المقالات

تطبيع الإمارات ضوضاء تخفي تفصيا من الأهم (أبو يعرب المرزوقي)

اعترف أني لم استطع فهم الضجة الكبرى حول التطبيع بين الإمارات واسرائيل:

لا من حيث كونه صار معلنا، ولا من حيث التوقيت، فضلا عنه من حيث وزن الإمارات، ومن دورها في اللحظة التاريخية، وأخيرا حول نفاق المحتجين بهذه الضجة التي تفيد أنهم يبحثون عن مبرر لتخاذل أكثر دلالة من التطبيع نفسه، وهدفي هو بيان هذا ما يتعلق به هذا التخاذل الذي يخفي حقيقة ما يجري في الإقليم.

وما لم أفهمه أكثر هو أساس الاحتجاجات المضاعف، فدعوى خيانة عروبة القضية الفلسطينية تصدق على جميع أنظمة العرب بلا استثناء، ودعوى عدم خلقية الموقف لا يصدق أحد معناها في الكلام على أنظمة العرب،وهو أول شيء لا أفهمه.

فالحجاج الخلقي بين العرب مزحة، فليس للعرب من الماء إلى الماء أدنى ذرة من الأخلاق التي يمكن الاحتكام إليها بعد نكوصهم إلى الجاهلية والحمايتين الفارسية والغربية، فلا أخلاق ولا خلاق للتوابع.

لا أخلاق لمن فقد شروط السيادة فصار تابعا وعالة على غيره بلغة ابن خلدون (الفصل 40 من الباب الأخير من المقدمة) لأن العبيد لا أخلاق لهم بما أنهم فاقدون لشرطها أي احترام الذات والمدافعة عن الأرض والعرض.

لذلك فكل كلام يحتج على الإمارات بالأخلاق يجهل أو يتجاهل أن قوما صاروا مؤمنين بدين العجل لا يعبأون بالكلام الخلقي وقائليه: فبيدهم معدن العجل وخواره.

فإذا لم تكن الشعوب قد حزمت أمرها لعلاج الأمر بما يداويه فلا معنى للاحتجاج وهو من مقومات التخدير، ذلك أن امر التطبيع حسم منذ أن صارت الدول المحيطة بإسرائيل مطبعة علنا.

ولا أستثني أكثرهم كذبا أعني النظام السوري وحزب الضاحية أو قاعدة إيران في لبنان.
فهؤلاء أكثر تطبيعا حتى من بلحة مصر وملك الأردن بدليل حربهم على مقاومة شعوبهم.

ومن السذاجة انتظار مقاومة إسرائيل من بلد يحتله أعداء الأمة الثلاثة عقيدة وسلوكا:
الصفوية والصهيونية والهندوسية، وطبعا الغرب والشرق سيدي اللحظة التاريخية الحالية.

وإذا كان يوجد مشكل مع الإمارات فليس تطبيعها مع إسرائيل بل كونها هي بذاتها قاعدة إسرائيلية وإيرانية وهندية بمباركة من الغرب والشرق وهي مركز الترصد لكل إمكانية لإنشاء قوة عربية وإسلامية في الإقليم كله.

وبهذا المعنى فإن الأمر الأهم ليس التطبيع الإماراتي الإسرائيلي بل تحول جل أقطار الجامعة العربية إلى قواعد صريحة ومحميات علنية للقوى التي تحول دون الاستئناف الإسلامي ليس بين العرب فحسب بل حتى بين الأقوام الأخرى التي لها علاقة بالإسلام بحيث إن ضرب أي قوة إسلامية في الإقليم تنطلق من القواعد الموجودة فيها.

لست أشك في أن الكثير سيتهمني كالعادة بالمواقف الحدية رغم أني لا أقدم موقفا من قضية دون عرضها وبيان مقدمات النتائج التي انتهي إليها، ومع ذلك فلا عجب ممن لا يميز بين مضمون القضية والموقف القضوي منها.

لكني بينت في ما تقدم تحت عنوان “كثافة الكيان” أن النخب العربية بأصنافها الخمسة صارت أعجاز نخل خاوية:
أسماء ضديدة لمسمياتها في الإرادة والعلم والقدرة والذوق والرؤية، وهو ما وصفه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية.

فالأمير تعني غفير.
والعالم تعني الخراف.
والقادر تعني المافيوزي
والفنان تعني فاسد الذوق.
وصاحب الرؤية تعني مستورد ثمرة الحداثة دون شروطها.

وقد يظن الكثير أن ذلك يصح على الخليج دون سواه بسبب كونه يملك بعدي العجل:
الأموال أو معدنه، والأقوال أو خواره الذي يوظف له النخب التي صارت إلا من رحم ربي مرتزقة قلم فضلا عن مرتزقة السيف الذين تحارب بهم الثورة الثورة المضادة بنوعيها.

فهذه الظاهرة عامة حتى عند أفقر شعوب الإقليم من المغرب إلى العراق:
ذلك كل حكام العرب أمراء اسما وغفراء مسمى.
ولا يمكن تصور ما يخالف هذا، فكل قطر عربي فيه قاعدة غربية يحتمي بها النظام ضد شعبه الذي يريد استئناف دور الأمة طلبا للتحرر من الاستبداد والفساد وللتحرير من الاستعباد والاستضعاف.

صحيح أن هذه القواعد علنية في الخليج، لكنها موجودة في كل أقطار العرب.
والسر فيها هو سر بوليشينال أي إن الجميع يعلمه بل أكثر من ذلك حتى جيوش العرب صارت هي بدورها جيوش احتلال لأن قياداتها لا علاقة لها بالأوطان لأن من “رباها” وعينها للقيادة هو الحامي للنظام الممثل للاستعمار غير المباشر فيها.

ونحن في تونس تجاوزنا ذلك إلى ما أدهى وأمر، فجل وزرائنا ونوابنا متجنسين بل وثلاثة من رؤساء الحكومة بعد الثورة متجنسون، وقد لا نكون شاذين في ذلك، فلعل بلاد المغرب الخمسة تعاني من نفس الداء.

لكن يمكن أن أيضا إن صدقنا بعض ما قاله أحد قياديي الحرب النفسية الإسرائيلية فالكثير من حكام العرب يهود وغالبيتهم صهاينة.

ولحسم هذه القضية يكفي إثباتها بالنسبة إلى أكثر المتكلمين على الممانعة:
منذ كنت في ماليزيا حاولت إفهام القراء أن قاعدة إيران في لبنان ليست لمقاومة إسرائيل وتحرير القدس كما يزعمون بل لمنع شروطهما وهو ما بينته ثورة الشعب السوري حيث إن كل تسليحه كان الهدف منه تشييع سوريا وطرد سنتها والتصفية العرقية والتهجير.

فالكلام في ما يسمى المقاومة والممانعة يبدو كلاما على مستقبل الأمة وهو في الحقيقة استراتيجية لاستعادة ماض متقدم على تحرير الإقليم من الاستعمارين الفارسي والغربي ممثلا ببيزنطة سابقا وبإسرائيل وبقايا الصليبية والباطنية حديثا.

فهم جميعا يوهمون العرب بالأقوال الموجهة إلى المستقبل لكنهم يحققون بالأفعال استرداد الماضي وشرطه القضاء على سنة الإقليم.

وبهذا المعنى يتجاوز التطبيع الإماراتي لانه عين المسعى لاستعادة ما تقدم على الإسلام:
فغفراء الإمارات باسم أمراء هم بقايا الباطنية والقرمطية لمحو تاريخ الإسلام والعودة جزيرة أطرافها فارسية جنوبا وشرقا وبيزنطية شمالا (الهلال) وغربا (بداية من مصر)
حرب على الإسلام وشروط استئناف دوره.

ما يعنيني إذن ليس التطبيع بل ما وراء الضجة الزائفة.
فهي تخفي التخاذل الذي يغطي به المحتجون عليه الحقيقة التي ما يزالون أبعد الناس عنها.
ذلك أن المستهدف ليس فلسطين بل ما يحول دون استعادة الأمة دورها، ومن ثم فهو مشروع سايكس بيكو ثانية الذي يستكمل شروط دولة الأكاسرة ودولة داود وفيه الصفقة الكبرى أحد أدواته مثل وعد بلفور في الأولى.

ودون تبسيط ولكن لتقديم العلامة فإن التركيز على التصدي لتركيا التي تحاول استعادة ذاتها والاندراج في تاريخها -تاريخ الأمة كلها- تاريخها الذي حاولوا إخراجها منه لما يقرب من قرن ولكن خاصة التصدي لمحاولة تكوين مجموعة المناعة الإسلامية في كوالالمبور ومنع باكستان من الحضور يفيد زبدة هذا المعنى:

فرض سايكس بيكو ثانية.

إذا فهم أصحاب الضجيج حول التطبيع الإماراتي أنه من أعراض أمر اعمق وأن ضرب تركيا حتى هو من أعراضه أمكن أن نفهم لماذا يلتقي الصفوي والروسي والصهيوني والغربي والشرقي وأحفاد سايكس بيكو الأولى على ضرورة أسقاط النموذج الذي قد يمكن شعوب الأمة من السعي لاستئناف دورها في نظام العالم الجديد.

فالثورة المضادة العربية بفرعيها التابع لإسرائيل والغرب والتابع لإيران والشرق (أي روسيا والصين والهند) والدالة على أن الغرب والشرق متحالفان تحالف إسرائيل وإيران على منع الاستئناف وأن الأمر لا يستهدف فلسطين إلا عرضيا لأن إسرائيل غنية عن مساعدة من طبعوا معها من العرب لفرض إرادتها في فلسطين بل هي تستهدف شروط إمكان استئناف الأمة دورها وأولها علاج الأدواء الخمسة التالية.

فما تحتاج إليه إسرائيل ليس حماية وجودها الحالي بل حماية إمكان بقائها إلى الأبد وشرطه بقاء الأمة متفتتة إلى الأبد وذلك توطيد الأدواء الخمسة التالية:
2 داخليان وهما الاستبداد والفساد
و2 خارجيان وهما الاستعباد والاستضعاف
والخامس هو أصلها جميعا أي ما يحول النجاح في علاجها أي ما بدونه تكون الأمة فريسة لا حول لها ولا قوة: تحريف لحام وحدة الأمة أي الإسلام وقيمه وتخريبه بدين العجل أصل الفتنتين؛ الكبرى (بالثيوقراطيا الصفوية)
والصغرى (بالانثروبوقراطيا الصهيونية).

لما تفجرت الثورة بدءا بتونس وانتشرت في كل بلاد العرب ذات الوزن التاريخي والحضاري كانت مطالبها داخلية ومقصورة على المطلبين الداخليين أي ضد الاستبداد والفساد.
لكنها في العقد الأول اكتشفت أن هذين الهدفين مستحيلا التحقيق من دون استكمال معركة التحرير من الاستعباد والاستضعاف خارجيا.

وتبين أن هذه المعركة لا يمكن أن تنجح من دون الأصل أي الإسلام وقيمه.

وهذه العلاقة لم تبق مجرد فكرة لأنها أصبحت واقعة على الأرض:
فقد حضرت جيوش الغرب وجيوش الشرق في المركز بين عواصم الخلافة الخمسة التي مثلت دور الإسلام وتحريره الإقليم والعالم من الإمبراطوريتين اللتين تسعيان الأن إلى شطب دوره:

المدينة، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، واسطنبول، وهذه الصامدة وحدها وقد جندت الأربعة الأخرى ضدها.

ولولا كون إسطنبول هي الصامدة الوحيدة والنموذج المخيف الدال على إمكان الاستئناف الإسلامي دون تمييز بين شعوبه عملا بالنساء 1 والحجرات 13 لما فهمنا الوصل بين الحرب على تركيا والحرب على ثورة الشعوب في الإقليم وخاصة بعد أن فهم الشباب العلاقة بين الهدفين الداخليين والهدفين الخارجيين وبالأصل وفاعليتها في الأحياز:

الجغرافيا،والتاريخ، والثروة، والتراث، والأصل اللاحم أي الإسلام وقيمه..

فهموا أن الثورة أنهت حدود سايكس بيكو الأولى ليس في القلوب والعقول فحسب بل على أرض المعركة والأعداء يعلمون أن هذه الحدود التي زالت فعليا لم تبق كافية حتى لو احتلوا الأقطار من جديد بمجرد عودة تركيا لذاتها وتاريخها المجيد.

لذلك صار التسريع في سايكس بيكو الثانية يتطلب حلفا ممن ذكرت للحرب على الثورة وخاصة على النموذج التركي بعد أن تبين أنهما مترابطان جوهريا وليس لأن أردوغان إخواني كما يزعمون. فلا علاقة لأردوغان بالإخوان. ومن الأكاذيب الزعم بأنه تلميذ الغنوشي حتى لو سلمنا بأنه إخواني. ولا علاقة لما يجري في تركيا بما يجري في حركة الإخوان وأكاد أجزم بأن هذه الحركة أشبه بما آلت إليه الخلافة لما انتقلت من بغداد إلى مصر:
في شبه من الخلافة وشبه من قوة الإسلام التاريخية التي لم تتحقق فعليا إلا مرتين:
الأولى أموية والثانية عثمانية.

ولما كان العرب بعد الأموية الشرقية والأموية الغربية قد نكصوا إلى ما علامته نهاية الأندلس
ولما كانت العثمانية هي التي حافظت على ما كان يتهدد دار الإسلام من مصير شبيه بالأندلس في كل ما يسمى عالما عربيا الآن، فإن الأمر الوحيد الذي يخيف أعداء الإسلام هو نهضة تركيا بوصفها نموذجا لكل شعوب الأمة من مندناو إلى المغرب.

وأعدى أعداء تركيا هم ناكرو جميلها الذي حافظ على الإقليم ضد حلف الصفوية والاسترداديين.

المستهدف إذن ليس أردوغان رغم أهمية الرجل وقدرته القيادية التي يسميها الغزالي “قدرة معتبري الزمان، ”بل مدرسته وأصحاب المشروع الذي هو تلميذه
والاستئناف الروحي للشعب التركي الذي استعاد الاعتزاز بنفسه وبتاريخه وشعر أنه قادر على رفع تحدي الجمع الناجح بين الأصالة والحداثة: خوف أعداء الأمة من عدواه المؤثرة في الثورة.

فأعداء الأمة يعلمون أن الممكن بالقوة أكثر فاعلية من الحاصل بالفعل لأن فاعليته غير قابلة لتوقع مداها ومؤداها.
فلا أحد يفهم في الاستراتيجيا لا يرعبه نهضة أمة تمثل خمس البشرية
أمة لم تكن بحاجة إلا إلى “قادح” تاريخي ذي صلة بعظمة تاريخها ينجح في تحقيق هذا الوصل بين أصالتها وشروط مناعتها الحديثة:
والقادح حاليا مضاعف:
تركيا التي عادت لذاتها، وثورة شباب الإقليم عربا وتركا وأكرادا وأمازيغ وأفارقة.

ما الذي حدث لنصل إلى هذه المرحلة التي ينبغي أن نعتبرها مدعاة للتفاؤل وعلة كافية للخروج من التخاذل وعدم تضخيم دور الأقزام من جنس غفراء الإمارات.

فالثورة رغم ما يبدو من ضعف أمام الثورة المضادة حققت ما لم يكن في حسبان أعداء الإسلام: ألغت نهائيا التفتيت الجغرافي الإسلامي في الإقليم.

وما يسمونه التوسع التركي من علاماته وهو علة حرب فرنسا على تركيا خوفا من أن تخرجها من أفريقيا وأن تعزلها حتى في أوروبا.

نجاح تركيا الحالي ألغى نهائيا التشتيت التاريخي على الأقل بالعدوى.
فعودة تركيا لذاتها يعني التخلص من الكسر التاريخي الذي عاشه الشعب التركي،
وتلك هي العدوى التي يخافها الأعداء.

عادت وحدة الجغرافيا ولو في القلوب وفي المعارك رغم تخلف الشكل الرسمي وعادت وحدة التاريخ ليس في تركيا بحد ذاتها بل بعدوى النموذج.

واستراتيجيو الغرب -ليسوا مثل حمقى النخب عند دماهم من غفراء العرب- يفهمون من عودة وحدة الجغرافيا ووحدة التاريخ عودة أمر أخطر عليهم حتى من الخلافة لأنه ليس مجرد حنين إلى استئناف مؤسسة تاريخية مهما كانت لصيقة بالعقيدة بل هو وعي بشروط المناعة الخمسة في كل أمة ذات تاريخ عظيم توحد الشعوب مثل أمة محمد.

فوحدة الجغرافيا هي شرط التنمية الاقتصادية والثروة. ووحدة التاريخ هي شرط التنمية الثقافية والتراث، والتفاعل بين الشرطين يعطي من الأول إلى الثاني القدرة على تحديات العصر المادية لأن الاقتصاد هو الذي يحقق الرعاية وشروطها ومنها الحماية، ومن الثاني إلى الأول يعطينا القدرة على العلوم والقيم وتطبيقاتهما وهي التي تحقق الشرط الأول إذ إن كل القوة تعود إلى العلم والأخلاق وتطبيقاتهما.

وهذا يعني أن الأصل هو الذي يلحم ما انكسر فيجبر الكسور وذلك هو دور الإسلام وقيمه.

فما حاوله التفتيت الجغرافي هدفه منع شروط القوة المادية، وما حاوله التشتيت التاريخي هدفه منع شروط القوة العلمية والتقنية، وما حاولوه من تحريف الإسلام هدفه إزالة جدار الصد الأخير وغاية كل الحروب لأن الهزيمة هي فقدان شرط الصمود الروحي.

لكن فشل هذه الخطط أعاد الحياة لأكبر عملاق في النظام العالمي الجديد :
توحد المسلمين في فدرالية بقيادة حديثة تجمع بين فضائل الخلافة وثمرة الدول الحديثة؛

فلا شيء يمنع أن يكون البديل الحديث من الخلافة فدرالية “ولايات متحدة إسلامية”
تطبيقا صارما لمعنى النساء 1 (البشر كلهم إخوة من نفس واحدة)
وعملا أمينا بالحجرات 13 (الشعوب متعددة ومتنوعة من اجل التعارف معرفة ومعروفا)
ولا تتفاضل عند الله إلا بالتقوى نفيا للتفاضل بالعرق أو بالطبقة أو بالجنس:
عدل الإسلام غاية مثلى.

و”النسبة إلى الإسلام” لا تعني نفي غير المسلمين بالمعنى الفقهي للكلمة بل هي تشمل كل البشر الذين هم مسلمون بالقوة بالمعنى القرآني، لأن الإنسان فطر على الإسلام، ولأن القرآن يعلل التعدد الديني بكونه، شرط التسابق في الخيرات (المائدة 48)،وشرط الاختيار الحر للمعتقد بعد تبين الرشد من الغي.

فتكون دولة المسلمين بهذا المعنى دولة كونية تشمل كل الأديان وحتى المشركين عملا بالبقرة 63 وبالمائدة 69 وخاصة بالحج 17 ما يعني أن كلمة “إسلامية” لا تستثني غير المسلمين حتى بالمعنى الفقهي، والدليل دستور الرسول الذي هو عقد حول وظائف الدولة التي لا تتدخل في عقائد أقلياتها بل تحميها.

وحتى في عصور الانحطاط ما يعترف به العدو قبل الصديق هو أن دولة الإسلام حافظت على هذه الفضيلة بحيث إن كل المذاهب المسيحية واليهودية وحتى معتقديها لم يجدوا حماية ورحمة أمام الوحشية والهمجية الغربية الوسيطة والحديثة إلا فيها:
في تصفية مسلمي الأندلس ويهودها وسطيا
وفي تصفية يهود ألمانيان حديثا
كانت دار الإسلام ملجأهم.

والمعلوم أن دولة الإسلام ليست ثيوقراطية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) وأن الثيوقراطية مقصورة على التشيع ولا يقول بها التسنن.
فالمرجعية في التشريع من القرآن والسنة لكن لا الحكام لهم وصاية وحق إلهي في الحكم ولا رجال الدين لهم سلطة وساطة بين المؤمن وربه لأن العلاقة بينهما مباشرة.

لو كانت الحكومات العربية التي “تطبع” رسميا مع إسرائيل حكومات شرعية تعبر فعلا عن إرادة شعوبها لكان ذلك ذا دلالة على التطبيع.، لكنها كلها دون استثناء مغتصبة للحكم بالانقلاب والفرض الخارجي والابتزاز بسبب التبعية في الرعاية والحماية.
لذلك فهي تدل على عدم التطبيع في حقيقة الأمر.

فمن يصدق أن غفير الإمارات حاكم معبر عن إرادة شعب وأن الإمارات دولة وأن أهلها شعب حر وقادر على التعبير الحر عن إرادته؟

والثابت أن ما “التطبيع” هو مع الغفراء الذين نصبتهم إنجلترا ويقودهم بلار والنخب التي تأكل من فضلات موائدهم ومنهم من هو فلسطيني صار يسب الفلسطينيين ويعتبرهم إرهابيين.

وفي الحقيقة كان يمكن أن يبقوا على “التطبيع” غير رسمي وكان يمكن ألا يتسابق هؤلاء على نيل رضا إسرائيل وإيران وكل من يدينون له بوجودهم الذي تبين أنه إلى زوال قريب دون أدنى شك لولا فهمهم أن هذا الزوال آت لا ريب فيه وأنهم يحتاجون لمزيد الاحتماء خوفا من ظاهرتين مفزعتين لهم جميعا.

الأولى هي ثورة الحرية والكرامة أو ما بسببه أسسوا الثورة المضادة بفرعيها الذي تقوده إسرائيل والغرب والذي تقوده إيران والشرق.

والثانية هي نجاح تركيا في استرداد قوتها وذاتها أو ما بسببه يسعون لتكون حلف علني ورسمي ضدها: فالأولى غزت العقول والقلوب لدى كل الشعوب والثانية أنتجت نموذج النجاح الممكن.

لذلك اعتبرت الزوبعة حول “تطبيع” محمية الأقزام مع من يعلم أن وجوده مؤقت مهما حاول تأخير الحسم لأن الإقليم شرع في وضع شرطي الاستئناف أي ثورة التحرر من الاستبداد والفساد داخليا واستكمال ثورة التحرير من الاستعباد والاستضعاف خارجيا ونموذج النجاح بالجمع بين التأصيل والتحديث المستقل.

وبهذا المعنى فرسمية التطبيع والتسابق بين الحكام الغفراء والنخب العملاء من أولى علامات نجاح الثورة والنموذج.

فالغفراء والعملاء وحماتهم صاروا متأكدين أن إخفاء التطبيع لم يعد نافعا لأنه لم يعد قابلا للتصديق ولأن رسميته هي آخر طلقة في جعبتهم لأن المؤثر هو عاملا الثورة والنموذج.

وإذن فعلنية التطبيع ليس فعلا بل هو رد فعل على انتشار النزوع الثوري في كل شعوب الإقليم والانبهار المصاحب له بالنموذج التركي الذي تمكن من الجمع بين التحديث الديموقراطي غير التابع والتأصيل الذي تخلص من شوائب علقت بالإسلام وقيمه خلال فترة الانحطاط والضعف فحرف قيمه وعناصر القوة فيه.

لا أحد ممن تحالف لإسقاط تركيا وتحويلها إلى “رجل” أوروبا المريض بداية من منتصف القرن السادس عشر إلى سقوط الخلافة بوسعه الآن أن يتحدى تركيا حتى لو اجتمعوا لأنها بسبب الظاهرتين الجديدتين -الثورة والنموذج- صارت قادرة على تحريك كل المسلمين فتجعل الحرب عليها كونية وتربحها حتما.

ولا يتصورن أحد أن الولايات المتحدة ستدخل أي حرب ضد المسلمين مستقبلا وذلك لعلتين:

خطة كسنجر فشلت فشلا ذريعا فأمريكا خسرت بعد 11 سبتمبر كل قدرة على خوض حرب ضدنا لأن اقل شعب من المسلمين حداثة اعجزها فكيف إذا اجتمع التحديث والتأصيل؟

لن تستطيع الصمود أمام الصين من دون حيادنا على الأقل.

وأخيرا فلا أظن استراتيجيي أمريكا أقل فهما مني للوضعية الجيواستراتيجية التي ستفرض عليها الصدام مع الصين إذا كانت تريد البقاء قوة عظمى فضلا عن القوة الأولى من دوننا.
ولما كانت قد عجزت عن إخضاعنا فهي مضطرة لمهادنتنا طلبا للحياد وطمعا في الحلف معنا:
وهذا مصلحة مشتركة بينها وبيننا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق