المقالات

دور الحضارة الإسلامية في التاريخ الإنساني الديني والفلسفي(أبو يعرب المرزوقي)


1-ترددت كثيرا قبل العزم على الكتابة تغريديا في مسألة معقدة جدا وملتبسة لأنها قد تبدو دفاعية تمجيدية وهي في الحقيقة إرجاع للأمر إلى نصابه:
إنها منزلة الحضارة الإسلامية في التاريخ الكوني أو القطيعة التي حققها الإسلام دينيا وفلسفيا بين التاريخ القديم وما قبله والتاريخ الحديث وما بعده فكان في آن حافظَ أفضل ما في القديم ومعدا لأفضل ما في الحديث.
2-وأول علل العسر هو أنها تعتمد على رفض التحقيب المعتاد للتاريخ:
المرحلة الإسلامية هي مرحلة إخراج البشرية من التاريخ الوسيط وليست منه رغم أنه تواصل في الغرب حتى تمكن من الخروج في بدايات القرن الرابع عشر بعد تأسيس الجامعات التي كانت تدرس كتبنا (كحالنا الآن معهم إذ ندرس كتبهم).
3-فالتاريخ الوسيط لا يشغل حقبة ما بين سقوط روما وسقوط اسطنبول بل حقبة انحطاط الحضارة اليونانية واستئناف الحضارة بفضل الثورة الإسلامية.
4-الحقبة الوسطى من التاريخ بالمنظور الذي يحدد منزلة حضارتنا تمتد من انحطاط امبراطورية الاسكندر المقدوني إلى تحرير البشرية من سيطرة الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية أي إلى بداية الثورة الإسلامية.
5-وبذلك بدأ التاريخ الحديث وما بعده أي إصلاح التحريفين الديني والفلسفي الناتجين عن انحطاط حضارة الشرق واليونان لاستئناف الحضارة المبدعة.
6-وهذا هو النوع الأول من العسر: كيف نحرر الشباب من سطوة المثقفين بـحكمهم الـمسبق الذي يجعل المرحلة الإسلامية من التاريخ الوسيط الأوروبي المنحط رغم أنها هي التي أخرجته منه. وتلك علة ضمهم كبار المفكرين المسلمين إلى الحقبة الوسطى.
7-لكن هذا العسر إيديولوجي وهو رغم كونه عصيا على التغيير فإنه أقل أهمية من العسر الثاني الذي أريد التصدي له الآن بشيء من الدقة والتفصيل. ذلك أن الموقف الانفعالي لدى الكثير من الشباب بجنسيه علته استغفال الثقافة السائدة لهم حتى لا يدركوا أهمية دور حضارتهم الثوري.
8-والنوع الثاني من العسر انطولوجي (وجودي) وابستمولوجي (معرفي) وأكسيولوجي (قيمي) ثم الوصلتين بين هذه المعاني الثلاثة: الوصلة بين الوجودي والأبستمولوجي والوصلة بين الابستمولوجي والأكسيولوجي. فتكون المعاني خمسة.
9-أبدأ فاعتذر عن استعمال مفردات أعجمية بمقابلات عربية بين قوسين. ذلك أني لم أستعمل المصطلحات الأعجمية للتعسير بل للتيسير إذ هي أكثر تداولا.
10-المهم أن نكون متفقين على المعاني ولا مشاحة في الاصطلاح. ولنبدأ في الكلام على هذه المستويات الخمسة التي حدثت فيها ثورة بفضل الإسلام والتي تفصل بين المنحط من القديم وما قبله والمنحط من الحديث وما بعده. ومن ثم فهي ستكون منطلق الاستئناف.
11-والثورة ذات المستويات الخمسة هي العلة الأساسية في حيرة هيجل لما كتب: 1-فلسفة التاريخ 2-وفلسفة الدين 3-وتاريخ الفلسفة 4-وفلسفة السياسة خاصة 5-وجمع ذلك كله بثابت لا يتغير نفي دور الإسلام فيها جميعا بل وجعله العامل السلبي منها.
12-حيرته واضحة الطبيعة: كيف يمكن للفكر الغربي أن يؤسس الكذبة الثانية في صورته عن نفسه من دون شطب منجزات الحقبة الإسلامية؟ الكذبة الاولى الزعم بأن اليونان معجزة تاريخية بشطب المنجز المصري والبابلي.
13-وحتى تكون اليونان معجزة تاريخية ينبغي أن يكون كل ما ينسب إليها معجزا.وهذا يقتضي الا يكون مسبوقا ومن ثم فلا بد من نفي منجزات من قبلها.
14-الكذبة الثانية من جنسها: حتى تكون أوروبا الحديثة معجزة لا بد ألا تكون مسبوقة وأن ينفى منجز كل من توسط بينها وبين الكذبة الأولى. ومن ثم محاولة الوصل المباشر بين أوروبا واليونان فيدعي هيجل مثلا في تاريخ الفلسفة أن الحقبة الإسلامية لم تضف شيئا يستحق الذكر.
15-وهكذا فالكذبة الأولى تقتضي نفي دور حضارتي مصر وما بين النهرين رغم أن اليونان لم ينفوا دينهم لهما. والثانية تقتضي نفي دور الحضارة الإسلامية ليصفو التاريخ من غير الآريين. وإذن فالكذبتان حديثتا العهد: ثمرة الحقد العنصري المزيف للتاريخ.
16-وطبعا فجل الاوروبيين ربوا على هذه العقيدة وهم يصدقونها وخاصة عامتهم. والمشكل أن الكثير من العرب باتوا أكثر تصديقا لها منهم وخاصة المتعالمون منهم. وهم عامة تظن نفسها خاصة.
18-ثم إني لا اريد أن أتكلم في الموضوع من موقف دفاعي خاصة وجل المعتقدين في الكذبتين هم من أجهل الناس بالحضارتين وجلهم من جنس البليهي: لا يعرفون من الغرب إلا الفترينات والشعارات التي يمكن بترديدها أن يظهر المرء بمظهر التقدمي والحداثي.
17-لن أعود للكذبة الأولى فقد خصصت لها كتابا بينت فيه طابعها الكاذب.ولن اتكلم في الكذبة الثانية في أعيان العلوم الجزئية فقد خصص لها غيري ما يكفي من الدراسات لدحضها.
19-ما يعنيني هو القطيعة الثورة فيم تمثلت؟ لنعتمد قمة ما بلغه الفكر اليوناني الفلسفي أي أفلاطون وأرسطو وأقليدس فما جاء بعدهم تطبيق وشرح.
20-هذا على مستوى العقل. “القطيعة الثورة” تمثلت في مستوى النقل في إصلاح التحريف التوراتي والإنجيلي والمجوسي. وكل ما جاء بعدها تطبيق لها وشرح.
21-لخصنا حضارة الشرق التي وجدها الإسلام منحطة في ثلاثة رموز فلسفية (أفلاطون وأرسطو وأقليدس) وثلاثة رموز دينية (اليهودية والمسيحية والمجوسية). ولا أعتقد أن أحدا يشكك في رمزية ما اخترنا وكفايتها على الأقل من حيث الوضعية التي نزل فيها القرآن (الجاهلية العربية خليط من ذلك مع هوامش).
22-ولنبدأ بالرموز الدينية فهي أيسر علاجا: كل من قرأ القرآن مهما كان متحاملا يسلم بأنه وضع يدور حول دعويين: الدين فطرة وتاريخ الدين حرفها.
23-وعندما يقول القرآن إن الدين فطرة فهو يعني أن الوحي لا يأتي به من خارج الإنسان بل هو يذكره بما يوجد في ذاته. وهذه أول ثورة لأنها تحرره من سلطة الوسطاء والتذكير ليس وساطة بل هو مساعدة تربوية لاغير.
24-وعندما يقول إن هذه الفطرة معرضة للتحريف وتحتاج إلى التذكير فهذه ثورة ثانية وهي أن الدين تربية تنويرية لا تفرض شيئا بل هي لا تخاطب إلا طالبي الرشد دون أن تفرض عليهم شيئا

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) (الغاشية)

25-ومن ثم فهذه الثورة استنتج منها المسلمون ثورة في النوع الثاني من الثقافة: العقل فطرة والتربية تذكر به كما تذكر بالدين للتحرير والتنوير. ولا يمنع ذلك أن المسلمين هم الآن منحطون حضاريا وخلقيا بل هو يفسره لأنهم نكصوا عن قيم ثورتهم.
26-فنبدأ إثبات دعوانا عقليا: الحقبة الإسلامية هي بداية العصرالحديث الذي يقطع مع انحطاط العصر القديم وما تقدم عليه ومن ثم فهو الذي يؤسس للحديث وما يتلوه. والعصر الوسيط هو إخراج الثورة الإسلامية للإنسانية من ظلمات هذا الانحطاط.
27-والإثبات لا يمكن أن يكون عقليا إذا لم نحدد مناط الإشكال بدقة تامة: فـما معنى دعواي إن قول القرآن إن الدين والعقل كلاهمـا فطرة وأن الوحي والرسالات السماوية للتذكير وليس للتأسيس يلغي الوساطة بمعنييها الدنيوي والديني ؟
28-معناه أن مناط الإشكال هو مفهوم الإنسان. فالقرآن لا يعتمد على الوحدانية الإلهية فحسب بل أيضا على الوحدانية الإنسانية أي نفي كل تمييز عرقي طبيعي وطبقي اجتماعي ولا يفاضل بين الناس إلا خلقيا أي بمدى احترامهم للقانون والشرع (التقوى).
29-وإذن فالتحريف لا يقتصر على وحدانية الله بل يشمل وحدانية الإنسان كذلك: فـمن يـقرأ النساء 1 من حيث وحدة الطبيعة الإنسانية (كلهم من نفس واحدة) والحجرات 13 من حيث القيمة (لا يتفاضلون إلا بأفعالهم والتقوى) يفهم حيرة هيجل.
30-حيرته أنه لا يمكن أن يستغني عن الوسيط المطلق بين الأرض والسماء أوالشفيع (ابن الله) الوسيط النسبي بين البشر (الطبقية أو المجتمع المدني بالمعنى الهيجلي أي التنظيمات التي تدافع عن المصالح الطبقية) ومن ثم لا يمكن أن يعتبر البشر أخوة بل المسيحي فحسب يبلغ مرحلة الإنسان.
31-فإذا الإسلام ينفي الطبقية الدينية (المساواة المطلقة بين البشر) وينفي الطبقية السياسية (معيار المفاضلة الوحيد هو التقوى). فكيف يمكن أن يكون له دولة في التاريخ الفعلي وهو يحرر الإنسان من الوساطتين؟
32-تلك هي الثورة الأخروية والدنيوية التي لا يمكن أن يفهمها هيجل والتي تجعل الإسلام قطعا محررا للإنسانية من التحريفين الديني والفلسفي في مستويات فلسفية خمسة سياتي ذكرها وبيان حقيقتها.
33-لن أتكلم في التحريف الديني التوراتي والإنجيلي والمجوسي. فظني أن غالب المسلمين على بينة منه: الإنسان يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. أريد أن أبين الكذبة الثانية فلسفيا (بين أوروبا والمسلمين) كما بينت في شبابي الكذبة الأولى (بين اليونان والشرق القديم).
34-وسابينها في المستويات الخمسة التي ذكرتها: 1-وجوديا 2-ومعرفيا 3-وقيميا 4-والوصل بين أولا وثانيا ثم 5-الوصل بين ثانيا وثالثا. والأول هو أصل الأربعة المتقدمة عليه ومنبعها الوجودي.
35-أعلم أن مفهوم التحريف قرآني وينطبق على الدين فكيف اطبقه على الفلسفة؟ لو كان التطبيق مباشرا لامتنع ذلك.لكن بينا أن الثورة هي في مفهومين
36-والمفهومان هما الله والإنسان أي ما سميناه في مستوياتنا الوصلة بين الاول والثاني ثم بين الثاني والثالث واعتبرنا الأول الاصل والمنبع.
37-ولما كنت من رافضي الكلام الذي يقيس الغيب على الشهادة فلن أخوض في مفهوم الله بسبب إيماني بأنه من الغيب المحجوب. سأكتفي إذن بمفهوم الإنسان في حدود ما ليس بمحجوب أي بمقتضى « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ».
38-وأقول في حدود ما ليس بمحجوب لأن ذات الإنسان بل وذات كل موجود فيها من الغيب أكثر مما فيها من الشهادة. نكتفي بما هو من الشهادة دون سواه لأننا نرفض دعوى علم الإنسان للإشياء على ما هي عليه.
39-إذن إذا تكلمنا في نظرية الإنسان الوجودية وتسمى مرة اخرى بكلمة اعجمية انثروبولوجيا فلسفية -وتوجد تيولوجيا فلسفية (نظرية حقيقة الله) وكسمولوجيا فلسفية (نظرية حقيقة العالم) وتلك هي نظريات الوجود الخاص في مقابل الأنطولوجيا العامة)-. الانثربولوجيا الفلسفية تحدد حقيقة الإنسان كما تعرفها الفلسفة القديمة.
40-الفلسفة القديمة تعرف الإنسان حيوانا ناطقا. ويظن الكثير أنها تعتبر ذلك صحيحا على كل البشر. وما ذلك إلا ظاهر القول. ذلك أن أفلاطون لما يصنف البشر يستعمل نظرية المعادن. ولما يحدد بنية الدولة يستعمل نظرية قوى النفس. وأرسطو لا يختلف عنه لأنه يعتبر العبودية طبيعية.
41-إذا جمعت المعيارين أصبح الناس طبقات بقانون الطبيعة وليس بمقتضى الحيف الاجتماعي والظلم السياسي. فبمقتضى نظرية المعادن وقوى النفس يكون العقل للفيلسوف والغضب للحامية والشهوة للعبيد.
42-ولا فرق في ذلك بين أفلاطون وأرسطو. فإذا طبق ذلك تصبح العبودية والوساطة أمرين شرعيين عقلا (اختلاف المعادن وقوى النفس) وليس تحريفين للعقل تماما كما حدث في الدين المحرف.
43-سيعترض أحد المتنمرين لكن الإسلام لم يلغ العبودية ولم يلغ الطبقية وفيه خاصة وعامة. وطبعا من يقول ذلك لا يفرق بين التاريخ والحقيقة. وهو لو طبق نفس المنطق على القيم الحديثة مع التاريخ الحديث لوجد واقعه كفرا بما يدعيه من قيم.
44-لا أحد ينكر أن ذلك كذلك في التاريخ وأن جل تاريخنا السياسي استعبادي واستبدادي ومن ثم فالغالب عليه الفساد في الأرض وتلك علة إبراز العهد الراشد حتى في ذهن الإنسان العادي الذي يعتبر ذلك خروجا عن الإسلام أي عين التحريف.
45-والاعتراضات التي من هذا الجنس كان يمكن أن تكون مشروعة لو كنت قد تحيلت فقارنت نص القرآن بواقع أهل الأديان الأخرى وبواقع أهل الفلسفات. إنما أنا أقارن فكرين وما يضعانه من مبادئ لتعريف حقيقة الإنسان ولتنظيم حياة البشر المعرفية والخلقية والروحية والسياسية.
46-صحيح أن الإسلام لم يزل العبودية في التاريخ الفعلي. لكنه أزال اساس شرعيتها فيه. ثم هو جعل تحرير الرقاب من أهم المكفرات. وإلغاء الأساس هو إثبات عموم الأخوة ونفي الوساطة. وبهما تزول العبودية بإطلاق.
47-في الدين المحرف وفي الفلسفة المحرفة الكل عبيد باستثناء الوسيط والفيلسوف اللذين يدعيان تمثيل الاصطفاء الطبيعي (نظرية المعادن) أو الإلهي (نظرية الإمامة) وترجمة ذلك هو الإمام المعصوم والقطب ذو العلم اللدني والفيلسوف
48-بعد مفهوم الإنسان أو المستوى الوجودي نأتي إلى المستوى المعرفي: سبق أن بينت أن عقيدة الغيب تعني تحرير الإنسان من وهم شفافية الوجود وإطلاق قدرات العقل المعرفية.
49-وهذا يعني معرفيا أن نظرية المطابقة تسقط: العلم لا يطابق المعلوم بل هو إدراك جزئي لما يظهر منه للإدراك الإنساني. والله وحده يعلم الاشياء على ما هي عليه. فتصبح المعرفة اجتهادية في معرفة عالم الشهادة ويزول سبب التناحر حول عالم الغيب المحجوب.
50-نظرية المعرفة القرآنية نظرية نقدية.لا يمكن للعقل أن يتجاوز في النقل الحسي المدارك الحسية بمستوى التجربة العلمية. ولا يمكنه في النقل الحدسي تجاوز ما تصدقه التجربة الروحية.
51-والقيم الجمالية (الذوق) والجلالية (الاخلاق) والمعرفية (العلوم) والجهوية (الحرية: تقدير الإمكان والامتناع) وأصلها جميعا أي الوجودية (الوعي بالمطلق) بمعنى عدم الإخلاد إلى الارض نفعية أو إيمانية.
52-والعقل يحسن ويقبح في النفعيات إذا اقتصرنا على الحسابات الدنيوية. لكنه لا يحسن ولا يقبح في الإيمانيات إذا تعالينا على الحسابات الدنيوية. وهذه هي التي تحرر من النسبوية والإخلاد إلى الارض. وإذن فهي المقدمة.
53-وبذلك فقد وفيت بما وعدت: بحثت في المستويات الخمسة وبينت ثورة الإسلام التي حررت الإنسانية من التحريفين الفلسفي والعقلي اللذين هما سبب الانحطاطين الحضاري والخلقي.
54-ما البديل الإسلامي للتصنيف الأفلاطوني الارسطي للبشر(المعادن) ومكونات الدولة (قوى النفس)؟ الجواب الأول: لم يعد طبيعيا كلنا لآدم وآدم من تراب ولا نفسيا (كلنا ذوي عقل وغضب وشهوة) بل وظيفي للتعبير عن المجاهدة التحررية أو جوهر الأخلاق.
55-فأولا لجميع البشر تركيبة نفسية هي مراحل النفس من حيث هي تكوينية حركية وليست جواهر ثابتة وسكونية وما يصل بينها هما ما به يتعين جهاد التحرر من الأمر واللوم: فالغاية هي الاطمئنان بفضل تحقيق بعدي الفعل الحر مقاومة الأمر بالشر ونصرة اللوم عنه.
56-الحرية هي هذا التوق للطمأنينة في الحسم بين أمر النفس ونهيها توقا عقليا وروحيا. وهذه البنية واحدة لدى الجميع وهي التي لا إمكان للوساطة فيها ومن ثم فلا تمايز بين معادن البشر بل كلهم لآدم وآدم من تراب كرمه الله بالنفخ فيه من روحه.
57-والمجاهدة ضد الأمارة ومع اللوامة هما الواسطتان بين أقطاب المسيرة بداية وغاية ووسطا. فهي تهزم الأمارة وتنصر اللوامة فتصبح مطمئنة ولا حساب إلا بها. فتكون المراحل خمسا: 1-أمر النفس 2-مقاومته 3-لوم النفس 4-نصرته 5-الاطمئنان.
58-وذلك هو أساس المسؤولية. فالكل يأتي ربه فردا. لكن في الدنيا أيضا: الكل مطالب بنفس الواجب الجهاد بالقلب واللسان وباليد تعبيرا عن الحرية. لذلك اشترطت آية الرشد وحرية الإيمان علامة لا تكذب: الكفر بالطاغوت (البقرة 256).
59-ولا يمكن أن يدعي أحد أنه الحكم لمن يدعي أنه صاحب عقل أو عصمة والحماية لمن يدعي أنه صاحب غضب والبقية عبيد لديهم لانهم أصحاب شهوة.
60-بل الجماعة هي التي تختار (انظر الغزالي الفضائح) من يعبر عن إرادتها وعن عقلها وعن قدرتها وعن حياتها وعن وجودها بمعياري الحكم الناجح أعني الأمانة والعدل. الحاكم مؤتمن على إرادة الجماعة وتطبيق القانون بالعدل.
61- وهما شرطا فاعلية الحكم التقنية وفاعليته الخلقية: ففنيا لا بد للحكم من الشوكة الشرعية لأن القانون يحتاج إلى التنفيذ وخلقيا لا تكون الشؤون كذلك إلا بالعدل والأمانة (النساء 58).
62-ولما كان الحكم عقد إنابة من الأمة لمن تختاره لأمانته وعدله (النساء 58) فإنه النيابة فرض كفاية والتنويب فرض عين: كل الامة تختار الحكم وتراقبه. لكن الحاكم ليس الكل بل البعض.
63-وهذا البعض ينبغي أن يكون بحسب وظائف الدولة الخمس المستجيبة لحاجات الجماعة: من يعبر عن إرادتها ومن يعبر عن عقلها ومن يعبر عن قدرتها ومن يعبر عن حياتها ومن يعبر عن وجودها وتلك مقومات الجماعة.
64-والتعبير عن الإرادة سياسة. وعن العقل علم. وعن القدرة اقتصاد. وعن الحياة إبداع فني وخلقي. وعن الوجود دين وفلسفة. وإذن فالكل يسهم في الكل كمنوب لما يقوم بهذه الوظائف ويسهم في ما يبدع فيه كنائب تختاره الجماعة بما تعترف له به من جهد في ما اختار من نشاط.
65–وتلك هي العلة في أن الجميع راع ورعية لأن الجميع ذو إرادة وعقل وقدرة وحياة ووجود ولا تفاضل إلا بالتقوى ومن ثم فلا بد من التحرر من التحريفين الطبقي والعرقي.
66-والقول “لسنا رعايا” ينبغي فهمه بأننا “لسنا رعايا فحسب” بمعنى أننا لا ننوي التخلي عن كوننا رعاة أيضا. ذلك أن مفهوم القانون نفسه يقتضي التلازم بين الوجهين وضمنهما التحامي.
67–فالخضوع له يجعلك رعية لأنك مرعي من الجماعة به ومساهمتك في وضعه (إن كان وضعيا) أو في الإيمان به (إن كان منزلا) يجعلك راعيا للجماعة التي تتنظم به فتتراعى وتتحامى.
68-وذلك هو معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على الجميع لأن الجماعات تنتظم بعاملين هما مقوما صورة العمران: الحكم والتربية. ودور الإنسان في الاعتراف بالحكم وعدمه هو أساس الشرعية ودوره في الأخلاق العامة هو أساس التراعي.
69-وتلك هي اسس نظام الجماعة بالمعنى القرآني لأنه أمرها ولأن إمارة الأمر لا تكون إلا ولاية أمر بالشورى بين أصحاب الأمر أي كل المؤمنين: وأمرهم (أمر الجماعة) شورى بينهم (بين الجماعة).
70-فيكون مفهوم “أولي الأمر منكم” دالا على من أمرتهم الجماعة نيابة عنها في التعبير عن إرادتها أي لتطبيق ما وضعته من قوانين وأعراف أو ما آمنت به إن كانت شرعا منزلا.
71-وفي كلتا الحالتين: القانون الأسمى هو أن الإنسان يؤمن بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهو الذي يحدد بعقله حصول المعصية من عدمها. تلك هي الثورة التي لم يستطع هيجل فهمها واعتبرها مانعة من استقرار الدول.
72- صحيح أن الإسلام يضع شروطا للحكم يعسر تطبيقها لأنها لا تعترف إلا بمعيار واحد للتفاضل: التقوى أي احترام القانون. لكنها اليوم هي المطلوب في كل جماعة إنسانية يحترم فيها الإنسان نفسه أو يشعر بأن مكرم لأنه مستخلف.
73-والمهم أن الأمة بدأت تفهم أنها انحطت لأنها تخلت عن العمل بهذه القيم وليس كما يتوهم أعداؤها بسبب كونها مسلمة: لما كانت مسلمة بحق استطاعت أن تنتصر على إمبراطوريتين يحاول بعض الناكصين عن قيمه الانتقام من العرب الذين حرروهم من الظلمات وأن يستردوهما بالحرب عليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق