المقالات

في فكر الكواكبي: أحمد بوعشرين_1_

تمهيد

هل فكر الكواكبي فعلا كان مقتصرا على مناهضة الاستبداد من حيث تعرية آثاره وعلله على الأمة والإنسان؟ وهل ارتكاز فكره على مركزية داء الاستبداد لم تكن بنفس الحدة اتجاه الأمة وحظها في التخلف عن الأمم الأخرى الرائدة؟، ألم يكن الكواكبي رحمه الله متوازنا في نظرته إلى مكامن الخلل في نهضة الأمة ورقيها، بين الاستبداد باعتباره الداء الرئيسي، وبين فتور الأمة وتقاعسها وكسلها في تهيئ البديل عن هذا الاستبداد، باعتبار ذلك أيضا سببا رئيسا في استئساد هذا الاستبداد؟

هذه الدراسة ستسلط الضوء على أهم مرتكزات فكر الكواكبي محاولة أن تعتمد التوزان الضروري لاستخلاص أهم أركان فكره التحرري رحمه الله. 

من أجل ذلك سنعمل على تجميع لمحات رئيسة من نشأته ومحيطه ودراسته وتكوينه والمحن التي عاشها في حياته ورحلاته وأهم سياقات فكره، ثم لنعرج على بسط أهم أفكاره في كتابيه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” و “أم القرى”، لنختم الدراسة بخلاصات رئيسة حول فكره رحمه الله تعالى.

1-عن النشأة والنسب والمحيط

ولد عبد الرحمن الكواكبي بمدينة حلب السورية في 23 شوال سنة 1265ه[1]، وينحدر من أسرة حلبية عريقة يمتد نسبها إلى علي بن أبي طالب، وكان محيطه الأسري محيطا علميا بامتياز، فهو ابن الشيخ احمد الكواكبي أحد مدرسي الجامع الأموي الكبير، “وآل الكواكبي أسرة قديمة في حلب هاجر إليها أجدادهم منذ أربعة قرون، ولهم شهرة واسعة ومقام رفيع في حلب والأستانة، يرجعون بأنسابهم إلى السيد إبراهيم الصفوي أحد أمراء أردبيل العظماء. ولهم آثار مشهورة، منها المدرسة الكواكبية في حلب”[2]

2- عن دراسته وتكوينه

تلقى الكواكبي رحمه الله تكوينه الأول في إحدى المدارس الأهلية، ثم درس العلوم الشرعية في المدرسة الكواكبية “وكانت مدرسة تسير على الطريقة الأزهرية فيما يقرأ من كتب، وما يتبع من منهج”[3]، وعرف بشغفه للعلم وللدراسة وتعلم اللغات، بحيث أتقن العربية والتركية وبعض الفارسية، ووقف على العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحديثة”[4].

3-عن المناصب التي تقلدها

وبعد إتمام دراسته تقلد عدة مناصب رسمية وغير رسمية، حيث عين مديرا لجريدة الفرات الرسمية من 1292ه إلى 1297ه، ثم رئيسا لكتاب المحكمة الشرعية، عين أيضا رئيسا أولا لغرفة التجارة في حلب ورئيسا لمجلس إدارة مصرف البنك المركزي، ثم عين قاضيا شرعيا ثم رئيس بلدية ، كما أسس جريدة مستقلة اسمها الشهباء في حلب سنة 1293ه.[5]

ونترك حفيده سعد زغلول الكواكبي يحدثنا عن سيرته ونسبه وأسرته من خلال وثيقتين  رسميتين احتفظت بهما أسرة الكواكبي، إحداهما مصدقة من والي حلب “المشير عثمان باشا” ورؤساء حكومة حلب، والثانية مصدق عليها من الوزير رائف باشا والي حلب، ذكر مضمونهما في كتابه “عبد الرحمن الكواكبي-السيرة الذاتية” حيث كتب يقول:

” ففي وثيقة “عثمان نوري باشا” ما يلي:

هو عبد الرحمن أفندي ووالده الشيخ أحمد أفندي من آل الكواكبي ومن
المدرسين في الجامع الأموي الكبير والمدرسة الكواكبية، وآخر وظيفة كان فيها
عضوية مجلس إدارة ولاية حلب. وبيتهم من بيوتات المجد والشرف (خاندان)
المشهورة في الأستانة العلية و حلب، ولد السيد عبد الرحمن أفندي الكواكبي في
شوال سنة 1265ه وتعلم القراءة والكتابة في المدارس الأهلية الابتدائية، ثم
استحضر له أستاذ مخصوص عَلَّمَه أصول اللسانين التركي والفارسي، وتلقى
العلوم العربية والشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، وأخذ الإجازات من
علمائها ودَرَّس فيها، وهو يقرأ ويكتب بالعربية والتركية، وقد وقف على العلوم
الرياضية والطبيعية وبعض الفنون الجديدة بالمطالعة والمراجعة، ومن تأليفه تحرير
الجريدة الرسمية (فرات) بقسميها التركي والعربي في سنة 1292 إلى سنة1297 ه، ومنه جريدة الشهباء التي أنشأها في حلب سنة 1293ه…، دخل في وظائف الدولة رسميًّا في الثامنة والعشرين من عمره وفي سنة 1293ه، عُيِّنَ محررًا رسميًّا للجريدة الرسمية بقسميها (كأنه كان في سنة 1292ه يحررها بصفة غير رسمية للاختبار) براتب قدره ثمانمائة قرش، وفي  ربيع الأول سنة1295 ه عُيِّن كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف التي تأسست في ولاية حلب، (يعنون بالفخري ما كان بدون راتب )، وبعد ثلاث سنين اتسعت دائرة اللجنة وزيد فيها قسم النافعة(للأشغال العمومية) وعين عضوا فخريًّا فيها، وفي جمادى الأولى تعين محررًا للمقاولات (مسجل المحكمة)، وفي ربيع الثاني سنة 1298ه صار مأمور الإجراء (رئيس قلم المحضرين ) في ولاية حلب، وفي رمضان سنة 1298ه عين عضوًا فخريًّا للجنة (قومسيون) النافعة، وفي  ذي القعدة سنة 1299ه عين بأمر نظارة العدلية (الحقانية) في الآستانة عضوًا في محكمة التجارة بولاية حلب مع البقاء في وظيفته الأولى (محرر المقاولات)، وفي سنة 1303ه انفصل من هذه الأخيرة وفي 4 رجب سنة 1304ه عاد إلى وظيفة مأمور الإجراء، وفي  رجب سنة 1310 عُيِّنَ رئيسًا للبلدية.

وفي وثيقة الوالي “رائف باشا” مايلي:

في ربيع الأول سنة 1312ه، عين رئيس كُتّاب المحكمة الشرعية في
حلب (باشكاتب) بقرار من مجلس النواب في دار السعادة، وفي 28 ذي الحجة
سنة 1312ه، عين ناظرًا ومفتشًا لمصلحة انحصار الدخان ( الريجي ) المشتركة مع نظارة المالية في ولاية حلب ومتصرفية الزور، وفي أثناء ذلك اتفق مع إدارة
المصلحة وتعاقدا على أن يستلم من المصلحة جميع ما تقدمه من الدخان ( التبغ )
إلى الولاية المتصرفية بزيادة كثيرة عن القدر المعتاد وجميع ما يزرع فيهما منه،
ويتولى بيعه، وتعهد في إزاء ذلك بمبلغ من المال يزيد عما كانت تبيع به المصلحة
دخانها زيادة كبيرة، وفي غضون ذلك استقال من رياسة كُتَّاب المحكمة الشرعية ثم في ذي الحجة سنة 1314ه، أعيد إليها وعين رئيسًا للجنة البيع والفراغ ( أي استبدال الأراضي الأميرية من أصحاب اليد بالمال ) وفي  ربيع الأول عين رئيسًا أولاً لغرفة التجارة في حلب ورئيسًا لمجلس إدارة المصرف ( البنك ) الزراعي، وفي رجب عين قاضيًا شرعيًّا لراشيا التابعة لولاية سوريا… في رجب سنة 1297ه وجهت إليه نيابة دروس أدرنة العلمية، وفي ربيع الثاني وجه إليه تدريس هذه الرتبة. وفي ذي الحجة سنة 1312ه وجهت إليه مولوية أزمير المجردة، وفي  جمادى الثانية أعطي الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة.”[6]

4-عن محنته مع سلطات حلب العثمانية

عرف الكواكبي بمحنته مع سلطات حلب، حيث ابتدأت المحنة مع التضييق على حريته في التعبير والكتابة من خلال منع صحيفتين كانتا تنشران مقالاته، حيث عطل والي حلب “قبرصلي كامل باشا” جريدة الشهباء التي صدر أول عدد منها يوم الخميس 27 ربيع الثاني عام 1294ه، وتكلف هو بالتحرير فيها وعمره آنذاك الثانية والعشرون، فيما استعار لها اسم السيد “هاشم العطار” ضمانة لحصوله على ترخيصها كما يحكي هو نفسه متحدثا إلى محرر جريدة “القاهرة” (العدد الأول 3 أبريل 1902):

“علمـتُ أن الحكومـة تخاف من القلم خوفها من النار، ولا تعطي امتيازاً بجريدة لمن تعتقد أنّه على بينّة من أمره، ووتيرة من عمله، فاتفّقتُ مع الحاج هاشم العطار لبساطته وسذاجته، على أن يطلب هو الامتياز، وأستلم أنا التحريـر والتحبيـر، ومـا مضى زمن على طلب الرجل المشار إليه إلاّ وصدرت الإدارة السنية بالسماح له بإنشاء الجريدة، مما لا يمكن أن أحصل عليه أنا ولـو أنفقـت كـلّ مـا أملك، ولكننا لم نتوفق في إصدار “الشهباء” بأكثر من ستة عشر عددا في خلال ستة أشهر، لأننا ماكنا نصدر بضعة أعداد إلا وتصدر الأوامر بإيقافنا وتغريمنا شيئا من المال، فرأيت أن الهدى بالعدول عن العمل، فتركنا “الشهباء” آسفين بعد أن تكبدنا من الخسائر الشيء الكثير”[1]

ثم مالبث أن أصدر جريدة  ثانية باسم “اعتدال” صدر العدد الأول منها بتاريخ 5 شعبان 1296ه، “ولم يكن حظ هذه الجريدة غير حظ سابقتها “الشهباء” من حيث رعاية السلطة لها إذ لم تلبث أن عطلتها أيضا…”[2]

وتتابعت تضييقات السلطات العثمانية للشيخ الكواكبي، ووصلت هذه التضييقات إلى حد اتهامات وما استتبعها من اعتقال وايداع في السجن:

– اتهام كان من طرف والي حلب لعبد الرحمن الكواكبي، أنه ضمن أشخاص أغروا أحد المتورطين في محاولة قتل الوالي “جميل باشا”[3]، وانتهى أمر الاعتقال بعد تنحية هذا الوالي من طرف السلطان عبد الحميد؛

– اتهام والي حلب الجديد “عارف باشا” لعبد الرحمن الكواكبي أنه منضم إلى عصابة أرمينية، وأنه أوعز إلى أحد الناس ليرشق قنصل إيطاليا بالحجارة أصابت ظهره، وسجن وحوكم بالإعدام، إلا أن محكمة بيروت برأته من حادث رشق القنصل الإيطالي، بعدما تبين أن التهمة ملفقة وأنها كيدية من الوالي نظرا لشدة النقد الذي كان يتلقاه من عبد الرحمن الكواكبي، وبعدها عزل والي حلب.[4]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق