المقالات

في وداع الشيخ يوسف القرضاوي: الإنسان والفقيه المثقف(محمد همام)_3_

لقد كان حسن البنا أكثر من ألهم الشيخ القرضاوي، سواء في النظر الجديد إلى الدين، أو في دوره في الحركة الاجتماعية، أو في قدرته على تحريك الناس وتحريضهم، للعمل الجماعي، بثقة في النفس، وبطموح غير محدود لإنجاز المهمات الكبرى، في تحرير الوطن وفي تنمية الإنسان. كما ألهمه في الحركة والتجوال داعيا ومؤطرا ومحفزا. فقد كان البنا، بتعبير الشيخ القرضاوي، “فهكذا هو أبدا، حل وارتحال، وحركة وانتقال”. ومن يقرأ مذكرات الأستاذ حسن البنا (مذكرات الدعوة والداعية/أكثر من 400صفحة ) ومذكرات الشيخ القرضاوي (ابن القرية والكتاب: سيرة ومسيرة/خمسة أجزاء)، سيلحظ الكثير من عناصر التشابه في الحكي عن المسيرة وفي شرح بعض تفاصيل المسار، وفي تبرير بعض المواقف والأفكار. 

لم يكن حسن البنا هو وحده من أثر في شخصية الشيخ القرضاوي، بل آخرون كثر، ولكن البنا كان أكثرهم إلهاما. وآخرون كان الشيخ معجبا بهم، وبتضحياتهم، ولكن كان البنا من مرشدي الإخوان الذين ارتبط بهم عاطفيا وحسب، على بعد مسافة العمر والجغرافيا بين الرجلين. وفي المقابل لم يكن بالحماس نفسه والتأثر نفسه مع مرشدين آخرين للجماعة على قربه منهم عمرا وجغرافيا، وعلى علاقاته بهم، مثل : حسن الهضيبي (1949-1973) ،وعمر التلمساني (1973-1986)، ومحمد حامد أبوالنصر(1986-1996) ، ومصطفى مشهور (1996-2002)، ومحمد مأمون الهضيبي (2002 – 2004) ، ومحمد بديع(2010 -…) ،ومحمود عزت (2013-2020)،القائم بأعمال المرشد. ويبدو من خلال حكايات الشيخ عن مرشدي الجماعة بعد اغتيال المرشد المؤسس حسن البنا، أنه قد افتقد فيهم روح البنا وحيويته وكثافة شخصيته وجاذبيتها. فإذا أخذنا نموذجا للمرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبي، فقد تولى المهمة ليحسم الصراع على موقع المرشد بين قيادات الصف الأول، وجاء من خارج هذه الدائرة المتنافسة وربما المتباغضة! وجاء هو من سلك القضاء، بما يوحي بمحدودية الخبرة الاجتماعية والسياسية للمرشد الجديد في مرحلة دقيقة من تاريخ الإخوان المسلمين. كما أنه تولى مهمة استعادة الثقة بين الجماعة والملك فاروق، وقد زاره في قصره بعد توليه، ثم دخل في صراع مع التنظيم الخاص، وعزل بعض قادته، وتصدى لكثير من تمرداته، وتصرفاته العنيفة، ورفض مطالبتهم باستقالته، بعد أن احتلوا بيته وحاصروه! لم يستسلم لهم مع أنهم مدعومون ، كما يحكي الشيخ القرضاوي، من بعض كبار الإخوان، مثل: صالح العشماوي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق الذي اختاروه مرشدا بدل الهضيبي، وآخرون. كما كان على المرشد الجديد حسن الهضيبي أن يدبر العلاقة مع انقلابيي الضباط الأحرار، والتنسيق معهم لإسقاط الملكية في مصر، وهي الخطيئة السياسية الكبرى الأولى للإخوان، في مسارهم، أي التواطؤ مع العسكر للوثب إلى السلطة من فوق دبابة، وقد أعطى الشيخ القرضاوي بعض التبريرات لذلك في علاقته بسياق مصر يومذاك. وأتصور بأنه تراجع عن ذلك في أخريات حياته، مما سيأتي ذكره لاحقا في هذا الوداع للشيخ. وبعد الانقلاب ستسوء العلاقة بين الانقلابيين ضباطا وإخوانا، وسينفرد عبد الناصر بالحكم، وسيبدأ في سياسة الانتقام والإبعاد لخصومه السياسيين، من يسار وإسلاميين على الخصوص، وستبدأ رحلة الإخوان مع السجون والمعتقلات، وسيعتقل المرشد حسن الهضيبي نفسه. بذلك سيرث المرشدون الآخرون تنظيما منهكا بالمحن، ومشتتا داخليا، وسيصبح كل مرشد مطالبا بتدبير تركة تنظيمية معقدة، وسيضمر دوره الفكري والدعوي الذي كان العلامة المميزة للمرشد الأول حسن البنا، والتي جعلت الشيخ القرضاوي يرتبط به عاطفيا ووجدانيا من دون الآخرين، مع أنه قضى فترة من السجن إلى جوار المرشد الهضيبي، وكلفه بمهمات تنظيمية ودعوية كثيرة، داخل مصر وخارجها. ولكن شخصية الهضيبي ظلت مختلفة عن شخصية البنا. ففي شخصية الهضيبي كان يختفي القاضي الذي يسمع كثيرا ويتكلم قليلا، وكان كلامه حادا كأنه أحكام تلزم بالإذعان لاغير، ويفتقد لمهارات الخطابة والتأثير، وهو مايجذب الشيخ القرضاوي ويؤثر فيه عادة . وكانت شخصية الهضيبي ذات مسحة قانونية، بحكم مهنته كقاضي، وكان أرستقراطيا، بحكم درجته الإدارية والمالية. وكان قريبا من أبناء طبقته الاجتماعية، وكان محدودا في علاقاته، عكس المرشد الأول، بقدر اته الخطابية، وبشعبويته، وبحماسته، وبأصوله الاجتماعية. ويذكر الشيخ القرضاوي أن هذه الأبعاد المذكورة في شخصية المرشد حسن الهضيبي أوشكت أن تحدث فرزا طبقيا وسط الإخوان، ولذلك كون بعضهم صورة عن المرشد بأنه متكبر ومتعال على غيره! مع أن الهضيبي أوصى بدفنه في مقبرة للفقراء والغرباء تسمى (مقابر الصدقة)! وزاد من حدة هذا التوتر الداخلي، بنظر الشيخ القرضاوي، حملة الشيخ الغزالي على المرشد حسن الهضيبي بعد فصله من التنظيم. وكتب الغزالي مقالات ناقدة وغاضبة وقاسية ضد المرشد، تراجع عن بعضها، وأبقى على بعضها، على كونه تصالح مع المرشد وزاره بعد خروجه من السجن. ولكن الشيخ الغزالي ظل مقتنعا بأن التنظيم تحول إلى هيئة كبيرة مليئة بشتى النزعات والأهواء.

ويلحظ المتأمل في تشكل شخصية الشيخ القرضاوي أنه لم تعد تستهويه شخصية أي مرشد، بل رفض أن يصبح مرشدا مرتين. فقد أصبح المنصب وظيفة بيروقراطية لإدارة الأزمات التنظيمية التي لاتنتهي. وكأن قدر تنظيم الإخوان أن يفقد ماءه وحيويته وجذره التربوي أو قل روحه في خضم تحولاته ، مرشدا ومريدين، قيادة وتنظيما. وكان الشيخ القرضاوي واعيا بهذا المصير الدراماتيكي المروع الذي تقلب فيه التنظيم وسار فيه وانتهى إليه، وتحوله إلى ماكينة استقطابية وتحريضية تدور في فراغ بلاروح وبلا أفق. لذلك بدأ الشيخ القرضاوي يحدد المسافة الموضوعية مع التنظيم الجديد، بعد اغتيال المرشد الأول، ومع القادة الفكريين والأيديولوجيين الجدد للتنظيم وفي مقدمتهم سيد قطب، رحمه الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق