المقالات

تجديد دور المثقف في عصر رقمي وعالم متغير(إبراهيم القادري بوتشيش)_1_

1- أسئلة وفرضيات أولية
كيف يمكن تجديد دور المثقف في عصر رقمي وعالم متغير؟
سؤال نعتقد أنه راهني بامتياز، يفرض نفسه على لحظة تاريخية جديدة، يعاد فيها تشكيل دور المثقف بفعل التحولات السريعة التي يعرفها العالم المعاصر، إن على المستوى السياسي أو على مستوى الطفرة التكنولوجية وطفرة التشبيك وتقنيات التواصل أو على صعيد الانخراط في مجتمع المعرفة، وما يترتب عن ذلك من انقلاب في مفاهيم المثقف وأدواره المطلوبة.
ينطلق هذا السؤال من إحدى قواعد فلسفة التاريخ، التي ترى أن رحلة الحضارات وانتقالها من مستوى تواصلي إلى مستوى آخر، يستلزم التشخيص والبحث في كيفية التعبير عن حالة الوعي بتلك النقلة، عبر الوسائل التواصلية المتاحة، وأن كل تحول تاريخي انتقالي يستلزم إعادة صياغة القول في مفهوم المثقف ودوره.
يستند السؤال أيضا إلى قاعدة النقد الذاتي التي ترى أن فكر المثقف وآليات اشتغاله ينبغي أن تخضع – من مرحلة لأخرى- لعملية اختبار وفحص ومساءلة، لكسر الرتابة والقيم الجاهزة، ومواكبة تحولات المرحلة الجديدة. ونحسب أن مرحلة التحولات التاريخية الكبرى، ومن بينها الحالة الراهنة التي انتقلت فيها البشرية إلى مربّع عالم متعولم، وعصر رقمي،
وانتقل المجتمع العربي بعد زلزال 2011 المعبّر عنه بالربيع العربي إلى عتبة زمن جديد، وإعادة تشكيل للخارطة السياسية التي بعثرت أوراق الانتقال الديمقراطي، تشكل محكّا حقيقيا لامتحان قيمة الدور الذي يقوم به المثقف اليوم، وتشريحه بمبضع النقد والمراجعة في ضوء هذه المتغيرات الجديدة، ووضع الأصبع على مواطن العطب التي تكتنفه، وتعديل ما يستوجب الصواب، ثم تقديم البدائل والتصورات المحسوبة، لضخّه بطاقة جديدة، وإعادة ترتيب آليات اشتغال المثقف بما يجعله أقدر على التكيّف مع مستجدات الواقع و”نوازل” التطور المعرفي، وترويض أدواره بما يلائم التحولات التاريخية، وتدبير المرحلة الجديدة تدبيرا فكريا ملائما، وتأسيس قواعد جديدة في الفعل الثقافي العربي، واستنبات ثقافة جديدة تصبو إلى زحزحة المواقف والقناعات الراسخة، والثوابت، واليقينيات، والمطلقات السماوية منها والأرضية، وإعادة النظر في المقدمات والخيارات الناظمة للعمل الثقافي.
ترتكز فرضياتنا أيضا إلى إحدى المقولات السوسيولوجية التي نحتها المفكر الفرنسي بورديو Bourdieu، رفع فيها من قامة المثقف، وجعله محرّكا للتاريخ، ومساهما في نحت منعرجاته الكبرى، حين أكد أن “أقوال المثقفين تسهم في صنع التاريخ وفي تغيير التاريخ”؛ وإن كان العالم العربي لا يزال على مستوى خريطة البحث والدرس يشكو من شحّ الدراسات التي تختبر هذه المقولات، وتسبر أغوار دور المثقف في زمن التحولات التاريخية، والمنعطفات الكبرى (خاصة منعطف الزمن الرقمي)، بهدف استنباط وإبداع أنجع الخيارات الثقافية التي تجعله إيجابيا وفاعلا في حفر مجاري تلك التحولات، ومشاركا في بناء معمارها.
ومن الفرضيات الأولية التي نؤسس عليها النظر كذلك، لتشريح دور المثقف في ظل التحولات التاريخية التي يشهدها العالم، أن مهمة المثقف لا تكمن في تغيير المجتمع؛ وهي الفكرة التي ظلت سائدة ردحا طويلا من الزمن في أوساط المثقفين، بل تتجسد مهمته في فهم كيفية تغييره. ومن ثمّ، فإن التحولات هي التي تحدد دور المثقف، وليس الأخير هو الذي يحدّد دوره فيها بناء على مقاسه الخاص. وتأسيسا على ذلك، نقترح بسط النظر في مسألة تجديد دور المثقف انطلاقا من عمق التحولات العالمية، وخاصة مجتمع المعرفة، من خلال مثلث إشكالي على النحو التالي:
1- يتمثل الضلع الأول من المثلث الإشكالي في البحث عن تصورات لتجديد آليات اشتغال المثقف من خلال التواصل الشبكي المنفتح، بدل الاقتصار على الإنتاج الورقي، وهي الآليات التي تسمح له بالتواصل مع أكبر جمهور افتراضي، ليصبح متفاعلا معهم، وينتقل المتلقي من مربّع المستهلك لمقولات المثقف إلى مشارك في إنتاج الفعل الثقافي؛
2- مراجعة المشاريع الفكرية للمثقف بما يناسب القضايا المعرفية المستعجلة، من قبيل التفكير في تجاوز أعطاب الأطوار الانتقالية للمجتمعات العربية، وتخصيب أرضية الانتقال الديمقراطي، وآليات الإصلاح الديني، والمشاركة في إيجاد حلول للصراعات الإثنية والطائفية، وتطعيم كل هذه القضايا المستعجلة بأسئلة إبداعية تراعي المتغيرات الدولية والإقليمية.
3- يرتكز الضلع الثالث من سؤال تجديد دور المثقف العربي على تغيير ” مكان” وجوده، من خلال توسيع مساحات حضوره، وتجاوز الحضور التقليدي داخل أسوار الجامعات ومقرّات الأحزاب ومكاتب النقابات، إلى الميادين والساحات العمومية، للمشاركة في الحركات الاحتجاجية السلمية الحضارية، والحلقات النقاشية الفكرية، وإلقاء المحاضرات في قلب الميادين، على غرار ما قام بعض المثقفين الأمريكيين الذين انخرطوا في حركة Occupy wall street من أمثال نعومي كلاين وجيفري ساكس، والروائية الكندية مارغريت أتوود، وعالم اللسانيات الكبير نعوم تشومسكي الذي ألقى محاضرة في ساحة الاحتجاج ببوسطن. لذلك أحسب أن تجديد دور المثقف محكوم بجملة أسئلة يمكن اختزال أهمها في ثلاثة أسئلة مركزية:
1- إلى أي حد تشكّل المتغيرات العالمية، خاصة هيمنة مجتمع المعرفة والعصر الرقمي، موجها ناظما جديدا لأدوار المثقف؟ وكيف ينعكس ذلك في إعادة مراجعة مفاهيمنا للمثقف ودوره؟
2- كيف أثّر الوضع الإقليمي بعد ثورات الربيع العربي في بناء ذهنية عربية جديدة تحتّم مراجعة أسلوب أداء المثقف وآليات اشتغاله، وتأسيس مرجعية جديدة لتوجهاته وهو يقف على عتبة تحولات كونية وإقليمية ما فتئ إيقاعها يتسارع منذ بداية الألفية الثالثة؟
3- ما هي حدود القول بأدوار جديدة للمثقف العربي في سياق خيار استراتيجي له ملامحه وعناوينه المتجسدة في حضوره في مواقع التواصل الشبكي، ووجوده في الساحات والميادين للدفاع عن قيّم الحرية والديمقراطية، وممارسة دوره التنويري حفاظا على مكاسب الثورات العربية؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق