المقالات

هل يمكن التوفيق بين مبدأ الفصل بين السلط و الوقاية من المخاطر الوبائية والاجتماعية؟(عز العرب لحكيم بناني)

بعد اندلاع وباء كورونا بالمغرب في مستهل سنة 2020، أصبح من الواجب أن نفكر في مبدأ الفصل بين السلطات، في وقت قلّصت فيه الإجراءات الأمنية من حرية التنقل وفرضت علينا اعتماد وسائل الحماية من العدوى. في هذه الحالة، كان السّؤال الذي طُرِحَ منذ أكثر من مائة سنة لدى فقهاء القانون هو التالي: كيف يمكن الجمع بين “قمع” répression الجريمة بعد ارتكابها post delictum و”الوقاية” prévention من خطورة المجرمين؟ نجد من بين فقهاء القانون من لم يجد حرجا في تفويض السلطات الإدارية مهمة تدبير تنفيذ عقوبة المجرمين والقيام بالرّدع الخاصّ، وتدبير السّجون؛ فقد لجأت بعض المقترحات الواردة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفويض السلطات الإدارية مهمة السّهر على ابتكار أساليب تنفيذ الأحكام القضائية؛ بل وقد ذهبت إلى درجة دفع السلطات الإدارية إلى خلق آليات الوقاية من المجرمين. غير أنَّ الدّعوة إلى مثل هذه الإجراءات الإدارية قد تعرَّضت لانتقادات شديدة. فهي دعوة إلى تجاوز مبدأ الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ذلك أنَّ القاضي هو الذي لا ينبغي له أن يكتفي بمرحلة التحقيق والحكم على المتهم، بل ينبغي له كذلك أن يسهر على تطبيق إجراءات تنفيذ الأحكام وفق آليات سليمة وكما يحق للقاضي وحده أن يجمع بين هدف الرّدع العام في المحكمة والعمل على تحقيق الرّدع الخاصّ داخل السّجون. فضلا عن ذلك، انتقد كثير من فقهاء القانون دعوة السلطات الإدارية إلى ضرورة حماية المجتمع من المجرمين، ولاسيما المجرمين المحتملين. وهذا ما يستدعي حسب رأي السلطات الإدارية مراقبة احتمالات العود إلى الجريمة واتّخاذ إجراءات الوقاية من المتطرفين مثل وضعهم تحت التنصّت والتجسس عليهم أو اعتقال الإرهابيين قبل الشّروع في تنفيذ الجريمة. لا شك في أن هذه الإجراءات الاحترازية قد تكون ناجعة فتؤدي إلى اعتقال الأشخاص الذين يشكّلون “خطورة” فعلية لأنهم كانوا على وشك اقتراف أفعال إجراميّة “وشيكة”. لكن المشكلة هي ما مدى شرعية هذه الإجراءات. اذ يتبيّن من ذلك أنَّ السلطات الإدارية ستقوم آنذاك بمهام السلطات القضائية، بعد أن استفاد العاملون في هذه الأجهزة صفة ضابط الشرطة القضائية. وقد نكتشف أنَّ أشخاصا ما قد توبعوا جنائيا دون تهمة محددة، فقط لكونهم مجرمين محتملين وليس لكونهم قد اقترفوا جناية “فعليّة”. وهذا ما يمسُّ في نظر الحقوقيّين مبدأ “لا عقوبة بدون جريمة nulla poena sine crimen.إنّ هذا النّقاش ليس وليد اليوم، بل كان حاضرا منذ أكثر من قرن من الزمان في المؤتمرات التي عقدت بخصوص إصلاح القوانين الجنائية والوقاية من الجريمة، وهي الجريمة التي لا يعقل أن ننتظر وقوعها قبل أن نتصدى لها، وإلا لما اكتسبت الوقاية من الجريمة أي معنى في نظر السلطات الادارية. إن مشكلة التوفيق بين قمع الجريمة والوقاية من المجرمين مشكلة الوقاية من الإرهاب، وهي مشكلة مطروحة على الصعيد المحلي والصعيد الدولي.تطرح مواجهة التطرف والإرهاب إذن مشكلة أخلاقية خاصة بحماية المجتمع و هي مشكلة أخلاقية طرحت اليوم على واجهتين جديدتين بخصوص الحماية من الأوبءة والحماية من الابتزاز. يتعلق الأمر بمشكلتين تمسان كيفية الجمع بين وظيفة ملاحقةة الجرائم في القضاء وادانتها ووظيفة الوقاية من خطورة الأوبءة ( خطورة عدوى أوميكرون) من جهة وخطورة الابتزاز من جهة ثانية . نبدأ بالسّؤال المطروح في حالة خطورة كورونا : كيف يمكن للمجتمع وللسّلطات العموميّة أن يتّخذا تدابير وقائية من النّاقلين المحتَمَلين للعدوى، أيًّا كانت وظيفة المرضى بالفيروس؟ وهل يمكن اللجوء إلى مبدأ الفصل بين السّلطات لثني السّلطات العمومية عن المبالغة في التقدير “الذاتي” évaluation subjective لخطورة الوباء. تعتبر بعض أطراف مؤسّسة العدالة أنَّ تقدير المخاطر أمرٌ يظل ذاتيٌّا ونسبيٌّا ولم يخضع لضوابط قانونيّة صارمة لمعرفة درجة الخطورة بصورة موضوعية لا جدال فيها؛ و عليه فإنها لا تعمل على تهويل “خطورة” dangerosité الوباء التي تشعر بها السلطات العموميّة. وهناك من يعتقد ان التهويل ذريعة التدخل في صلاحيات القضاء وفق التقدير الخاص بالأطباء، مع أن القضاء يختص في الفعل الجرمي ذاته الذي يظل من اختصاصه وليس بالخطورة المحتملة. غير أن جواب السلطات العمومية في حالة كورونا يشبه حالة الوقاية من الإرهاب.يظلُّ السؤال مطروحا وهو: هل يسمح الفصل بين السّلطات بالجمع بين صلاحيات السلطة القضائية في مقاضاة الفعل الخطير وصلاحيات السلطات العمومية في تقدير “مدى خطورة الوباء” وتدابير الوقاية منه؟ أم أنَّ إشكال الخطورة مسألة ذاتية لا تدخل في صلب القضاء. وبما أنّني أعلم مدى إحساس جميع الأطراف بالمسؤولية الأخلاقية عن منع انتشار العدوى، فإنّني أشعر أنَّ هذا الإحساس يدفعنا إلى تقييم جديد لمبدأ الفصل بين السلطات. يمسُّ هذا النقاش المرجعية الأخلاقية للمجتمع حينما نتذرَّعُ في القضية الموالية بمبدأ الفصل بين السلطات في قضية أخرى لا تتعلق بالولوج إلى المحاكم.تتعلق المسألة بقضيّة الجنس مقابل النّقط، بعد أن اقترحت إحدى الجامعات فتح رقم أخضر للتبليغ عن الابتزاز.هنا تطرح من جديد مسألة الفصل بين السلطات: تقضي بعض مواد القانون الجنائي أنَّ وكيل الملك أو الوكيل العام يتلقى الشكايات أو الوشايات. ويمنع على أي جهات أخرى ممارسة اختصاصات قضائية أصيلة من وظائف النيابة العامّة. وقد اعتبر البعض أنَّ “السلطة الإداريّة كيفما كانت وظائفها يمنع عليها في إطار استقلالية السلطة القضائية أن تمارس أو تتطاول على اختصاصاتها بأي شكل من الأشكال” (انتهى النص). تُطرَحُ من جديد مسألة الجمع بين الفعل الجرمي الخطير من جهة والخطورة التي تنجُمُ عن العلاقات السلطوية بين طرفٍ قويّ وطرفٍ ضعيف. ولا شيءَ يمنعُنا من توزيع منصف للمسؤوليّات: يختصُّ القضاء في المتابعة والتحقيق والحكم بينما يختصُّ المجتمع في الوقاية من خطورة الابتزاز وشراء الذّمم وإملاء السلطة على الطرف الضعيف. يختصُّ القضاء في الردع وتسعى السلطات، سواءً كانت جامعيّةً أو إداريّة، إلى حماية الأطراف الضّعيفة من السلطة التي تشكل خطورة عليها.غير أنَّ الصعوبة التي نواجهُها لا تتعلق بشرعيّة légalité وضع رقم أخضر، بل بكيفيّة التّعامل مع الشكايات التي قد تكون كيديّةً. يتيح القضاء كامل الضمانات التي تكفل حقوق المتقاضين، وفق آليات مضبوطة في كلِّ مراحل التّقاضي، من أجل تجنّب الوصم الاجتماعي ومحاكمة الأبرياء. وعندما يوضع الرّقم الأخضر في يد غير أهله، نحتاج إلى مساطر قانونية واضحة تنظّم عمل استقبال الشكايات و إلى عقوبات تأديبيّة تتجاوز صلاحيّات المجالس التأديبيّة. لا يتعلق الأمر بالتستُّر على الجرائم المرتبطة باستغلال السلطة (في يد الطرف القوي) والسلطة المضادة (التي قد يستعملها الطرف الضعيف)، بل بتخليق المناخ التربوي الذي يجب أن يظل بمنأى عن العلاقات السلطوية بوجه عام. ما دام أنَّ القضاء يعطي ضمانات أفضل لحماية المتهم الذي يحتفظ بالبراءة إلى حين الإدانة، لا شيء يمنع توسيع مجال استعمال الرقم الأخضر الموجود في المحاكم للتبليغ عن الجرائم النابعة من مواقع السلطة، مثل جرائم المال مقابل الماستر أو الجنس مقابل النقط. في المقابل، قد يكون من الأنسب أن تخلق المؤسسات التربوية مراكز الاستماع والتوجيه، من أجل مساعدة الطلبة الذين يعانون من الصدمة والانهيار على تجاوز هذه الحالة النفسية واللجوء إلى الرقم الأخضر عند الاقتضاء، حتى نتجاوز صراعات جديدة بين السلطة والسلطة المضادة ونتجاوز التشهير والابتزاز، لا سيما وأننا لا ننسى أنّ الأستاذة والأستاذ يوجدان في منزلة الأخت والأخ والأم والأب. ولا جدال في أنَّ هذه العلاقة الإنسانية التي تجمع الأستاذ بالطالب تتجاوز كلَّ هذه الأعراض المرضية التي نتمنى أن تظلَّ استثنائية داخل المؤسسات التعليمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق