذه الأسطورة باتت اليوم موضوع سؤال ([2]). و يعلن بكل وضوح أن المجتمع الأمريكي اليوم خاضع لتراتبية صارمة، و أن المتخصصين فنّدوا أسطورة “الرجال الذين يصنعون أنفسهم بأنفسهم”، و أن هذا المجتمع مشكل من شبه طوائف (Strates) متشابكة بعضها مع بعض إلى أعلى مستوى. و أن في أعلى الهرم نفس القلة القليلة من الألف رجل الذين يهيمنون على الغالبية الساحقة من الأبناك و الشركات، و كل واحد منهم محوري (Pivotal) في السياسة الحكومية ([3]). و في كتاباته الأخيرة حول احتكار السلطة و الثروة بأمريكا و التحديات التي تطرحها الشركات و الطبقة المهيمنة أو ما يسميه ب”الطبقة العليا” (Upper class)، يشعر القارئ أن William Domhoff هذا ، يتحاشى فقط ، أن يوظف مفاهيم “النبلاء” و “النظام القديم” و “الفيودالية” وكذا “الاحتكار القديم للسلطة و الثروة…”، لأن خصائص البنيات و الوقائع التي يبنيها علميا لا تمت بصلة ل”المجتمع البورجوازي” و “الليبرالية” و “الدولة” و “الديمقراطية”… أو للنموذج الحضاري البورجوازي.

  و إذا أضفنا إلى هذا المشهد، كون 46 مليون أمريكي يحيون تحت عتبة الفقر (علما بأن تحديد مفهوم الفقر بالولايات المتحدة الأمريكية غير دقيق و ملتبس)، ملايين منهم مقصيون تماما، يحيون بما يعرف بقرى خيام البدون مأوى المنتشرة بكل الولايات الأمريكية ([4])، و من بينهم 2.5 مليون طفلا، أي واحد من بين كل 30 طفل يذهبون للنوم بدون مأوى ([5])، هذا في الوقت الذي يتضاعف فيه عدد المليارديرات و يتضاعف حجم ثرواتهم، حدّ أن يملك أمريكي واحد هو Jeff Bezos (مؤسس Amazon)، 131 مليار دولار عام 2019 ([6]) (قارون الحداثة و المابعد حداثة و فائقتها!!  و الديمقراطية! و العدالة الاجتماعية!…)، علما بأن الظاهرة لا تخص الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، بل كل عواصم الغرب، و العالم أجمع (و هو ما له الكثير من الدلالات بالنسبة لعملنا). إذ أن 26 مليارديرا عبر العالم  سيستحوذون على  أكثر  مما  يتبقى للنصف الأكثر فقرا من البشرية أي 3.8 مليار شخصا ([7])، حين نضيف كل هذا إلى المشهد السابق، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية و قد غاصت في “الماضي” عميقا! و أن بنياتها الاجتماعية باتت أبعد بكثير عن خصائص نموذجها الاجتماعي المعلن و الذي لا تتوقف عن ادعاء “تعليمه” للآخرين.


[1] -LIold Warner: American life: Dream and reality – Edition: Uni-                             -versity of Chicago Press – 1968 – p: 43.    

[2] -William Domhoff: Who Rules America? Challenges to Corpo-  

                        -rate and class dominance – Prentice Hall publisher-

                         2010 – p: 28.

[3] -William Domhoff: Who Rules America?…op . cit – p: 62.                   

[4] -Danielle Kurtzleben: 50 Years later, a war over the poverty                                   Rate – in: A world report . U.S. News – www.usnewes

                     .com/news/articles.                                                                                                         

[5] -Danielle Kurtzleben: op . cit .                                                             

[6] -The richest people in the world: in: Forbes – 5 Mars – 2019 –      

                       www.forbes.fr/bibliothéque-France.

[7] -The richest people in the world. op . cit .                                        

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق