المقالات

الوعي والزمن والهجرة: أو أزمة الوعي التاريخي (إدريس_أوهلال)

يرتبط لغز الوعي بلغز أعقد منه هو الزمن، فنحن جميعاً نختبر وعينا عبر الزمن، فهما حقيقة واحدة بوجهين. ويرتبط الوعي والزمن بدورهما بلغز ثالث لم تفهمه عبر التاريخ إلا الأمم التي صنعت حضارات كبرى أو التي ساهمت في صنعها من خلف ستار تَلَبُّس الأجسام الجماعية للأمم وهو الهجرة!
ثلاثية الوعي والزمن والهجرة تعبر عن أزمة عندما يختلّ نظامها في وعي وإرادة الفرد والجماعة والأمة، أو تُعَبِّر عن مشروع تاريخي عندما تنتظم في وعي وإرادة الفرد والجماعة والأمة بمقومات العمق والتكامل والشمولية والاستمرارية.
يبدأ الوعي، مثلما يبدأ الزمن عند صاحبه، بسيطاً وأولياً، ثم إذا كُتب له أن ينمو ويتطور، يتقلب في أطوار من النمو تبدأ باللاوعي ثم الوعي المعاشي ثم الوعي السياسي ثم الوعي الاجتماعي لينتهي إن كُتب له أن يُدرك ذلك إلى الوعي التاريخي.
فيما يلي سُلّم نضج الوعي مع سلم نضج إدراك الزمن الموازي له:

_اللاوعي:
هنا الغياب المطلق للزمن ولأي شكل من أشكال الوعي.. وهنا يتطابق نمط وجود الإنسان مع نمط وجود الحيوان، لأن أحد الفروق الأساسية بينهما هو الوعي. وصناع اللاوعي بارعون في إبقاء الناس أكثر الناس في هذا القاع.

_الوعي المعاشي:
ويقابله زمن المعيش اليومي، هنا أدنى مستويات الوعي.. وهو بئيس ولحظي منحصر في حدود حرائق المعاش اليومية والانشغال بالأجر آخر اليوم والراتب آخر الشهر والترقيات آخر السنة وبخصوصيات الأشخاص والأحداث.

_الوعي السياسي:
ويقابله الزمن السياسي القائم على دورات الولايات التي تمنح بعض السلطة (دورات من ثلاث أو أربع أو ست سنوات مثلا).. هو وعي بالسلطة في حدودها السياسية، أي سلطة فئة الخيل والبغال والحمير، المُرَوّضة منها والمتوحشة، والتي لا تصلح إلا للركوب أو الزينة، الذين يعتقدون في غيبوبة سعيدة أنهم يمتلكون سلطة، أو فئة الواعين بحدود سلطتهم وباللعبة وقواعدها، فيقومون بالأدوار المرسومة لهم ويعملون على قضاء مصالحهم الشخصية خلال دورة ولايتهم ثم يرحلون.

_ الوعي الاجتماعي:
ويقابله الزمن الاجتماعي، زمن يمتد فيه التغيير والوعي به لجيل أو بضعة أجيال ثم يتوقف الوعي. وهو نوعان وعي باللعبة وقواعدها الخاصة بحقل معين، ووعي اجتماعي أوسع وأشمل عابر للحقول.. إنه وعي بأفق محدود بحدود جيل أو بضعة أجيال لا أكثر في أحسن حالاته، ومزبلة التاريخ مليئة بهذا النوع من المشاريع غير العابرة للأجيال.

_الوعي التاريخي:
ويقابله زمن الهجرة بمفهومها العميق والواسع العابر لكل أبعاد الزمان والمكان، وهو الوعي الذي نحصل عليه عندما نرى الأحداث من أعالي التاريخ لا من أسافل الأحداث اليومية، ونقرأ الأفكار مع تاريخها الاجتماعي لا مجردة عنه، ويمتزج بالإرادة الجماعية الحرة العابرة للأجيال.. لا شيء في هذا العالم أقوى من اجتماع الوعي التاريخي والإرادة الحرة والقدرة الكافية والمشروع العابر للأجيال في “أمة” يُتقن أفرادها التفكير كمهاجرين والتحرك كمهاجرين وكل أراضي الدنيا هي أرض ميعاد بالنسبة لهم! وفي المقابل لا شيء أكثر بؤساً من مشروع يزعم على مستوى الخطاب أنه تاريخي لكن استراتيجيته في المواجهة إطفاء حرائق يومية وعود أبدي لنفس الروتين القاتل!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق